• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الغرق والنجاة في بحر الرمال الليبي

الغرق والنجاة في بحر الرمال الليبي

لم تعد عواصف صحراء ليبيا تهب باتجاهات مجهولة للسائرين؛ فبعد ثلاثة أعوام من «ثورتها» على نظام القذافي صارت الأمور أكثر وضوحاً وبياناً، لا من صعيد نتائجها؛ فتلك صعبة الحسم نهائياً هذه الأسابيع، وإنما من صعيد اتجاهاتها وتوجهاتها.

قبل شهور لم تكن الأمور أكثر وضوحاً منها الآن؛ فقد غدت كل الأمور مكشوفة، وصار الجميع ينتظرون قرارات الرصاص الذي يظل «أصدق أنباء من الكتب».

وقرارات الرصاص هذه لم تعد ـ كما كانت في الماضي ـ رهينة موازين قوى في الميدان يمكن أن تقود إلى توقع نتائج معاركه، وإنما اختلفت جذرياً عن الماضي في تشعب تأثيراتها الخارجية، وكثرة اللاعبين، وقوة الحسم بالخارج قبل الداخل؛ فالظروف الإقليمية والدولية باتت أكثر تأثيراً من قتال الفصائل والقوى على الأرض، فـ«قرارات الرصاص» ليست رهينة بسالة هنا أو بأس هناك بالضرورة، وإنما تتداخل معها، بل ربما تهيمن عليها الإرادات الدولية التي غدت أكثر نفاذاً ونفوذاً من أحلام المقاتلين المخلصين أو حتى المرتزقة.

ليبيا ليست فريدة في منطقتها؛ فحربها الداخلية تشن من جهة باسم مكافحة الإرهاب، وفرض الشرعية، ومن جهة أخرى باسم الثورة وفرض إرادة الشعوب ضد الإملاءات الخارجية، وفي الطريق يجري الالتفات إلى شرعية برلمان انعقد بطرق مختلفة مختفياً، أو مؤتمر وطني التأم في عاصمة. محكمة تقرر، يُلتفت إليها دولياً أكثر مما ينظر الشعب لها بـ«تقديس واحترام». جيش منقسم يجيره هذا الطرف لنفسه أو ذاك.. تتقاتل كتائبه، لكن الإعلام العربي والعالمي يختار فريقاً من قواته ليسبغ عليه «شرعيته» الإقليمية والدولية. كر وفر.. اقتحام وانسحاب.

كلها تفاصيل لأزمة واحدة تتشابه في المنطقة، وربما تمتد إلى هلال واسع، يمتد من أوكرانيا حتى بوركينا فاسو! فما يقال هنا يتردد هناك.. بأقطار عديدة، تتشابه الترجمات فيما اللغات واللهجات متباينة.

ثورة، انقلاب، حق الشعوب، محاربة الإرهاب، الشرعية، إنقاذ، جيش... مصطلحات تتكرر، ولكن يبقى جوهر القضية، أن المجموعة الدولية التي صارت تهيمن على العالم لم ترد لهذه المنطقة أن تستقر، ولا أن تتصالح مع هويتها، ولا أن تحظى باستقلالها عن الغرب، ولا أن تمتلك الشعوب إرادتها، وتختار حاكميها؛ لذا فهي تظل حريصة على ألا يشب أي بلد يريد شعبه أن يتحرر عن طوقها السميك.

هنا.. في ليبيا، تدخل الناتو عسكرياً، والمنطق يقول إن هذا التدخل هو أعلى درجات انتهاك السيادة؛ وعليه فإن أوروبا وأمريكا إن كانتا قد «اضطرتا» للتدخل تحت ظرف «إنساني» يتعلق ببطش القذافي بالثورة الليبية؛ فإنه كان من المتحتم أن يكمل الأوروبيون دورهم بالبقاء حتى إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وألا يمكنوا «أزلام القذافي» من إعادة إنتاج نظامه، وإلا فما قيمة إطاحته إذن؟!

هذا التساؤل المنطقي لن تكون له إجابة ليس في ليبيا وحدها، وإنما في كل بلد رحب الغرب بتغيير فيه ثم ما لبث أن شجع الدول العميقة التي تعمل بإخلاص في زراعة حديقته الخلفية على أن تعود مرة أخرى، ضد إرادات الشعوب. لكن من السذاجة تصور أن يفعل الأوروبيون والأمريكيون هذا، وإلا صاروا «جمعية خيرية» أو «مبشرين» بقيم تقود إلى خسارتهم تفوقهم المادي وتريليونات امتصوها من دماء شعوب لم يرغب «الكبار» في نيلها حقوقها وقراراتها.

يستخدم الغرب آلة إعلامية محلية وإقليمية عملاقة لسحر عقول الشعوب، ويضغط اقتصادياً مفشلاً أي محاولة لتغريد أي دولة بعيدة عن سربه، ويستخدم أدواته في القضاء والأمن، ويحدث فوضى هنا وهناك حتى تكفر الشعوب بالحرية، فإن عجز لجأ إلى القوة الباطشة، وها هو لجأ إليها بالنهاية في ليبيا؛ حيث الحديث ساذج عن «حرب أهلية»، وإنما عن صراع بين هوية وإرادات خارجية متحالفة.

في ليبيا، بدأ الانشقاق باكراً عن نظام القذافي من قبل رجال دولته، ولقد صار لهؤلاء دور مستقبلي لا بد من قيامهم به، وهو ضمان سير «الثورة» في اتجاه لا يعادي الغرب، وقد قاموا به. لكن لأن الثورة الليبية تحولت من النضال السلمي إلى العسكري؛ فقد تشكلت كتائب مسلحة خارج هذا السياق، واندفعت الدول الإقليمية في دعم كتائب موالية للغرب، وأخرى لدعم كتائب مستقلة أو شبه مستقلة.

وقبل المعارك الأخيرة، برز الاستقطاب على النحو التالي: قوات تنتمي بشكل أو بآخر للثورة الليبية، وتنتمي بعض فصائلها لوزارة الدفاع (يعترف بها المؤتمر الوطني)، وتمثلها كتائب قوات فجر ليبيا ومجلس شورى ثوار بنغازي، وظلت تهيمن على المنطقتين الوسطى والغربية، ومعظم منطقة الجبل الغربي، وسيطرت على العاصمة الليبية وأكبر مدن ليبيا، بنغازي، فيما تهيمن قوات «جيش القبائل» وقوات العقيد الأمريكي الليبي المتقاعد خليفة حفتر (وهي قوات تنتمي بعض فصائلها لوزارة الدفاع والداخلية أيضاً، وتحظى جميعها باعتراف وتأييد من برلمان طبرق) على الجزء الشرقي من البلد، الممتد من حدود مصر حتى المرج باستثناء مدينة درنة التي تهيمن عليها قوات قيل إنها بايعت البغدادي زعيم تنظيم الدولة (يلاحظ أن خليفة حفتر آثر تأجيل معركته التي قال إنه شنها ضد الإرهاب مع درنة مفضلاً البدء ببنغازي، وبادر إلى قتال كتائب تنتمي إلى وزارة الدفاع الليبية ككتيبة معسكر 17 فبراير، وأرجأ أنصار الشريعة الذي يرفض العملية السلمية أصلاً إلى ما بعد ذلك، وهو ما يؤشر لرغبة في تغيير الواقع السياسي الذي أفرزته الثورة الليبية). كما أن ثمة قوات اتخذت خلال الفترة الماضية خطاً محايداً لاسيما في شرق سرت، وتجنبت القتال انتظاراً لما ستؤول إليه الأمور.

ولربما الخريطة العسكرية في ليبيا أكثر تشعباً والتباساً أحياناً؛ فثمت متغيرات قد تدفع بتغيير الولاءات والتحالفات، إذ إن من التبسيط القول إن هذا الاصطفاف دائم في ظل غابة قبلية تتشكل منها ليبيا تضم في مساحتها نحو 150 قبيلة، يمكن أن تؤثر في بعضها مصالح متغيرة، كما يمكن أن تجذبها إلى تحالفات أخرى قناعات ضاغطة بعدما وصل الصراع إلى حد الانكشاف والوضوح أمام الشعب الذي تضرر مدنيوه على نحو متصاعد بعد فترة من الهدنة قصرت المعارك على الكتائب والفصائل المسلحة، لكن مهما يكن من أمر فإن ما يقدر بعشرات الآلاف من المقاتلين المنضوين تحت كتائب شتى لن يضعوا السلاح بسهولة حتى إن بدا الصراع قد حسم لأحد طرفيه في المدى القصير؛ فالمعضلة العصية على الحل في نظر الطامعين باستقرار وهدوء في ليبيا أن المعركة قد صارت صفرية في ظل وضوح أرضية الصراع شيئاً فشيئاً للشعب الليبي، وانخراط الآلاف من المرتزقة في جانب، وآخر من الثوريين الراغبين في استقلال حقيقي لليبيا، لاسيما حين تتعارض الإرادة الغربية مع تلك الرغبة؛ حيث تعتبر الدول الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) خصوصاً أن ثمت مخاطر حقيقية تكتنف طريق الحسم العسكري لغير صالحها، كما يلي:

إقامة نظام يعتبره الغرب والدول المتحالفة معه مناوئاً لهما، ولا يتسق مع مصالحهما في حوض البحر المتوسط، ومنهما قضية مناهضة الإرهاب، والتعاون في وقف الهجرة غير الشرعية لأوروبا من أكبر دولة مشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، ليبيا. 

إمكانية تصدير التجربة الليبية إلى غيرها من البلدان المجاورة، كما يتحسب من احتضان نظام ينتج من خلال الحسم العسكري لحركات وقوى مشابهة في المنطقة أو عدم تعاونه مع هذا الحلف للقضاء عليها.

تصدير تجربة عسكرة الثورات باعتبارها قد أنتجت ما أخفقت فيه غيرها، بما يشجع قوى المعارضة في بعض البلدان العربية على انتهاج وسائلها غير السلمية.

وقوع نحو 41,5 مليار برميل نفط احتياطي لدى ليبيا ستضخ ما يقارب ثلاثة ملايين برميل يومياً العام القادم إن استقرت الأوضاع، في قبضة نظام لا يتمتع بعلاقات وثيقة مع شركات النفط الأمريكية المهيمنة على سوق النفط الليبي، كما سيضخ أموالاً طائلة تضمن نجاح أي حكومة نزيهة في البلاد، كما أنه سيجعل أوروبا متخوفة من هيمنته على 35% من حاجيات أوروبا من النفط المصدر إليها.

من شأن استقرار نظام لبلد يتوفر على احتياطي وإنتاج غازي هائل أن يغير أوراق اللعبة في المنطقة، لاسيما مع ازدياد احتياج دول الجوار إلى الغاز الليبي لتأمين مصادر الطاقة الدائمة كالكهرباء إلى حد التلويح بالاستيلاء عليه بالقوة من قبل إعلام بعض تلك الدول.

هذا وغيره يقود إلى الاعتقاد بأن الغرب ودولاً أخرى إقليمية لا تنظر إلى الصراع في ليبيا من زاوية «ترفية»، بل تجد نفسها «مضطرة» للتورط في دعم طرف ومنحه «الشرعية» باسم «البرلمان» و«الجيش» و«القضاء»، طارحة فكرة وكلمة «الثورة» من قاموسها تحقيقاً لتلك المصالح؛ بل لا نبالغ بالقول إن دول الغرب تنظر إلى الصراع في ليبيا على أنه صراع مصير ووجود بالنسبة لها، وبالتالي فسنراها تعمل على ألا تسمح لمناوئيها بالوصول إلى السلطة أبداً بأي سبيل، وسترمي بثقلها وأدواتها كلها من أجل ضمان عدم حصول ذلك.

بحسابات السياسة المجردة، سينجح الغرب في مسعاه، لكن بالحسابات الأخرى سيطول الصراع ولن يكتب له الحسم.. أو على الأقل هذا ما نتصوره.

 :: مجلة البيان العدد  330 صفر  1436هـ، نوفمبر  2014م.


أعلى