• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأمي والأميون في القرآن الكريم

الأمي والأميون في القرآن الكريم


النبي الأمي

ترجع نسبة من لا يعرف القراءة والكتابة إلى والدته في دلالتها اللغوية، على أن النساء في بلاد العرب لم يكن يعرفن أصلاً القراءة والكتابة، فشبّه من هذا حاله بأمه دون أبيه. وبمجيء الإسلام وشيوع العلم والتعليم، تحوّلت النسبة إلى صفة ظلت تطلق على كل من بقي على ولادة أمه له، أي على أصل الخلقة التي ولد عليها؛ لأن القراءة والكتابة شيء يكتسبه المرء من محيطه الخارجي ويتلقاه عن غيره من المتعلمين، فكأنه بهذا قد نسب إلى ما يولد عليه، أو على ما ولدته عليه أمه.

وخصّ الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر إخوانه من الأنبياء والرسل بصفة الأمية، فسماه النبي الأمي، وذلك في موضعين من القرآن:

الأول: حينما بشر أهل الكتاب من اليهود والنصارى بمبعث رسول خاتم فوصفه لهم بصفة الأمية، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ} [الأعراف: 157].

والثاني: عندما أمر الله تعالى الناس جميعاً عند مبعثه صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وبرسوله، فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].. ثم فرق الحق عز وجل بين رسوله الأمي وبين غيره من العرب الذين برعوا في اللغة واشتهروا بارتجال الخطب وتنقيح الكلام بالتغيير والتبديل، فقال تعالى مؤكداً ليس فقط صفة الأمية في رسوله، بل أيضاً كونها آية دالة على أن ما جاءهم به من كتاب منظوم على لسان العرب ويجري على قواعد اللغة العربية، هو من عند الله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لَّارْتَابَ الْـمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: ٨٤].

والمعنى أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ من كتاب حتى يهتم بأن القرآن الذي جاء به هو مما وجده مكتوباً فحفظه ثم قرأه على الناس، وهو أيضاً لا يكتب لا بالقلم ولا بغيره من أدوات الكتابة، حتى لا يدَّعي أحد أنه يغير فيه تارة ويبدل فيه تارة أخرى كما يفعل الكتّاب والخطباء والعلماء.

إن المقصود في كلتا الحالتين نفي التعلم عن محمد صلى الله عليه وسلم بشقيه قراءة وكتابة؛ لأن الذي يحفظ كتاباً ولا يعرف الكتابة لا يعد في الواقع أمياً، كالعلماء العمي، ومن يقدر على الكتابة فيكتب ما يملى عليه وهو لا يحفظ علماً، لا يعد بدوره أمياً، فانتفاء القراءة والكتابة عنه صلى الله عليه وسلم استقصاء في تحقق صفة الأمية المطلقة فيه.

ولأجل هذا فقد بشّر الله رسوله الكريم بأنه سيقرئه وهو النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قراءة تتعهد الوحي بالحفظ والصون، وترسخ في الوقت نفسه في عقله ووجدانه، فلا يغيب عنه أبداً ما قرئ عليه، فقال تعالى مخاطباً إياه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى: ٦].

والآية فوق كونها وعداً من الله بحفظ المقروء على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وعدم تعرّضه للضياع أو التبديل والتحريف؛ هي أيضاً فضيلة وفضل له؛ إذ أغناه الله تعالى بحفظه، فاعتمد في قراءته له على ضمان الله وكفالته وحدها.

ولعل في هذا وذاك إتمام للإعجاز العلمي الذي أيد الله به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له لتتم بها صفة النبوة والرسالة، ومن ثم ليظهر أن كماله العقلي والنفسي من لدن الله، لا واسطة فيه، للأسباب المتعارفة لكمال الإنسانية؛ ولذلك كانت الأمية فيه وصف كمال له وفيه، مع أنها في غيره صفة نقصان معيبة، إذ بها تم له من العلم وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي العلم، فكان صلى الله عليه وسلم على يقين بعلمه وبيّنة من أمره يفوق بمراحل كثيرة ما حصل للمتعلمين.

الأميون

إن الهمزة والميم (أم) أصل واحد يدل دلالة عامة على كل ما يعد سبباً أو مبدأ لوجود شيء ما، ومنه تتفرع عدة معان متقاربة في الدلالة مختلفة بعض الشيء في المفهوم، مثل الأصل والجماعة من الناس، والحين والقصد، ثم الدين والملة والمعتقد.

وبالمعنى الأخير، أعني الدين والملة، رد عباد الأصنام عند نزول الوحي ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالإيمان، فقالوا كما حكى الله تعالى عنهم: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: ٢٢].

فالأمة من الآية تعني الشرعية والدين، أو بعبارة أخرى الطريقة التي يتبعونها في العبادة، ولأجل ذلك احتجوا في كلامهم بأنهم مجتمعون على دين تلقوه عن آبائهم، ثم جعلوا اتباعهم وتقليدهم آباءهم اهتداء؛ لشدة إعجابهم بأموالهم، وقوة لهم في استمساكهم بدينهم ومعتقدهم.

ووصف الله تعالى العرب قبل الإسلام بالأمية وسماهم الأميين؛ نظراً إلى استحكام الوثنية فيهم، وشيوع عبادة الأوثان في حياتهم، مخالفين في وثنيتهم تلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ} [الجمعة: ٢].

ولا تعني أمية العرب بأي حال من الأحوال جهلهم بالدين والشرع، بل كانوا على دين يخالفون به سائر الأديان السائدة في زمانهم؛ فقد عرفوا نمطاً من التدين هو بقية من الشرائع والتكاليف مما ترك لهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لكنهم تميزوا دون غيرهم بأنهم بقوا على منهج واحد، وحياة واحدة، لم يحدث فيها تغيير على تعاقب الحقب والدهور التي تنسي عادة ما ذكر.

ظل العرب على تلك الأمية الدينية لم يخضعوا فيها لأحكام كتاب منزل من عند الله تعالى لفترة تزيد على ثلاثة آلاف سنة بعث الله فيها كثيراً من الأنبياء والرسل كانت دعوتهم ورسالتهم خاصة وقاصرة على الأقوام الذين بعثوا إليهم، ومن ثم لم تكن تعنيهم في شيء، وعرفت تلك الفترة بالجاهلية، وهي التي أشار إليها الحق في معرض امتنانه عليهم بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: ٤٦١].

فقد عاش العرب طوال تلك الفترة في جهالة جهلاء وحيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقاً ولا يبطلون باطلاً، فبعث الله في نهايتها رسولاً منهم برسالة ترفع عنهم النقائص وتعمل على ما فيه إرشادهم، وزكاة أنفسهم، وفي الوقت نفسه تعمل على إنقاذهم من ضلال هو لمن تدبره بعقله تبيّن له أنهم كانوا فيه على غير استقامة ولا هدى، فأخرجهم من أفحش ضلال إلى أفضل هدى.

إن عدم وجود كتاب موحى به من عند الله، هو الذي أفرد العرب بصفة الأمية واسم الأميين، في حين أطلق على من عرفوا الكتاب المرقوم المتضمن الشرائع والأحكام «أهل الكتاب»، فجاءت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته شاملة الجميع، يقول تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].

والأمر كما هو واضح لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دينه وشرعه الكتابيين من اليهود والنصارى، والأميين من مشركي العرب، ثم أعقب ذلك بالاستفهام في صيغة الماضي بقوله «أأسلمتم»، دون أن يقول «أتسلمون»، على خلاف مقتضى الحال؛ تنبيهاً من أنه يرجو تحقق إسلامهم حتى يكون كالحاصل في الماضي، فإن أسلموا فقد نفعوا أنفسهم، حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى، وإن أعرضوا فإنك رسول مأمور بإبلاغ رسالة ربك ومنبه إلى طريق الهدى.

وصفة الأمية الدينية ليست قاصرة على العرب وحدهم، بل إن من أهل الكتاب من لا يفقه من الكتاب المنزل عليهم شيئاً، فاستحقوا أسوة بالعرب الأميين صفة الأمية واسمها، فيقول تعالى مخبراً عنهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].

إن أمية تلك الفئة من أهل الكتاب أمية دينية ناتجة عن جهلهم المركب بدينهم، فمن ناحية يزعمون أنهم يعلمون الكتاب، بينما هم في الواقع لا يعرفون منه شيئاً ولا يدرون ما فيه، ويدّعون من ناحية أخرى العلم به، وهو ادعاء من قبيل الأماني بأن يكونوا علماء في كتابهم، أي أنهم لما عجزوا عن بلوغ درجة العلماء ولم ينالوا من العلم الذي ادّعوه شيئاً، ادّعوا العلم بأفواههم كذباً وتخرصاً.

الغرباء

لم تكن الأمية الدينية ولا اسم الأميين من أوصاف الذم التي يعاب عليها العرب، لكنها كانت عند اليهود من نعوت الذم التي يطلقونها على ما عداهم من الأمم الكتابية وغير الكتابية، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].

وكما هو بيّن بنفسه، فقد نعت اليهود المسلمين بالأميين تحقيراً وتطاولاً عليهم بما أوتوه من معرفة الكتاب من قبلهم؛ ولذلك كانوا في تعاملهم معهم بيعاً وشراءً لا يتقيّدون بالأمانة وأداء الحقوق إلى أصحابها، بل يقولون لا حرج لنا في ظلمهم وأكل حقوقهم لمخالفتهم إيانا، ويدّعون أن ذلك الاستخفاف بحقوق المخالفين لهم في الدين واستباحة ظلمهم منصوص عليه في كتابهم.

وقد كان اليهود بالفعل ينعتون - بناء على ادّعائهم السابق - الشعوب غير العبرانية بالأميين، والكلمة المرادفة لكلمة أمي في لغتهم هي كلمة جوي Goi، وجمعها Goyim جوييم، ومعناها الغرباء أو الدخلاء أو كل من ليسوا يهوداً.

فالتسمية إذن تسمية عامة تطلق على كل من هو غير يهودي؛ لأنهم في نظر أنفسهم الشعب المختار الذي اختص بالوحي والنبوة وكثر فيه الأنبياء والرسل، أما غيرهم فقد حرموا هذه النعمة، ولم يعطوا المزايا التي خصوا بها، فهم غرباء ودخلاء عليهم وشعوب من الدرجات الدنيا.

:: مجلة البيان العدد  326 شوّال 1435هـ، أغسطس  2014م.

أعلى