ماذا وراء تردد "إسرائيل" في اجتياح غزة؟

ماذا وراء تردد "إسرائيل" في اجتياح غزة؟

 

تقرُّ «إسرائيل» بأنها فوجئت برد فعل حركة الجهاد الإسلامي على مقتل ثلاثة من مقاتليها مطلع الأسبوع الماضي، حيث تم إمطار الجنوب الغربي من النقب المحتل بعشرات من الصواريخ والقذائف. إن الافتراض الذي حكم صنّاع القرار والنخبة الأمنية ومحافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب؛ هو أن الردع الذي راكمه جيش الاحتلال بعد حرب «عمود السحاب»، لن يدفع المقاومة الفلسطينية لـ «المخاطرة» بالرد على عملية الاغتيال. تدرك «إسرائيل» أن عناصر «الجهاد الإسلامي» الذين اغتالتهم طائرة استطلاع إسرائيلية بعد إطلاقهم قذائف على قوة للاحتلال توغلت في القطاع؛ لم يتجاوزوا تفاهمات التهدئة التي تم التوصّل إليها برعاية مصرية عقب حرب «عمود السحاب»، حيث إن القوة «الإسرائيلية» توغّلت للغرب من الخط الحدودي الذي يفصل «إسرائيل» عن القطاع. ويعي «الإسرائيليون» أنه لا خلاف على أن سلوكهم هدف إلى ترويض المقاومة الفلسطينية على تغيير قواعد المواجهة القائمة، مع العلم أن كل عمليات التصعيد التي أفضت إلى حرب «عمود السحاب» في نوفمبر 2012؛ جاءت عقب إصرار «إسرائيل» على اقتحام قطاع غزة والقيام بعمليات تجريف في المناطق الزراعية المتاخمة للحدود.

غير معنيين بالتصعيد

من الواضح أن «إسرائيل» قد أخطأت في الحسابات؛ فمصلحتها الاستراتيجية تقتضي ألا يستحيل التصعيد ضد المقاومة في قطاع غزة إلى مواجهة كبيرة على غرار حربي «الرصاص المصبوب» و«عمود السحاب». إن صنّاع القرار في تل أبيب يدركون أن آخر ما يخدم مصالحهم هو المبادرة إلى خطوة تلفت انتباه العالم للبرنامج النووي الإيراني، لا سيما في ظل المفاوضات التي تجريها الدول العظمى مع إيران في جنيف حول مستقبل برنامجها النووي. من الواضح أن عرض شاشات التلفزة العالمية مشاهدَ القتل والدمار في غزة، لن يساعد على إقناع الدول العظمى بتبنّي الموقف «الإسرائيلي» المطالب بتضمين الاتفاق المستقبلي مع إيران بنداً ينصّ على عدم تمتع طهران بأي قدرة على تخصيب اليورانيوم. وإذا أخذنا في الحسبان تداعيات الأزمة الأوكرانية التي تهدد بحدوث تحول جوهري وكبير في الموقف الروسي لجهة تحسين مكانة إيران في المفاوضات على برنامجها النووي؛ فإن تل أبيب تبدي أقصى درجات الحذر من الإقدام على أي خطوة تؤثر سلباً في مواقف القوى العظمى بشأن هذا الملف. وفي الوقت ذاته، فإن تل أبيب التي تلمس اتساع حملات المقاطعة عليها بسبب سلوكها العدائي ضد الفلسطينيين؛ غير معنية بأن تقدم للجهات الداعية إلى مقاطعتها محفزاً آخر يزيد من دافعيتها ونشاطها، مع العلم أن صنّاع القرار في تل أبيب أسهبوا كثيراً في التحذيرات من التداعيات «الكارثية» للمقاطعة على الاقتصاد الصهيوني، وعدّوا الدعوة لها بأنها «ضرب أصيل من اللا سامية المتجددة»، كما يحلو لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو تسميتها.

الحفاظ على البيئة الإقليمية

لا خلاف على أن الحرب التي تشنها السلطة في مصر ضد قطاع غزة، تمثل بالنسبة لصنّاع القرار في تل أبيب إنجازات «استراتيجية» لم يدفعوا مقابلها أي ثمن، ومن ثم ليس في حكم الوارد لدى صنّاع القرار الصهاينة المخاطرة بتهديد هذه الإنجازات. إن «إسرائيل» رغم استفادتها من الحرب التي تخوضها السلطة في مصر ضد حركة حماس؛ تبدي حرصاً على عدم الظهور كالطرف المستفيد بشكل رئيس من هذه الحرب؛ للحفاظ على صدقية هذه السلطة أمام الرأي العام المصري. من هنا، فإن تل أبيب تخشى أن تسبّب حملة عسكرية واسعة على قطاع غزة في إحراج السلطة في مصر، حيث إن نتنياهو يعي أن أي حرب تشنّها إسرائيل ضد غزة ستبدو كما لو كانت حرباً منسقة بينه وبين السلطة في مصر، ما قد يثير الرأي العام العربي بشكل خاص، وهذا ما يفزع منه صنّاع القرار في تل أبيب.

إن حسابات الربح والخسارة واضحة أمام صنّاع القرار في تل أبيب، حيث يدركون - على سبيل المثال - أن ما حققته السلطة في مصر من إنجازات لصالح تل أبيب في مواجهة غزة وحركة حماس خلال أربعة أشهر، يفوق سنين من العمل الحربي الإسرائيلي المكثف. وكما يقول وزير الشؤون الاستخبارية الصهيوني، يوفال شطاينتس، فإن قيام السلطة في مصر بتدمير الأنفاق ساعد على تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بشكل كبير، وهو الهدف الذي لم تتمكن «إسرائيل» من تحقيقه، رغم توظيفها إمكانيات هائلة.

الخوف من حشر «حماس» في الزاوية

ترى محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب، أنه من الخطأ تقليص هامش المرونة أمام حركة حماس لدرجة تدفعها إلى تحطيم قواعد اللعبة القائمة بحيث تقبل على فتح مواجهة مع «إسرائيل»، رغم أن هذا الخيار ليس مفضّلاً لدى قيادة الحركة في الوقت الحالي، كما ترى هذه المحافل.

ينطلق «الإسرائيليون» من افتراض مفاده أن حركة حماس غير معنية بفتح مواجهة مع تل أبيب في الوقت الذي تضيّق فيه السلطة في مصر الخناق عليها، وفي ظل تحمّلها أعباء حكم القطاع، وكل ما يرتبط بذلك من تحديات في ظل حصار شديد وخانق. لكن الإسرائيليين يدركون في نفس الوقت أن مضاعفة التحديات على حماس قد تدفع الحركة إلى المبادرة لفتح مواجهة شاملة تسمح لها بالتخلص من أعباء الحكم، حتى لو اقترن الأمر بدفعها ثمناً باهظاً جداً.

احتلال القطاع غير واقعي

لا يبدو أن أحداً قد أبدى تأثراً بدعوة وزير الخارجية الصهيوني، أفيغدور ليبرمان، إلى إعادة احتلال قطاع غزة، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة تتعارض مع المصالح «الإسرائيلية». وقد انبرى كثير من الساسة والمعلّقين للتعبير عن اختلافهم مع ليبرمان؛ فقد اعتبر وزير الحرب ورئيس هيئة أركان الجيش الأسبق، شاؤول موفاز، أن إعادة احتلال القطاع ستزيد من الأعباء الأمنية والاستراتيجية على كاهل «إسرائيل»، ولن تسهم في حل أي مشكلة أمنية. واعتبر موفاز أن إعادة احتلال القطاع تعني استنزال موارد «إسرائيل» الاقتصادية والحربية وتهديد مكانتها الدولية. من ناحيته، يشير دان مرغليت، كبير المعلقين في صحيفة «إسرائيل اليوم» المقربة من نتنياهو؛ إلى أن المشكلة التي تواجه «إسرائيل» في حال إعادة احتلال قطاع غزة، تتمثل فيما يتوجب عمله في اليوم التالي للانسحاب. ويرى مرغليت أنه لا توجد جهة فلسطينية بإمكانها تولي مقاليد الأمور في القطاع بعد إسقاط حكم حركة حماس، مشيراً إلى أن حركة «فتح» غير مهيئة لوراثة حكم «حماس» في القطاع، ليس فقط بفعل ضعفها، بل أيضاً بفعل الخلافات العميقة في صفوف قياداتها، لا سيما بين رئيس السلطة محمود عباس ورئيس جهاز الأمن الوقائي السابق محمد دحلان. ويرى وزير الحرب الصهيوني الأسبق بنيامين بن إليعازر، أن المشكلة الأساسية في اقتراح ليبرمان تكمن في حقيقة أنه قد يؤدي إلى تعاظم أنشطة الحركات الجهادية، وفي الوقت ذاته يعفي حركة حماس من القيود الناجمة عن وجودها في الحكم. ويحذر بن إليعازر من مغبّة طرح الاقتراحات الهادفة فقط إلى استرضاء الجمهور «الإسرائيلي» دون أن تكون واقعية. لكن رغم الاعتراض على اقتراح ليبرمان، إلا أن بعض النخب اليمينية تؤيده، مثل الجنرال تسفيكا فوجل الرئيس الأسبق لهيئة أركان قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش «الإسرائيلي». وبحسب فوجل، فإنه دون القضاء بشكل مبرم على حكم حركة حماس فإن «وجع الرأس المنبعث من غزة سيتواصل بكل قوة».

ملخص القول: يمكن تفهّم حرص «إسرائيل» على الطلب من الجانب المصري التدخل لإقناع «الجهاد» بإنهاء هذه الموجة من التصعيد، الذي لم تحسب تل أبيب تداعياته بشكل محكم.

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.

أعلى