بيت المقدس.. هل لا نزال نقدسه؟
الحمد
لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فإن
من مقدمات الإيمان ومقوّماته أن نعظم ما عظمه الله، وأن نقدس ما قدسه، فمن قدَّر
الله حق قدره عرف لكل مقدَّس قدره، فعظَّمه وكرَّمه، حتى إن لم تقترن به في
الإسلام عبادة مشروعة، فكيف إذا اقترنت به تلك العبادة؟.. وقد قدس الله بيت المقدس
وشرع فيه العبادة لكل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، بعد أن بنى أبو الأنبياء
– إبراهيم عليه السلام - في تلك الديار مسجدها الذي بارك الله حوله، فصار المسجد
الأقصى منطلق دعوة عشرات – إن لم يكن مئات - الأنبياء، حتى صلى فيه خاتم الأنبياء صلى
الله عليه وسلم إماماً بكل الأنبياء.
وامتداداً لهذا التعظيم المقترن بأعظم
معجزات نبينا الحسية – وهي رحلة الإسراء والمعراج –، شرع النبي صلى الله عليه وسلم
لأمته شد الرحال لذلكم المسجد المبارك، ضمن ثلاثة مساجد في الأرض لا تشد الرحال
إلا إليها، ولا تضاعف الصلوات إلا فيها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى). نكبنا نحن
المسلمين في هذا العصر بسلب بيت المقدس ومسجده منا، فبعد أن ائتمننا الله على حفظه
بالتوحيد بصلاة إمام الموحدين صلى الله عليه وسلم فيه، وبعد أن كان الصحابة - رضي
الله عنهم - قد فتحوه في عهد الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم خلصه
أجدادنا من عبّاد الصليب على يد القائد العظيم صلاح الدين – رحمه الله -؛ إذا
بالنصارى الإنجليز في هذا العصر يعيدون سلبه عام 1918 ليسلموه بعد ثلاثين سنة لمن
هم أكفر منهم بالله – وهم اليهود -، الأشد عداوة لعباده وأوليائه. وكأن كلتا
الأمتين من المغضوب عليهم والضالين، قد توافقتا على عدم إعادته للمسلمين إلى يوم
الدين، حيث ينظر كل من اليهود والنصارى إلى بيت المقدس على أنه سيكون سر خلاصهم،
وموطن نجاتهم، ونهاية تاريخهم، وذلك عندما ينزل مسيحهم المنتظر، الذي اختلفوا فقط
في شخصه ولم يختلفوا في ظروف خروجه ووظيفته، التي تتلخص في تخليص أتباعه من كل
أعدائهم، وبخاصة المسلمين، الذين يعدّونهم – ويا للعجب – من الوثنيين! اليهود
والنصارى يتعاونون منذ أكثر من مائة عام لكي تكون القدس خالصة لمخلصهم الأسطوري
الباطل، بينما المسلمون من وقت استباحتها إلى اليوم، لم يقدموا عشر معشار ما
يستحقه بيت المقدس من تقديس وإجلال، تترجمه الإنجازات والأعمال. وتكفي نظرة سريعة
على مجمل نجاحاتهم التي تمثل في الوقت نفسه مجمل إخفاقاتنا وفشلنا؛ تكفي في
الإجابة عن مقدار ما تعنيه القدس بالنسبة لنا، وما تعنيه القدس لديهم:
• كان امتناع السلطان عبد
الحميد - آخر خلفاء الدولة العثمانية الكبار – عن إجابة (تيودور هرتزل) لطلبه بيع
جزء من فلسطين لإنشاء وطن قومي لهم؛ دافعاً لسعي مشترك بين اليهودية والعالمية
والدول الاستعمارية النصرانية لإسقاط تلك الخلافة، وتفكيك كيانها، لبناء دولة
لليهود على أنقاضها؛ ولذلك سارعت إنجلترا، بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية
الأولى، لاحتلال فلسطين سنة 1918 كي تهيئها لليهود، تنفيذاً لوعد (بلفور) سنة
1917.
• وقعت فلسطين والقدس
الغربية تحت أيدي «عصابات» اليهود في حرب النكبة 1948، إثر انسحاب الإنجليز بعد
ثلاثين سنة من احتلال الأرض المقدسة، وأعلن اليهود دولتهم، ثم حاربوا العرب،
وانتصرواعلى مجموع جيوشهم في تلك الحرب، ولم تتمكّن تلك الجيوش من استرجاع ما ضاع
من فلسطين في الحروب التالية، بل ضاعت أراض أخرى غيرها، وبدلاً من السعي لتخليصها
وإعداد العدة لتحريرها، تمت الموافقة الفلسطينية العربية – الرسمية - على تمليك
القدس الغربية لليهود، مع بقية ما احتلوه من أراض معها، بمقتضى اتفاقية (أوسلو)
المبرمة عام 1993 مع منظمة التحرير الفلسطينية (المفوضة من الأنظمة العربية)، على
أنها الممثل الشرعي والوحيد عن الشعب الفلسطيني!
• في حرب يونيو 1967، احتل
اليهود القدس الشرقية التي تضم المسجد الأقصى، وبعدها بنحو خمس سنوات خاض المصريون
والسوريون حرب أكتوبر 1973 ضدهم، ولم تكن القدس على جدول أهدافها الاستراتيجية،
بدليل أن النظام السوري لم يكن جاداً حتى في تحرير الجولان السورية نفسها فضلاً عن
القدس العربية أو غيرها، بدليل أن اتفاقية (كامب ديفيد) المبرمة عام 1978 للسلام
بين مصر وإسرائيل؛ نصت على أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بين مصر و(إسرائيل)!
• لما وقع اختيار النظام
العربي على «السلام» باعتباره الخيار الاستراتيجي الوحيد في الصراع العربي -
الإسرائيلي؛ أصرَّ اليهود على أن تظل القدس خارج أي تفاوض، تماشياً مع ما أعلنته
الحكومة الإسرائيلية في 30/7/1980 من أن القدس بشطريها العاصمة الموحدة الأبدية
للدولة الإسرائيلية!
• مضت الحكومات
الإسرائيلية في تحويل القدس إلى مدينة يهودية خالصة، فخصَّصت 88% من أراضيها
لمشروعات توطين اليهود المهاجرين فيها، فيما يعرف بـ (المستوطنات)، وجعلت نسبة الـ
12% الباقية موضوعاً للتفاوض، لا لإرجاعها، لكن لإعطاء الفلسطينيين حق السكنى فيها
تحت الإدارة اليهودية، ولذلك منعتهم بالقانون من التعمير فيها حتى يتم التوصّل
لاتفاق بشأنها!
• توسع اليهود في بناء
مستعمراتهم حول القدس الشرقية المحتلة من كل جانب، بغرض توسيعها عن مساحتها
الأصلية تحت مسمى (القدس الكبرى)، ولم يكتفِ اليهود بتحويل القدس العربية
الإسلامية إلى مدينة يهودية من داخلها وخارجها؛ بل شرعوا بعد ذلك في تأمين هذا
الوضع وتأبيده عن طريق بناء سور عالٍ لعزلها بطول 167 كم!
• إمعاناً في محو هوية
القدس العربية الإسلامية، نشط اليهود في تهجير سكانها، وتغيير معالمها، حتى أسماء
الأحياء والبلدات والشوارع حوّلوها إلى أسماء عبرية ذات مدلولات يهودية. ومن
العجيب في هذا الصدد أن المسجد الأقصى الذي يطلق اليهود عليه اسم (جبل المعبد)،
غُيّر على موقع «جوجل» الخاص بالخرائط المسجلة من الأقمار الصناعية!
المسجد الأقصى سر التقديس: لخَّص (ديفيد بن
جوريون)، أول رئيس وزراء إسرائيلي، سبب تقديس اليهود لأرض بيت المقدس بقوله: (لا
قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل)؛ لذلك جعلوا المسجد الأقصى
الذي يصرون على هدمه ليبنوا مكانه ما يطلقون عليه (هيكل سليمان)؛ جعلوه رمزاً
للدولة الإسرائيلية التي تمثلها «نجمة داود» السداسية! هذا المسجد الأسير يسير به
اليهود نحو خطر ماحق قد يحوّل مجرى تاريخ المنطقة، حيث تسير الحكومات الإسرائيلية
المتعاقبة بخطى ثابتة نحو هدمه ومحوه من الوجود استكمالاً لتهويد القدس وإتمام
معالم المشروع الصهيوني الديني فيها؛ لذلك سعت تلك الحكومات لتحقيق تكريس الوجود
الإسرائيلي الدائم فيه، لإضفاء الطابع اليهودي على القدس الشرقية كلها، ونشطت منذ
الاحتلال في أعمال الحفريات والأنفاق التي ظاهرها البحث عن آثار يهودية، وحقيقتها
استكمال خطوات بناء ما أسموه (الهيكل الثالث)، بتوهين أساسات المسجد الأقصى.
وبتشجيع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للاقتحامات الممنهجة للمسجد الأقصى على يد
المتطرّفين اليهود، تسعى تلك الحكومات لتحويل مرافق المسجد الأقصى إلى مناطق سياحة
دينية متاحة أمام اليهود والسيّاح الغربيين، ليأخذ المسجد شكل متحف مؤقت، منزوع
الهيبة وجاهز للتغيير أو التدمير؛ لذلك نشطت في بناء الكنس عند أسواره ككنيس
المدرسة التنكزيّة، وأسفل منه كقنطرة ويلسون، وفي محيطه ككنيس خيمة إسحاق وكنيس
هوفير. وكانت أبرز الأنشطة في هذا المجال خلال سنة 2010، حيث افتتحوا كنيس الخراب
(هاحوربا).
الحفريات تحت المسجد الأقصى مرت بعشر مراحل،
وبلغت الخطورة غايتها عندما فُرّغت الأتربة والصخور من تحت المسجد الأقصى وقبة
الصخرة، ما جعلهما تحت خطر الانهيار في أي لحظة بفعل أي زلازل طبيعية أو حتى
صناعية!
الخروج من التيه: لقد وُضعت أمتنا – بسلب
بيت المقدس – في تيه زاد عن تيه بني إسرائيل عندما حُرموا الدخول إلى الأرض
المقدسة أربعين سنة، لكن حرماننا نحن تحول إلى مواجهة عقدية ومصيرية مع الأمتين
الضالتين من يهود ونصارى، لا نظن أنها ستنتهي إلا مع أحداث آخر الزمان التي يقاتل
المسلمون فيها اليهود، فتحدث الآيات والمعجزات، لكن ذلك الأمر الغيبي القدري –
نعني مواجهة هؤلاء الأعداء والانتصار عليهم - لا يعني الوقوف عند ما ورد في ذلك من
أخبار، متذرعين بعقيدة «الانتظار»، بل المشروع في شريعتنا ألا يكون انتظار الأمور
الغيبية القدرية حائلاً أمام الامتثال للأوامر الشرعية والواجبات الدينية. وقد
استقرت في فقه تلك القضية أحكام شرعية قضت بها المجامع الفقهية المعتمدة والقيادات
العلمية الموثوقة، ولا نظن أنها قد تغيّر مناطها أو نُسخت أحكامها، ومن أهمها:
• أن تخليص بيت المقدس واجب
عيني على الأمة كافة لا تبرأ ذمتهم فيه حتى ينتدب منهم من يقوم به.
• أن توحيد الصف ولمَّ
الشمل والاعتصام بحبل الله في مواجهة المشروع الصهيوني من الفرائض الشرعية التي لا
يجوز التخلي عنها، أو التسويف فيها.
• أن إعداد العدة للقيام
بفريضة الجهاد لتحرير بيت المقدس سيظل واجباً على حكام الأمة وعلى الأمة بكل
كياناتها، حيث لا يُرفع هذا الواجب بادّعاء عجز أو إظهار تعاجز.
• أن إبرام معاهدات صلح أو
إجراء مفاوضات سلام مع العدو السالب لبيت المقدس، لتطبيع العلاقات معه، رغم
استمرار غصبه؛ يعدُّ خيانة لله وللرسول ولأمة المسلمين.
نسأل الله أن يعيد للقدس قدسيتها في
قلوب المسلمين، حتى تعود هي وباقي أراضيهم المسلوبة إلى حياض التوحيد وحماية
الموحدين.. آمين.
:: مجلة البيان العدد 319 ربيع الأول 1435هـ، يناير 2014م.