من لم يؤمن بالقدر لم يتهن بعيشه
مسائل القدر مزلة أقدام وأفهام؛ فالخطرات
والشبهات في القدر لا تنقضي، والمعارضات لا تنتهي، إذ يستحيل استيعاب ما يرد على
النفوس من الوساوس والشكوك والإشكالات في قضايا القدر، فضلاً عن نقاشها والجواب
عنها.
ومهما أجاب العلماء الراسخون عن تلك الشبهات
بأجوبة متينة شافية، ومحوا ما عَلِق في النفوس من اعتراضات ومغالطات؛ مهما يكن ذلك
فإن مسائل القدر مبنيّة على التسليم لنصوص الوحيين، والانقياد والقبول بما جاء في
الكتاب والسنة، فلا يحصل برد اليقين ورسوخ الإيمان إلا بهذا التسليم.
كما قال الإمام الطحاوي: «فإنه ما سلم في
دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. ولا تثبت قدم الإسلام
إلا على ظهر التسليم والاستسلام»[1].
وجاء عن غير واحد من السلف الصالح: من الله
الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم[2].
وقرر الإمام ابن بطة هذا الأصل الجليل فقال:
«يلزم العقلاء الإيمان بالقدر، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وترك البحث
والتنقير وإسقاط «لِمَ» و«كيف» و«ليت» و«لولا»؛ فإن هذه كلها اعتراضات من العبد
على ربّه، ومن الجاهل على العالم، معارضة من المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي
العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى، وسبيل أهل التقوى»[3].
والإيمان بالقدر ليس مجرد تنظير وتأصيل وقت
الرخاء والسراء، ثم سرعان ما يزول وقت الشدة والضرّاء، أو يضعف ويَرِق عند حلول
النوازل.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «والناس تغيب
عنهم معاني القرآن عند الحوادث»[4].
والسابقون الأولون أبرّ هذه الأمّة قلوباً،
وأعمقها علماً، فلا يغيب عنهم الإيمان بالقدر في أحلك الأوقات وأصعبها، فعمر
الفاروق - رضي الله عنه - لما طُعِن قال: «وكان أمر الله قدراً مقدوراً»، وكذا
قالها طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - لما رمي[5].
«وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -
يقول: ما تركتني هذه الدعوات ولي سرور في غير مواقع القضاء والقدر: اللهم رضّني
بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحبّ تعجيل ما أخرتَ، ولا تأخير ما عجلتَ»[6].
ولطالما شاهدنا من عوام المسلمين من حقق
الإيمان بالقدر، وخالط الرضا واليقين بشاشة قلبه، قد ارتقوا عن منازل الصبر على
البلوى إلى مقامات الحمد والرضا، يتحدثون بعفوية وصدق عن حسن ظنهم بالله وأقداره،
ورضاهم بما اختاره الله لهم وقضاه، وألسنتهم لا تفتر عن حمد الله وشكره في حال
النعماء والضراء واليسر والعسر.
في المقابل قد تجد من ينتسب إلى العلم
والفقه ثم تراه كثير الاعتراض على الأقدار، قد استحوذ عليه سوء الظن بالله
وتقديره، والعُجب بنفسه.
كما حكى ابن الجوزي عن صدقة بن الحسين
الحداد - وقد اشتغل بالفقه والفتوى - أنه كان يعترض على القضاء والقدر، وقد دخل
عليه ابن الجوزي وعلى صدقة «جَرَب»[7]،
فقال لابن الجوزي: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا عليّ أنا[8].
وحكى ابن القيم طرفاً من هذه الزندقة فقال:
«فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلّم للرب تعالى واتهامه ما لا يصدر
إلا من عدو.
وقال أحد كبار القوم: ما على الخلق أضرّ من
الخالق.
فأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوع
من البلاء يقول: يا ربي ما كان ذنبي حتى فعلتَ بي هذا؟»[9].
- وما سبق يؤكد ضرورة تحقيق الجانب الوجداني
في باب القدر، والاحتفاء بتقرير المعتقد الصحيح - في هذا الأصل -، وما يستلزمه من
تحريك القلوب، وتزكية النفوس من غوائل وآفات تعارض الإيمان بالقدر.
كما بيّنه ابن تيمية بقوله: «شهود القدر في
الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضرّ الأمور به، فإن يكون قدرياً
منكراً لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان
قدري الحال، وذلك يورث العُجْب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله»[10].
فتأمّل هذا التقرير البديع من هذا الإمام
الكبير، فأنفع وأصلح ما يكون للعبد أن يعترف بفضل الله عليه في فعل القربات، وأن
الله هو الذي هداه ووفّقه وأعانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا غاب عنه ذلك
الاعتراف والإقرار ظهر عليه الغرور والعُجب والاعتداد بنفسه، وقد لا يكون هذا
الشخص قدري الاعتقاد على طريقة المعتزلة الذي ينفون القدر ويقولون: إن الإنسان
يخلق فعل نفسه؛ لكنه قدري الحال، فلربما كان في الاعتقاد المجرد على طريقة السلف،
لكن حاله وسلوكه على طريقة نفاة القدر!
قال أبو سليمان الداراني: «إنما التواضع أن
لا تُعجب بعملك، وكيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنما يعدّ العمل نعمة الله - عز وجل -
ينبغي أن يشكر الله ويتواضع، إنما يعجب بعمله القدري»[11].
- والإيمان بالقدر يستوجب تحريك القلب نحو
محبة الله تعالى، ورجائه، والخوف منه، فأيّ سعادة أتمّ وأيّ فرح أكمل ممن عمّر
الله قلبه بمحبته وخشيته ورجائه! فنال الأنس بالله، والاستغناء به عمن سواه،
والتوفيق والتسديد، كما هو حال السلف الصالح.
فرحم الله تلك الأرواح، و«نستغفر الله من
الكلام فيما لسنا بأهل له»[12].
يقول ابن رجب: «إن العبد إذا علم أنه لن يصيبه
إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر؛ علم حينئذ أن الله وحده هو الضار
النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة.
فمن علم أنه لا ينفع ولا يضرّ ولا يعطي ولا
يمنع غير الله، أوجب ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرّع والدعاء»[13].
واليقين بأن الله على كل شيء قدير، والإيمان
الراسخ بالأقدار؛ يحقق توكلاً على الله، وتوفيقاً من الله وحده، وغياب ذلك يورث
عجزاً وخذلاناً.
قال ابن القيم: «الخذلان أن يخلي الله تعالى
بين العبد وبين نفسه ويكله إليها، والتوفيق ضده أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها،
بل يصنع له، ويلطف به، ويعينه ويدفع عنه»[14].
إن للإيمان حلاوة، وأيّ حلاوة! فهي حلاوة لا
تحيط بها العبارة، لن يجد الشخص في نفسه هذه الحلاوة إلا بالإيمان بالقدر، كما قال
الصحابي الجليل عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لابنه: «يا بنيّ لن تجد طعم
الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك»[15].
- إن الإيمان بالقدر يدفع الشخص إلى تحقيق
الإخلاص، وتصفية عمله من كل شائبة، فإنه يوقن أن النفع والضر، والمدح والذم، بيد
الله وحده، وأن الذي مدحه زينٌ، وذمُّه شينٌ، هو الله الذي لا إله إلا هو.
وخير العيش: الصبر، وما تعاظمت المصائب
وضاقت بها الأنفس إلا من ضعف الإيمان بالقدر، ومما يعين على الصبر «أن يشهد أن
الله خالق أفعال العباد، حركاتهم وسكناتهم وإرادتهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ
لم يكن، فلا يتحرك في العالم ذرة إلا بإذنه، فالعبادة آلةٌ، فانظر إلى الذي سلّطهم
عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهمّ والغمّ»[16].
والإيمان بالقدر يبعث الشجاعة والإقدام في
مواجهة الشدائد والأهوال، فإن من أيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم
يكن ليخطئه؛ فإن ذلك ينزع من قلبه مشاعر الجبن والخور، فلا يرضى لنفسه بالذلة
والهوان.
ثم إن الإيمان بالقدر يحقق الاعتدال في حال
السراء والضرّاء، فلا تبطره النعمة، ولا تقنّطه المصيبة، فلا يحمله الغنى على
الأشر والطغيان، ولا يوقعه الفقر في الجزع والخذلان.
والإيمان بالقدر يطهّر القلوب من غوائل
الحسد والأضغان، فالمؤمن بالقدر لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فإن
الله هو الذي رزقهم، فأعطى من شاء، ومنع من شاء، وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة
فيما قدّره وشاءه، فالخير فيما اختاره عز وجل.
فرحم الله الإمام إبراهيم الحربي «ت
285هـ» حيث يقول: «أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه»[17].
:: مجلة البيان العدد 324 شعبان 1435هـ، يونيو 2014م.
[1] شرح العقيدة الطحاوية 1/207 - 231.
[2] ورد عن الزهري وربيعة الرأي والأوزاعي. ينظر:
السنة للخلال 3/579، والتمهيد لابن عبد البر 6/14.
[3] الإبانة (القدر) 2/316، وانظر:
الصواعق المرسلة لابن القيم 4/1560.
[4] مجموع الفتاوى 27/363.
[5] ينظر: الإبانة لابن بطة (القدر) 2/87
- 88.
[6] مجموع رسائل ابن رجب 1/176.
[7] الجرب: مرض جلدي عبارة عن بثور تعلو
أبدان الناس، والإبل.
[8] ينظر: المنتظم 18/243، وينظر: صيد
الخاطر ص 135 - 195. ومما يجدر ذكره أن هذا التخبط والضلال الذي لحق صدقة الحداد،
عقب مطالعته كتاب الشفا لابن سينا!
[9] إغاثة اللهفان 2/256 - 257= بتصرف
يسير.
[10] مجموع الفتاوى 8/331.
[11] أخرجه ابن بطة في الإبانة (القدر)
2/286.
[12] قالها ابن القيم الإمام العابد في
طريق الهجرتين ص 333.
[13] جامع العلوم والحكم 1/484 -
485=باختصار.
[14] شفاء العليل لابن القيم ص 215.
[15] أخرجه أحمد 5/317، والترمذي (2156)،
وغيرهما.
[16] جامع المسائل لابن تيمية 1/168.
[17] البداية لابن كثير 11/79.