مشروع حسب الشريعة الإسلامية!

مشروع حسب الشريعة الإسلامية!

 

إن الله عز وجل أنزل كتابه تبياناً لكل شيء وتفصيلاً، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْـمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِـحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٩]. ومن تمام هدايته قول ربنا عز وجل فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧]. وقد أرشد هذان الأصلان إلى أصول أخرى يعرفها العلماء؛ بها يستنبطون الأحكام، ويترجمون الآيات المذكورة واقعاً عملياً في الحياة، وليس ثمة شيء ليس له في كتاب الله حكم، ولا أفادنا الشرع فيه بياناً، لكن علم ذلك من علمه، وجهله من جهله.

وقد أحدث الناس في دنياهم أموراً كثيرة اقتضتها حاجتهم، لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه البشرية، فتسارعت فيه المحدثات تسارعاً لم يكن معهوداً قبل ذلك؛ في الصناعات والتشريعات التنظيمية والحكمية والتجارات وغيرها، ولما اجتمع إلى هذا التسارع في المبتكرات تأخّر المسلمين فيها، مع ضعف البصيرة ورقة الديانة عند كثير منهم؛ طفقوا يستوردون من الأمم ما ينتجون، فراج كثير من المستوردات من دون تمحيص، مع أن لها في كتاب الله أحكاماً كثيراً ما تشتغل المجامع الفقهية ومراكز الفتوى الشرعية ببيانها، وتمييز ما يخالف الشريعة منها مما ما يتوافق معها، أو ما يلزم لها من الشروط حتى توافقها.

وأمام ضخ الأمم وتهافت كثير من المسلمين على الدنيا، تمر أمور وتروج أخرى دون أن تمحص ويعرف حكم الله فيها.

وأصل هذه المشكلة ضعف المسلمين عن إنتاج مشاريع وفق الشريعة الإسلامية تفي بمتطلبات المعيشة من ضروريات وحاجيات وأمور تكميلية. ويزيد من تجذر المشكلة فصل العلوم الدنيوية من هندسة وطب واقتصاد وزراعة وغيرها، عن الدينية التي تقرر الأحكام وتبني القيم؛ فيتخرج الصيدلاني صيدلانياً، والاقتصادي اقتصادياً قادراً على إنتاج مشاريع أو تقديم منتجات لم تراعَ فيها الأحكام الشرعية غير المرعية أصلاً في علمه الذي تعلمه! وهذا في الأعم الأغلب ببلاد المسلمين.

ومن هذا القبيل أيضاً تلقف الأنظمة التي تنتجها الأمم من جراء حاجتها إليها، إما فيما يخص المرأة أو يخص الطفل أو غير ذلك. وكثير من تلك الأنظمة اقتضاها للدول الغربية واقعها الذي لم يؤسس على تقوى من الله، في مجتمعات لا تريد أن تطهر حياتها كما أمر الله، فتتخبط في سنّ الأنظمة والتشريعات التي يبدّلونها كل حين، محاولين تخفيف ما نجم عن مخالفتهم أمر الله، ثم تنجم المشكلة في مجتمع مسلم ترك حكم الله، أو ضعف القيام فيه بأمره، فيستوردون تلك الأنظمة التي لم تُفَصَّل على مقاسهم، ولا تناسب بنيتهم، ثم يتقمّصونها فيتضاعف الإشكال.

ومع الأسف، فإن مشاريع كثير من أهل الخير التصحيحية منصبة إما في تعديل تلك المنتجات المستوردة لتناسب جسد الأمة، أو في بيان سوء المستورد وكشف عواره، دون علاج لمشكلة المجتمع بطرح المنتج الشرعي!

والواجب أن يكون المسلمون، أفراداً ومؤسسات، أصحابَ مشاريع ذاتية مؤسسة على الشريعة الإسلامية، ولا يكون ذلك إلا إذا استوفى العامل في الحقل الإسلامي أمرين:

الأول: أن يستوعب مقررات الشريعة المتعلقة بمجال عمله؛ ما تبيحه، وما تحظره، وما ينسجم مع مقاصدها، وما لا ينسجم، وهذا يقتضي علماً بالشرع، أو على الأقل صدوراً عن عالم به ملمّ بالحقل الذي تعمل فيه المؤسسة. وقد كانت أمور المسلمين قديماً تعتني بهذا الأساس، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين[1]! ومثل هذا المتفقه العامل في مجاله تأتي مشاريعه وافية بمتطلبات الناس، وتوفر له سبل الكسب والعيش الكريم، وفق الشريعة الإسلامية ابتداء، فهو يفي بحاجة المجتمع ويفي بحاجته من أول الأمر وفق شرع الله.

الثاني: أن يستوعب منتجات الأمم في مجاله؛ ما لها، وما عليها، وما يصلح منها، وما لا يصلح، وما يقبل التعديل منها، وما لا يقبل، وهذا يتطلب فوق ما أشير إليه آنفاً حُسن تصور للواردات، ونقد لها وفقاً للأمر الأول، وهذا كذلك كان مستقراً عند السلف؛ فقد كانوا يميزون فيأخذون عن الأمم النافع، وينهون عن غيره، ويعالجون ما يمكن أن يعالج. ومن تدبر حال السلف وقف على كثير من ذلك؛ فالدواوين أو التنظيم المالي أخذه السلف عن الفرس، والتأريخ أُخذت فكرته عن الأمم، فالأمة مسبوقة إليه غير أنه صيغ بما يتفق واعتزاز هذه الأمة بدينها، فجعل هجرياً نبوياً، لا شرقياً ولا غربياً، وكذلك مستوردات الأمم أذن في بعضها ومنع بعضها، وأمر بغسل بعضها أو تغيّره، وهكذا فلم تقبل على علاتها، ولم ترد بمزاياها.

ويمكن أن يفصل ما سبق في ثلاثة أسس لا بد للمشروع حتى يكون مشروعاً إسلامياً من أن يستوفيها:

الأول: علم بأحكام الشرع في المجال المتعلق بالمشروع.

الثاني: إعمال تلك الأحكام في إخراج منتجات تفي بحاجات الناس.

الثالث: نقد وتمحيص ما يفد من الأمم.

وإعمال هذه الأسس لا يقتصر على المنتجات الاستهلاكية أو السلع على تنوعها فحسب، بل يجب أن يراعيه كذلك العاملون على إصلاح أوضاع الأمة، ومعالجة الخلل في المجتمع، فلو فرضنا مؤسسة تعنى بقضايا المرأة والنظم المتعلقة بها، فحتى تكون منتجاتها موافقة للشريعة الإسلامية لا بد من الأسس الثلاثة:

أن يكون عند القائمين عليها علم بمقررات الشريعة وأحكامها التي تتعلق بالمرأة والأسرة.

أن تكون عندها برامجها ومنتجاتها الشرعية التي تعنى بعلاج مشكلات المرأة وقضاياها، كتيسير معيشتها، وحفظ كرامتها.

أن تكون عالمة بمنتجات الأمم في ذلك، مميزة غثَّها من سمينها، وصالحها من فاسدها، وما يمكن تعديله مما لا يمكن قبوله.

ومتى أخلّت المؤسسة بواحد من هذه الأسس لم يستقم عملها؛ ففاقد التصور الإسلامي غير العالم بمقررات الشرع في مجاله لا يمكن أن يقدم منتجات شرعية، ومن ضعف علمه ضعف منتجه، ولا يمكن أن ينقد مقررات الأمم نقداً شرعياً، ومن ضعف علمه ضعف نقده، وصاحب التصور القاعد عن العمل الذي ليس له إنتاج يعالج ما يحتاج الناس إلى علاجه ويفي بمتطلباتهم؛ سيضطر الناس إلى إنتاج غيره، والجاهل بمنتجات الأمم إما واقعٌ في قبول الضار أو رد النافع ولا بد.

وختاماً: تعجّ الساحة بكثيرين يقترحون أنظمة أو يقدمون منتجات كتبوا على ديباجتها (وفق الشريعة الإسلامية)! وإن كنت قد وجدت في السوق سمكاً كتب على تغليفه ذلك، أو دجاجة برأسها كذلك! فلا تعجب أن تكون كثير من التنظيمات والقرارات المنتجة أو المستوردة التي تُصَدَّر بـ (وفق الشريعة)؛ مثلها! فلا تغرَّنَّك العبارة وانظر إلى من كتبها! فمتى كان مجهولاً، أو عالماً بالدنيا عامياً في الشريعة، أو عالماً بالشرع جاهلاً بالمنتج! فلا تقم لما كتب وزناً، إلا بعد النظر والتحقيق، أو الصدور عن رأي العالمين الراسخين، الذين جمعت مشاريعهم الأسس الثلاثة المتقدمة.

هذا والله أسأل أن يعيد للأمة مجدها، وأن يردها إلى دينه رداً جميلاً، والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً.


:: مجلة البيان العدد  323 رجب 1435هـ، مايو  2014م.


[1] أخرجه الترمذي في جامعه (487)، وحسنه الألباني.

 

 

أعلى