• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأمانة في الرسائل

الأمانة في الرسائل

الرسالة وديعة أودعها صاحبها رسولًا يوصلها إلى الجهة التي يريدها، ولا يتم له هذا المطلب إلا إذا كانت الأمانة صفة ملازمة لهذا الرسول تُحفظ بها الرسالة وتبلغ من أرسلت إليه سالمة من الخيانة والتقصير.

الأمانة في الرسالة الكبرى:

تفضل الله على عباده ورحمهم بإرسال رسل يتلون عليهم آياته مبيِّنين لهم طريق الحق من طريق الباطل، قال تعالى: {رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].

وقد اصطفى الله لهذه الرسالة والأمانة العظيمة خيرة خلقه من الملائكة ومن الناس، يقول الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْـمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 75} [الحج: 75].

فاختار من الملائكة سيدهم جبريل عليه السلام، ووصفه بصفة من هو حقيق بالقيام بهذا الأمر العظيم، فقال تعالى: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ 19 ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ 20 مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21].

واجتبى من البشـر أمناء منهم ليبلغوا هذه الأمانة إلى عباده بألسنتهم - أي: بلغاتهم -، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [إبراهيم: ٤].

وذكر هؤلاء الرسل لأقوامهم أنهم أمناء في تبليغ دين الله إليهم وأظهروا حرصهم على نصحهم وجلب الخير لهم، فيقول كل منهم لقومه: {أَنْ أَدُّوا إلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18].

فقام هؤلاء الرسل من البشر بهذه الأمانة خير قيام، فلما ماتوا قام أتباعهم بحمل المهمة على إثرهم.

إلا أن بني إسـرائيل قد خصوا بكثرة الأنبياء كلما مات نبي خلفه آخر. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسـرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي»[1].

وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي آخر الأمم، ونبيها خاتم الأنبياء، فتوفي بعد أن بلغ رسالة ربه واستشهد الناس على ذلك، فورثه أصحابه من بعده في حمل هذه الأمانة العظيمة إلى الناس.

وللصحابة من الفضل والمكانة، والخيرية والاصطفاء، والدين المتين والعقل الرصين، والعلم الراسخ والقصد الصحيح، والحرص الكبير والهمة السامية ما جعلهم أهلًا لحمل هذه الأمانة العظيمة؛ لأنهم تربوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر ذلك إلا حاقد مريض القلب.

لقد أخذ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم راية البيان والبلاغ للخلق بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم فكانوا حقًا هم الأمناء الأوفياء. فنقلوا شـريعة الله تعالى - قرآنًا وسنة - من منبعها الصافي من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا كتمان، وحفظوها ووعوها فأدوها كما سمعوها.

فحفظ الله بهم كتابه الكريم الذي قال فيه: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر: ٩]، حيث حفظوه في الصدور، وحفظوه في السطور، ولم يتطرق إلى ذلك الحفظ خلل، ثم نقلوه للأمة كما أنزل.

وقف عمر على قبر أبي زيد ثابت بن زيد - وكان ممن حفظ القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: رحمك الله أبا زيد! لقد دفن اليوم أعظم أهل الأرض أمانة[2].

وحفظ الله بهم كذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يكتموها، ولم يكذبوا فيها، ولم يحرفوها حتى وصلت إلى الناس بيضاء خالصة، ثم حدث الكذب بعد جيل الصحابة ممن ضعف دينهم أو أرادوا الكيد للإسلام، غير أن الله قيض لحديث رسوله صلى الله عليه وسلم رجالًا أخرجوا الدخيل وبينوا الصحيح من العليل.

فكان للصحابة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر نصيب وهو قوله: «نضـر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فربَّ مبَّلغ أحفظ له من سامع»[3].

فنضـر الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

وقد حرصوا - رضوان الله عليهم - على نقل السنة بدقة فائقة في ألفاظها ومعانيها فلم يعترِ حفظهم التخليط والتبديل.

فعن عروة قال: «حج علينا عبدالله بن عمرو فسمعته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون»، فحدثت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن عبدالله بن عمرو حج بعد فقالت: يا ابن أختي! انطلق إلى عبدالله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه، فجئته فسألته فحدثني به كنحو ما حدثني فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت فقالت: والله لقد حفظ عبدالله بن عمرو[4].

وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج، فقال رجل: الحج وصيام رمضان قال: لا، صيام رمضان والحج. هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[5].

وقد جاءت روايات أخرى عن ابن عمر يقدم فيها الحج[6].

قال النووي: «والأظهر - والله أعلم - أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضًا على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر: لا ترد علي ما لا علم لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه ولا تقدح فيما لا تتحققه، بل هو بتقديم الصوم هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر»[7].

لكن ابن حجر رأى رأيًا آخر فقال: «إن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضـر ذلك ثم نسيه، ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده: أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة - من وجه آخر عن حنظلة - أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أنه روي بالمعنى. ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، فيقال: إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟! هذا مستبعد. والله أعلم»[8].

وهذا ابن عون يروي عن محمد بن سيرين أن أنس بن مالك كان إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا كان يقول: أو كما قال[9]. وهذا من تحريه.

ومما يدل على أمانتهم: تثبتهم فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يعملوا شيئًا بناءً على حديث لم يتأكدوا من صحته وسماعه.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك»[10].

ثم جاب أصحاب بعض رسول الله صلى الله عليه وسلم - لتأدية هذه الأمانة - الأقطار ليبلغوا العرب والعجم، حتى وصلت إلينا هذه الأمانة وهذا الخير كما أخذوه، فعليهم رضوان الله ورحمته، فكم لهم من يدٍ على هذه الأمة، وهل وصل إليها الخير إلا عن طريقهم!

«فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم والمعارف والعبادات، ودخول الجنة والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة عليه فضل إلى يوم القيامة»[11].

ولا أعجب ولا أظلم ولا أجحد ممن يطعن فيهم ويتهمهم بالخيانة وكتمان شيء من الدين قرآنًا كان أو سنة، أو حَمْل ما تهواه نفوسهم وترك ما لا تهواه، وهؤلاء الطاعنون لا يريدون إلا الطعن في الدين، ولكنهم لم يجرؤوا على ذلك فطعنوا في حملته وأمنته.

قال أبو زرعة: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة»[12].

ثم خلف الصحابة الكرام في تبليغ هذه الرسالة المحدِّثون من التابعين، فسمعوا من الصحابة فحفظوا ودونوا ورحلوا وتحروا فيما نقلوا، وسلموا الأمانة إلى من بعدهم.

قال اللالكائي عن أصحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشـريعة، وانحفظت بهم أصول السنة، فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة، والدعوة لهم من الله بالمغفرة، فهم حملة علمه أي رسول الله - ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه، فحري أن يكونوا أولى الناس به في حياته ووفاته»[13].

وقد دققوا رحمهم الله تعالى في حمل السنة، ولاسيما عندما ظهر الكذب ودخل بعض أهل الكتاب والمجوس الإسلام ظاهرًا ليهدموه من الداخل بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاق الأحاديث، فنشأ حينئذ علم جديد من علوم الإسلام خص الله به هذه الأمة وهو علم الإسناد.

عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة[14] قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»[15].

قال عبدالله بن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»[16].

فرحل المحدثون إلى البلدان التي هي مظنة وجود حفاظ السنة آخذين عن أهل الصدق والأمانة الموصوفين بالعدالة في دينهم، والضبط والإتقان في رواياتهم. فعن ورقاء قال: قلت لشعبة: لم تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يزن فاسترجح في الميزان فتركته[17].

وقال أبو عمار الحسين بن حريث: «قلت للشقيقي: سمعت عن أبي حمزة كتاب الصلاة؟ قال: سمعت، ولكن نهق حمار يومًا فاشتبه عليَّ حديث فلا أدري أي حديث هو؟ فتركت الكتاب كله»[18]. وهذا من شدة تحريهم وأمانتهم رحمهم الله.

ولقد عُرف بسبب هذا العلم حال الراوي جرحًا وتعديلًا، فصار الراوي الذي يأتي الحديث من طريقه معروفًا عندنا بسلامة دينه أو عدمها، واستقامة روايته أو اعوجاجها، بفضل جهود هؤلاء الرجال ودقتهم.

ولم يكن جرح الرجل أو تعديله مبنيًا على هوى أو عداوة أو قرابة، وإنما قام على صدق صحيح، وأمانة عظيمة، فربما ضعَّف الرجل أباه أو ابنه، وجعلوا كل ذلك دينًا وقربة إلى الله تعالى، وهذا من الأمانة التي لم يعرف لها التاريخ مثالًا في أمة غير هذه الأمة.

قال أبو حاتم: «لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة، فقال له رجل: يا أبا حاتم، ربما رووا حديثًا لا أصل له ولا يصح؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة؛ ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها ثم قال: رحم الله أبا زرعة كان والله مجتهدًا في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم»[19].

وكان طاووس يعد الحديث حرفًا حرفًا، ويقول: تعلم لنفسك؛ فإن الناس قد ذهبت منهم الأمانة[20].

وقال يحيى بن سعيد: «رب رجل صالح لو لم يحدث كان خيرًا له، إنما هو أمانة، تأدية الأمانة في الذهب والفضة أيسـر منه في الحديث»[21].

وقال ابن علية: «إن الجرح أمانة ليس بغيبة»[22].

فرحمهم الله ما أحسن ما فعلوا، وأعظم ما قدموا وأبقى ما محَّصوا فيه ودققوا، وجزاهم الله عن الأمة خير الجزاء. ولقد أبقى لهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا لسان صدق في الآخرين، ونرجو لهم في الآخرة حسن المنقلب وكرم الوفادة، وأن يكرمنا معهم بفضله ومنته.

عن محمد الحبحابي قال: «لما مات شعبة أريته بعد سبعة أيام، وهو آخذ بيد مسعر، وعليهما قميصا نور، فقلت: يا أبا بسطام، ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: بصدقي في رواية الحديث، ونشـري له، وأدائي الأمانة فيه»[23].

الأمانة في رسائل الناس:

عندما تتباعد المسافات وتتفاوت المقامات، وتكثر الانشغالات، لا يستطيع الإنسان - أو يصعب عليه - الوصول إلى غيره ممن له حاجة إليه، فيلجأ إلى اتخاذ الرسالة والرسول نائبًا عنه في تحقيق مأربه وتحصيل مطلبه، فيحمل الرسول حاجة مرسله في خطاب شفهي أو كتاب خطي.

ومن تلك الرسائل: رسائل الأحباب والإخوان والأقارب، والتي قد لا يكون في بعضها إلا حروف السلام تصل إلى القلوب لتجدد رواءها ونضـرة ودادها.

قال الدميري: «ففي زوائد الروضة: يلزم الرسول أن يبلغه - أي السلام -؛ فإنه أمانة يجب أداؤها»[24].

وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة إلى الصدّيقة بنت الصديق رضي الله عنهما من جبريل، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن جبريل يقرأ عليك السلام. قالت: وعليه ورحمة الله»[25].

قال النووي: «في هذا الحديث مشـروعية إرسال السلام، ويجب على الرسول تبليغه؛ لأنه أمانة، وتعقِّب بأنه بالوديعة أشبه، والتحقيق: أن الرسول إن التزمه أشبه الأمانة، وإلا فوديعة والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء»[26].

عن أبي البختري، قال: «جاء الأشعث بن قيس، وجرير بن عبدالله البجلي إلى سلمان فدخلا عليه في حصن في ناحية المدائن، فأتياه فسلما عليه وحيياه، ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: نعم، قالا: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدري، فارتابا، وقالا: لعله ليس الذي نريد، قال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة، فما حاجتكما؟ قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام، قال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء، قال: فأين هديته التي أرسل بها معكما؟ قالا: ما أرسل معنا بهدية، قال: اتقيا الله وأديا الأمانة، ما جاء أحد من عنده إلا جاء معه بهدية، قالا: لا يرفع علينا هذا، إن لنا أموالًا فاحتكم فيها، قال: ما أريد أموالكما، ولكني أريد الهدية التي بعث بها معكما، قالا: والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال: إن فيكم رجلًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا به لم يبغِ أحدًا غيره، فإذا أتيتماه فأقرئاه مني السلام، قال: فأي هدية كنت أريد منكما غير هذه؟ وأي هدية أفضل من السلام؟ تحية من عند الله مباركة طيبة»[27].

ومن الرسائل التي تعظم فيها الأمانة: الرسائل بين الأمير وولاته ورسله، خاصة زمن الحروب مع الأعداء؛ لأن خطر انكشاف الرسالة كبير وراءه أضـرار متعدية.

فعن جندب بن عبدالله «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطًا وبعث عليهم أبا عبيدة، فلما ذهب لينطلق بكى؛ صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس، فبعث عليهم عبدالله بن جحش مكانه، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا... فلما قرأ الكتاب استرجع، ثم قال: سمع وطاعة لله ولرسوله، فخبّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب...»[28].

وقد يكون في هذه الرسائل المحمولة أسـرار وقد لا يكون، فإن وجدت تأكدت الأمانة في إيصال الرسالة، والحفاظ على أسـرارها، وإن لم يكن فيها أصبحت الأمانة في تسليمها إلى المرسل إليه.

اختيار حامل الرسالة:

وتحقيقًا للمحافظة على ما تحتويه الرسالة من أسـرار وإيصالها إلى ذويها ينبغي حسن اختيار حاملها والقائم بأدائها إلى أهلها؛ فليس كل إنسان يصلح لهذه المهمة، وعلى قدر فطنة المرسِل وحصافته يكون اختياره كما قيل:

قــــد عرفنــاك باختيــارك إذ كـا

نَ دليــلًا علـى اللبيـب اختياره[29]

فيحسن اختيار الإنسان العاقل التقي العارف بكيفية إيصال وأداء هذه الأمانة، وقد قيل:

فإن كنت ذا عقل حصيف وفطنة

فلا ترسلنَّ الدهرَ من كان خائنا

فإنك إن أرسلته عدتَ نادمًا

 إذا لم يوصل الأنبا ولم يك صائنا

ونقِّب عن المرء الأمين تكن به

على ما احتوى بيت الرسالة آمنا

كيفية أداء الأمانة في رسائل الناس:

يتحمل الرسول الرسالة من مرسلها - سواء أكانت مكتوبة أم ملفوظة - على أنها أمانة تستوجب الحفظ من الزيادة والنقصان، أو التحريف والتأويل، أو التفريط في صيانتها من التلف والانكشاف، والأخذ منها إن كان فيها شيء يؤخذ، أو قراءتها إن كانت مكتوبة، أو تسليمها إلى غير أصحابها الذين أمر بتسليمها إليهم.

عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبدالله بن الأرقم، فكان يكتب عبدالله بن أرقم، وكان يجيب عنه الملوك، فبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ثم يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه؛ لأمانته عنده[30].

ويذكر أن عبدالملك بن مروان بعث الشعبي إلى ملك الروم، فحسد ملك الروم المسلمين عليه، فبعث معه ورقة لطيفة إلى عبدالملك فلما قرأها قال: أتدري ما فيها؟ قال: لا، قال: فيها «عجب كيف ملّكت العربُ غير هذا»، أفتدري ما أراد؟ قال: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن أقتلك. فقال الشعبي: لو رآك يا أمير المؤمنين، ما استكثرني، فبلغ ذلك ملك الروم، فقال: والله ما أخطأ عبدالملك ما كان في نفسي[31].

غير أنه يجوز النظر في رسالة يخشى ضـررها - بيقين دون ظن أو تخمين - على الإسلام والمسلمين؛ ولهذا بوّب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الاستئذان باب: من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره. وساق حديث عليّ رضي الله عنه في قصة رسالة حاطب رضي الله عنه.

قال بدر الدين العيني تعليقًا على هذا التبويب: «قلت: خرّج أبو داود[32]. من حديث ابن عباس رضي الله عنه: «من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار» قلت: يخص منه ما يتعين طريقًا إلى دفع مفسدة هي أكبر من مفسدة النظر على أن هذا حديث ضعيف»[33].

وينبغي المسارعة في إيصالها دون تأخير من غير عذر - «قال الفريابي: كنت عند الأوزاعي إذ جاءه رجل فقال يا أبا عمرو، هذا كتاب صديقك من بلد كذا، وهو يقرأ عليك السلام، فقال: متى قدمت؟ قال: أمس، قال: ضيعت أمانتك لا كثر الله في المسلمين أمثالك»[34].

فإذا سلم الرسالة إلى أهلها بلفظه أو كتاب من يده وكان فيها أسـرار فيطوي أسـرار ألفاظها بالنسيان وحروف وطابها بالإخفاء والكتمان.

قال مسلم بن الوليد في الكتاب يأتيك فيه السـر:

الحزم تخريقه إن كنت ذا حذر

وإنما الحزم سوء الظنّ بالناس

إذا أتاك وقد أدّى أمانته

فاجعل صيانته في بطن أرماس[35]

وإن حامل الرسالة حينما يجهل أن الرسالة أمانة أو تقل عنده عواقب إظهار محتواها، ويحب كشف خفاياها - إن كانت خطية مخفية - يشجعه ذلك على التقصير في الوفاء بمهمته، وهذا من شأنه - إن حدث - أن يؤدي إلى الخيانات وقطع التواصل والتعاون والمعروف بين الناس، وإذكاء العداوات والإضـرار بصاحب الرسالة أو من تصل إليه أو من يذكر فيها، إذا كان فيها شيء يجب ستره ويحظر نشـره.

أما الرسول الأمين فبه يتم قضاء الحوائج، وتجنيب الناس المحذورات السابقة، فيعد موضع ثقة الناس ومهوى محبتهم حين وفّى بأمانته بينهم وإليهم.

قال جرير:

يا أيها الراكب المزجي مطيته

بلّغ تحيتنا لُقِّيتَ حملانا

بلغ رسائل عنا خف محملها

على قلائص لم يحملن حيرانا

كيما نقول إذا بلغت حاجتا

أنت الأمين إذا مستأمن خانا[36]

ومما يتعلق بهذا النوع من الأمانات تعلقًا كبيرًا: مهمة الإعلاميين ونقلة الأخبار بوسائلها المختلفة مسموعة أو مقروءة أو مرئية، فهم حاملو رسائل إلى الناس جميعًا، فمن الأمانة الحرص على التدقيق في النقل وتقصي الحقائق دون زيادة أو نقصان أو تخويف للناس في وقت الأمن أو تأمين في وقت الخوف، أو غربلة ما يسمعون أو يرون حسب مقاصد غير صحيحة شرعًا، فلا يصل إلى الناس من الحقيقة إلا النخالة، فإذا لم يفعلوا ذلك فقد خانوا هذه الأمانة التي تحملوها[37].

 

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.


[1] رواه البخاري ومسلم.

[2] انظر: سير أعلام النبلاء (1/336).

[3] رواه أحمد والطبراني والحاكم وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وهو صحيح.

[4] رواه البخاري ومسلم.

[5] رواه مسلم.

[6] صحيح مسلم كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (1/45).

[7] انظر: شـرح النووي على مسلم (1/130).

[8] انظر: فتح الباري (1/102) .

[9] انظر: كتاب التمييز للإمام مسلم (174).

[10] رواه البخاري ومسلم.

[11] انظر: منهاج السنة النبوية (6/376).

[12] انظر: الكفاية في علم الرواية (49).

[13] انظر: أصول السنة والجماعة (1/42).

[14] أي: فتنة المختار بن أبي عبيد الكذاب.

[15] انظر: مقدمة مسلم باب بيان أن الإسناد من الدين (ص14–15).

[16] انظر: المصدر نفسه (ص15).

[17] انظر: سير أعلام النبلاء (7/209).

[18] انظر: سير أعلام النبلاء (19/351–352).

[19] انظر: شـرف أصحاب الحديث (89).

[20] انظر: سير أعلام النبلاء (5/46).

[21] انظر: شـرح علل الترمذي (1/388).

[22] انظر: المصدر السابق (1/349) بتصـرف يسير.

[23] انظر: سير أعلام النبلاء (7/220).

[24] انظر: النجم الوهاج (9/301).

[25] رواه البخاري ومسلم.

[26] انظر: فتح الباري (14/185).

[27] رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن إبراهيم المسعودي وهو ثقة، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (8/44).

[28] رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي في المجمع وأبو يعلى في مسنده. وصححه ابن حجر في الفتح بمجموع طرقه(1/274).

[29] انظر: العقد الفريد (1/20).

[30] رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الكبير قال ابن حجر: وسنده حسن، انظر: فتح الباري (17/22).

[31] انظر: الطرق الحكمية لابن القيم (41).

[32] السنن، كتب الوتر باب الدعاء (1/552) برقم (1487)، قال أبو داود: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضًا.

[33] انظر: عمدة القاري (22/249) .

[34] انظر: الآداب الشـرعية (1/49).

[35]انظر: عيون الأخبار (1/42). 

[36] انظر: ديوان جرير (451).

[37] هذا المقال مختزل من كتاب «فقه الأمانة» لكاتب هذه السطور، ط مكتبة الجيل الجديد، صنعاء.

أعلى