• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين

من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين

أخرج الشيخان عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين».

قال ابن تيمية: «كل من أراد الله به خيراً فلا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيراً، وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيراً، بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به، فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح..»[1].

وقال الحافظ ابن حجر: (ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع، فقد حرم الخير. وقد أخرج أبو يعلى من حديث معاوية من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره: «ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به»، والمعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه، فيصحّ أن يوصف بأنه ما أريد به الخير)[2].

فهذا معلم جليل يستدعي ترسيخه وتحقيقه فقهاً وسلوكاً، علماً وعملاً، وإذا كان العلم ما قام عليه الدليل، فإن العلم النافع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كما عبّر العلامة عبدالرحمن السعدي عن ذلك بقوله: «العلم النافع هو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم عربية»[3].

فلا بد من العمل مع العلم، ولا بد من الإرادة والتربية مع المعرفة والتعلّم، ولا بد من العبادة مع الفقه، ولا بد من الإيمان مع القرآن.

كما قال أبو حيان التيمي (ت 145هـ): «العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله، فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه»[4].

إذ يلحظ على بعض المشتغلين بالعلم والقرآن أنهم يهملون العمل والإيمان، وهما أمران متلازمان، ولا بد منهما، ثم إن التفريط في أحدهما قد يؤول إلى الردة والخروج عن الملة.

قال ابن تيمية في بيان ذلك: «فإن الإنسان قد يؤتى إيماناً مع نقص علمه، فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره، وأما من أوتي العلم مع الإيمان فهذا لا يرفع من صدره، ومثل هذا لا يرتدّ عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع، فهذا هو الواقع»[5].

بل جزم ابن تيمية بأن الاحتفاء بترسيخ الإيمان، وتحقيق أعمال القلوب؛ آكد من مجرد العلم والفقه في حق كثير من الناس، حيث قال - رحمه الله -: «يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الذكر يورثه الإيمان، والقرآن يورثه العلم، والعلم بعد الإيمان، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]»[6].

إن الاقتصار على أحدهما أوقع نفرة بين المتفقهة والمتعبدة، وصار تحقيق الجمع بين الفقه والعبادة نادراً أو متعسراً، كما أن الاكتفاء بمجرد العلم أوقع في اتباع الشهوات، والتعبد بلا علم أفضى إلى الخوض في الشبهات كما هو مشاهد ومجرّب.

والمقصود أن تكون التربية الإيمانية مصاحبة للتفقه الشرعي، فكما يُعنى بتحقيق السُلّم في تحصيل وفقه المتون الشرعية، فكذا يُعنى بفقه الباطن، وتحريك القلب وإحيائه بالعبادات القلبية، وإعماره بمحبة الله ورجائه وخوفه، وتحقيق زكاة النفوس، كأن يتلقى المبتدئ منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة مع التعليق عليها للعلامة السعدي، ثم ينتقل المتوسط من طلاب العلم إلى العبودية والتحفة العراقية لابن تيمية، وينتهي بطريق الهجرتين لابن القيم.

إن إهمال الباطن قد يجلب آفات كثيرة على طلاب العلم، إذ إن صلاح القلب رأس كل خير، وفساده رأس كل شرّ، ويحصل بأعمال القلوب من الشفاء ما لا يحصل بغيرها[7].

قال ابن رجب: «وإن كان القلب فاسداً، قد استوى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب»[8].

- إن التفقه في الدين يجلب الرحمة للخلق، ويحرّك الرأفة تجاه الآخرين، وكلما ازداد الشخص علماً وفقهاً ازداد رحمة وإعذاراً، والعكس صحيح.

ثم إن ظهور العلم الشرعي يقضي على ظلمات البدع والأهواء، ويمحو الفتن.. فإن «الفتن القولية والعملية هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة، كما قال الإمام مالك بن أنس: إذا قلّ العلم ظهر الجفاء، وإذا قلّت الآثار ظهرت الأهواء»[9].

إننا في زمن تموج فيه الفتن، وتتلاحق فيه النوازل والمحن، وعامة الفتن سببها أمران: قلة العلم، وضعف الصبر[10].

فإذا تفقه الشخص في دين الله، وتحلّى بالصبر وزكاة النفس؛ حصلت السلامة والنجاة من غوائل الفتن.

- ومما تجدر مراعاته في التفقه بالدين: الفهم الصحيح لنصوص الشريعة وفق مراد الشارع، والعناية بتحرير الحدود والتعريفات.

قال ابن تيمية في تحرير فهم نصوص الوحيين:

«ومن أعظم أسباب الغلظ في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسّر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها»[11].

وقال أيضاً: «علينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها خصوصاً، فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه..»[12].

وقد ذم الله تعالى من جهل حدود الشريعة وتعريفاتها، فقال سبحانه: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97].

قال ابن القيم في تقرير أهمية العلم بالحدود: «فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها..»[13].

- وفيما يتعلق بحيازة الكتب الشرعية واقتنائها.. فإن علينا التذكير بالحرص على سؤال الله الهداية، والحذر من حيازة الكتب على سبيل التكثّر والفخر بلسان الحال أو المقال، فليست العبرة بكثرة الكتب ومطالعتها، وإنما العبرة بنور البصيرة، والعمل بمقتضى العلم.

وقد أشار ابن تيمية إلى هذه فقال: «وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نوّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري: (أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تغني عنهم[14].

وحذّر محمد بدر الدين الحلبي بقوله: «ومن جملة العوائق عن التحصيل لطلاب العلوم الشرعية: الإكثار من النظر في المؤلفات على تشعب اصطلاحاتها واختلاف عباراتها، وربما جمع الطالب في علم واحد بين عشرين كتاباً وشغل نفسه بها كلها يظن أنه سيعثر بين سطور تلك المؤلفات على الحقيقة المطلوبة.. مع أن الإكثار من النظر في الكتب حائل بين الطالب وبين الحقيقة»[15]، إلى آخر كلامه رحمه الله، ثم ساق كلاماً لابن خلدون في تأكيد ذلك[16].

وأن يحتفى - عند مطالعة ومدارسة العلم الشرعي - بمعرفة الأصول والضوابط والقواعد؛ إذ إن مسائل العلم الشرعي ودلائله وأفراده يتعسر معرفتها، ويتعذر الإحاطة بها.

وكما قرر ذلك ابن تيمية بقوله: «ليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم»[17].

وقال في موطن آخر: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تردّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت»[18].

ونبّه العلامة السعدي إلى هذا المعلم بقوله: «يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه، فإن تعذّر أو تعسّر عليه حفظه لفظاً، فليكرره كثيراً متدبراً معانيه حتى ترسخ في قلبه، ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتوضيح والتفريغ لذلك الأصل الذي أدركه.. ومن ضيع الأصول حُرم الوصول»[19].

وقال في كتاب آخر: «معرفة الأصول والضوابط واعتبارها بالمسائل والصور من أنفع طرق التعليم»[20].

وأخيراً: فإن قصور الهمم في هذا العصر، وكثرة الشواغل، وضعف العقول والتحصيل، وتنوع المعارف؛ تستوجب العناية بالتخصص في أحد علوم الشريعة، والإقبال عليه.

كما بسطه محمد الحلبي، فكان مما قاله: «وقلّ أن ترى في تاريخ العلماء رجلاً نبغ في علم إلا وتراه قد انقطع له، ولازم الاشتغال به، وهجر ما عداه، وإن وجد له شركة في علوم أُخر فضعيفة جداً، وآثاره في ذلك قلّ أن توجد إلا مشوشة مضطربة..»[21].

وفي الختام: إن غياب المنهجية والتوحيد في التحصيل الشرعي، يفوّت النافع، ويضيّع الزمان، ويشتت قدرات الحيوان.

وقد حكى العلامة الطاهر بن عاشور هذه المعاناة بقوله: «إني على يقين أنني لو أتيح لي في فجر الشباب التشبّع من قواعد نظام التعليم والتوحيد؛ لاقتصدت كثيراً من مواهبي، ولاكتسبت جمّاً من المعرفة، ولسلمتُ من التطوح في طرائق تبيّن لي بعد حين الارتدادُ منها...»[22].

 

:: مجلة البيان العدد  329 محرّم  1436هـ، أكتوبر  - نوفمبر  2014م.


[1] الصفدية 2/266، وينظر: الفتاوى20/212.

[2] فتح الباري 1/165.

[3] بهجة قلوب الأبرار ص 27.

[4] أخرجه الدارمي في السنن 1/ 114، وأبو نعيم في الحلية 7/ 270.

[5] مجموعة تفسير ابن تيمية ص 149.

[6] الفتاوى 24/ 237، وينظر: الفتاوى 4/ 38.

[7] ينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح 3/124.

[8] جامع العلوم والحكم 1/210.

[9] الفتاوى 17/307.

[10] ينظر: المستدرك على فتاوى ابن تيمية 5/127.

[11] الفتاوى 12/106.

[12] بيان تلبيس الجهمية 7/400، وينظر: الفتاوى 10/664.

[13] الفوائد ص133.

[14] الفتاوى10/ 665.

[15] التعليم والإرشاد ص 254.

[16] ينظر: التعليم والإرشاد ص 255، 256.

[17] الفتاوى 10/ 664.

[18] الفتاوى 19/ 203.

[19] بهجة قلوب الأبرار ص 27.

[20] الفتاوى السعدية ص 101.

[21] التعليم والإرشاد ص 249.

[22] أليس الصبح بقريب ص 17.

 

 

أعلى