الانتخابات الصهيونية.. البقاء للأكثر إجراماً

الانتخابات الصهيونية.. البقاء للأكثر إجراماً


من المفارقة أنه منذ أن أعلن عن حل البرلمان وتبكير الانتخابات الصهيونية، ظهر ما يؤشر على اهتمام بعض النخب المرتبطة بدوائر صنع القرار في السلطة الفلسطينية وبعض أنظمة الحكم في العالم العربي بالنتائج المتوقعة لهذه الانتخابات. ومن أسف، فقد جاء هذا الاهتمام من باب الرهان على مخرجات هذه الانتخابات، حيث مازال هناك من يعتقد أن سقوط رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو سيفضي إلى توفير الظرف الموضوعي الذي قد يسمح بالبدء في عملية سياسية تفضي إلى حل الصراع مع الكيان الصهيوني. إن ما يثير الإحباط هو أن الجدل الدائر في العالم العربي حول الانتخابات الصهيونية لا يأخذ بعين الاعتبار التطورات اليومية المتعلقة بالانتخابات، والتي تدلل بشكل لا يقبل التأويل أن أي تحول ستسفر عنه هذه الانتخابات لن يفضي إلى تغيير تعاطي الكيان الصهيوني مع القضية الفلسطينية والعالم العربي بشكل عام. بل إن هناك ما يؤشر على أنه في حال حدث تغيير، فإنه سيعزز من قدرة الكيان الصهيوني على التشبث بمواقفه الرافضة للاستجابة لمتطلبات التسوية السياسية للصراع في حدها الأدنى. إن التحول الأبرز الذي طرأ في الكيان الصهيوني تمثل في توحد حزب العمل، الذي يدعي تمثيله لـ«معسكر السلام» الصهيوني مع حزب «هتنوعاه»، الذي تتزعمه وزيرة القضاء «تسيفي ليفني»، مع العلم أن هذا الحزب يدعي أنه من الأحزاب التي تمثل الوسط. والمفارقة أن «إسحاق هيتزوغ»، زعيم حزب العمل، قدم هذه الخطوة على أنها ستضمن في النهاية دفع عملية التسوية بشكل كبير. وهناك ما يؤشر على أن قيادة السلطة وبعض الأطراف العربية قد انطلى عليهم مزاعم هيرتزوغ. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل حقاً تصلح ليفني لتكون جزءاً من قيادة معسكر «السلام». قد لا يعرف الكثيرون في العالم العربي أن شغل ليفني الشاغل هو التباهي بسيرة والدها إيتان، قائد شعبة العمليات في منظمة «إرجون»، التي نفذت مجزرة «دير ياسين» في 1948/4/9م. إيتان هذا، الذي أطلق عليه زملاؤه من سفلة الإرهابيين «إيتان الرهيب» بسبب الطابع السادي للفظائع التي كان يرتكبها، والتي جعلته لعقود مرشداً لمنتسبي الوحدات الخاصة في الجيش الصهيوني.

وبعد تسرحها كـ«مقاتلة» في «الموساد» اقتفت أثر والدها وانضمت لحزب «الليكود»، أكبر أحزاب اليمين، ثم شاركت شارون في تشكيل حزب «كاديما»، لتنسحب منه بعد ذلك وتشكل حزب «هتنوعاه»، والآن بعد أن طردها نتنياهو تنضم ببساطة إلى حزب «العمل». وعلى الرغم من التحولات الحزبية التي طرأت على مسيرة ليفني، إلا أن شيئاً واحداً لم يتغير لديها، ألا وهو حماسها لإهراق دماء الفلسطينيين. فبصفتها وزيرة خارجية خرجت عن طورها في الدفاع عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الكيان الصهيوني خلال حرب غزة 2008، وكوزيرة للقضاء منحت جيش الاحتلال كل «المسوغات القضائية» لتنفيذ جرائمه في الحرب الأخيرة على غزة. ومن «النجوم» الذين تمكن حزب العمل من اصطيادهم لتعزيز «معسكر السلام» وزير الحرب الأسبق «شاؤول موفاز»، الذي كان ليكودياً وزعيماً لحزب «كاديما». وتكفي هنا الإشارة إلى ما نقلته صحيفة «هارتس» في 2011/12/5م، عن ضباط خدموا تحت إمرة موفاز كرئيس لهيئة أركان الجيش خلال انتفاضة الأقصى، حيث أكد هؤلاء الضباط أن موفاز كان يأمر قادة الألوية في الجيش بألا يقل عدد القتلى الفلسطينيين في اليوم الواحد عن سبعين. قصارى القول، إن التحولات الحزبية في مسيرة ليفني وموفاز تدلل في الواقع على بؤس الرهان على الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب الصهيونية، لاسيما بعد حل الكنيست وتبكير الانتخابات. لاسيما أن بورصة أسماء المرشحين لقيادة «معسكر السلام» لا تنحصر في زعيم حزب العمل، فهناك من يدعو إلى تكليف وزير المالية المُقال «يئير لبيد»، زعيم حزب «ييش عتيد» برئاسة قائمة انتخابية تمثل كل الأحزاب المنضوية تحت «معسكر السلام»، بحجة أن مواقفه هي الأكثر تمثيلاً لـ«الوسط»، الذي يلبي تطلعات معظم الصهاينة. ولا داعي للتذكير بأن لبيد أصر على أن يتم عقد الاجتماع التأسيسي لحزبه في مستوطنة «أرئيل»، أكبر المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ليوصل رسالة مفادها أن تفكيك المستوطنات ليس وارداً لديه. ولبيد، كوزير مالية، هو الذي فتح صنبور الأموال لرفد المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس. وقد يحتاج المرء إلى «ميكروسكوب» لكي يتعرف على الفروق في مواقف «ييش عتيد» و«الليكود». فخلال وجوده في الحكومة، حرص لبيد على التأكيد أن الصراع مع الفلسطينيين لن يحل، وأن حله لا يتوقف أصلاً على الموقف الصهيوني، بل بسبب «التعنت الفلسطيني». ومن اللافت أنه قد طرح اسم «يوفال ديسكين»، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية «الشاباك» لكي يقود قائمة موحدة تمثل «معسكر السلام». و«الشاباك» هو الجهاز الذي يتولى نيابة عن الحكومة الصهيونية إدارة سياسة القمع ضد الشعب الفلسطيني، وديسكين تحديداً يوصف في الكيان الصهيوني بأنه «مهندس» سياسة الاغتيالات خلال انتفاضة «الأقصى» وبعدها. ومن تابع تغريدات ديسكين على حسابه على «تويتر» خلال الحرب، فقد لاحظ أنه كان شديد الانتقاد للحكومة والجيش لأنه لم يتم استخدام قوة أكبر لحسم المواجهة مع المقاومة. فللأسف مرة أخرى، لا تعني الحقائق شيئاً بالنسبة لكثير من الفلسطينيين والعرب، الذين يهتمون بالفروق الباهتة بين قوى اليسار واليمين في الكيان الصهيوني فحتى قادة المستوطنين يقرون أن المشاريع الاستيطانية بلغت الذروة تحديداً في عهد الحكومات التي شكلها حزبا «العمل» و«كاديما»، اللذان يمثلان «اليسار» و«الوسط».

ويتضح مما سبق أن الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب والحركات السياسية الصهيونية تكاد تكون معدومة، حتى وإن وجدت فهي لا تعني شيئاً بالنسبة للفلسطينيين. إن أقصى ما يمكن أن يقدمه أكثر الأحزاب الصهيونية «اعتدالاً» لا يمكن أن يقبله أكثر الفلسطينيين مرونة. من هنا، فإن تشبث بعض الفلسطينيين والعرب بالرهان على الفروق الأيديولوجية بين الأحزاب والحركات الصهيونية هو رهان في غير محله، ويسهم فقط في تمكين الصهاينة من تكريس الأمر الواقع على الأرض.

من هنا، يتوجب على الفلسطينيين على وجه الخصوص، أن يتوقفوا عن الرهان على تحولات الواقع السياسي في إسرائيل. فهذه التحولات لن تغير من نمط التعاطي الصهيوني معنا، بل على العكس تماماً. إن الانتخابات الصهيونية، سواء أفضت نتائجها إلى مواصلة النخب الحالية إدارة مقاليد الأمور في تل أبيب، أو أسفرت عن تمكين نخبة أخرى، فإنها تسهم فقط في إنجاح إستراتيجية إدارة الصراع الصهيونية الهادفة إلى تأبيد الاحتلال.

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.

أعلى