اغتيال «باتريس لومومبا» وذوبان جسده في الحمض لم يُخفِ وحشية الاستعمار البلجيكي الذي صوّر جرائمه كـ«مهمة حضارية»، فيما بقيت بقاياه رمزًا لفضح زيف الحضارة الغربية التي أسست بنيانها على القتل والنهب من الكونغو إلى غزة. فما يُرتكب اليوم من حصار وإبادة ليس سوى
في العام 2023م عاد
«فرانسوا
لومومبا»
إلى الكونغو الديمقراطية حاملًا ما تبقّى من جسد أبيه
«باتريس
لومومبا»،
بطل الاستقلال وأول رئيس وزراء للبلاد.
لم كن الجثمان جسدًا كاملًا، بل مجرد
«سنّ»
صغيرة انتُزِعَت من فكّه يوم اغتياله. تلك السّنّ احتفظ بها الضابط البلجيكي
«جيرار
سوتي»
كتذكار، بعد أن أشرف على إذابة جسد
«فرانسوا
لومومبا»
في حمض الكبريتيك، واصفًا ما فعله بأنه
«غنيمة
صيد».
لقد دفع
«لومومبا»
ثمن رغبته الحقيقية في تحرير شعبه من الاستعمار البلجيكي الذي جثم فوق أرضه لعقود
طويلة.
ملك بلجيكا يُنهي مهمة بلاده الحضارية
في عام 1960م، اصطفّ الكونغوليون حول قصر الأُمَّة؛ ليستمعوا إلى خطاب الملك
البلجيكي الذي أعلن انتهاء
«المهمة
الحضارية»
لبلاده!
كلمات مُنمَّقة صاغها الاستعمار ليُخْفِي قرنًا من النهب وقطع الأيدي واستعباد
الملايين. يقول:
«على
مدى 80 عامًا، أرسلت بلجيكا أفضل أبنائها إلى بلادكم؛ أولًا لتحرير حوض الكونغو من
تجارة الرقيق المقيتة، ثم لجمع الشعوب المتنازعة، وأخيرًا لإعدادكم لتشكيل دولة
إفريقية مستقلة».
وختم الملك كلمته بوصف انتهاء احتلال بلاده للكونغو بقوله:
«لقد
انتهت مهمتنا الحضارية»!
لكن في تلك اللحظة قام رجل طويل القامة، ببذلته البيضاء وشعره المشذّب، ليقلب
الموازين.
وقف رئيس الوزراء
«باترويس
لومومبا»
خلف الميكروفون، غير آبِهٍ ببروتوكول الحفل، وأعلن أن الاستقلال لم يكن منحة من
بلجيكا، بل ثمرة كفاح شعبٍ قدَّم الدماء في سبيل حريته، قائلًا:
«لن
ينسى أيّ كونغولي أنّ هذا الاستقلال انتزعناه بالكفاح؛ الكفاح المثابر المُلهِم،
والمتواصل يومًا بعد يوم، غير متهيبين الفاقة والمعاناة، والقتل والتشريد وقطع
الأيدي والأرجل، لن ينسى أيّ كونغولي العنف والإذلال الذي عاناه تحت الحكم البليجكي».
بتلك العبارات الفصيحة والنارية أنهى
«لومومبا»
خطاب الاستقلال.
ارتجّ القصر بهتافات الشعب من الخارج، وارتفعت أذرع الرجال والأطفال من دون أَكُفٍّ
تُلوّح في الهواء فرحًا بكلماتٍ أعادت الحياة لكرامتهم التي دفنها الاحتلال
البلجيكي، وانقبض وجه الملك وهو يستمع.
لكن ما أن انتهى الاحتفال حتى بدأت المؤامرة. لم تتحمَّل بلجيكا ولا واشنطن صوتًا
يفضح كذبهم، فدفعوا بعملائهم من الضباط الكونغوليين، وعلى رأسهم
«موبوتو
سيسي سيكو»،
لإسقاط
«لومومبا».
لم يقتله البلجيك بأيديهم، بل صاغوا مشهدًا أكثر بشاعة: إفريقي يقتل إفريقيًّا،
فيما يقف ممثل الملك البلجيكي شاهدًا على الإعدام. لم يتركوا الجثة حتى للقتلة، بل
تولوا بأنفسهم مهمة مَحْوها من الوجود. لكنّ السنّ الصغيرة التي بقيت صارت شاهدةً
على انهيار خطاب
«المهمة
الحضارية»،
ومثالًا صارخًا على ما تحمله تلك الحضارة من قسوة واحتقار للإنسان.
حين نتأمل صور الأيدي المبتورة في الكونغو تحت الاحتلال البلجيكي، وما رافقها من
مشاهد القتل والاغتصاب والتجويع؛ ندرك أن ما يُسمَّى بـ«الحضارة
الغربية»؛
لم يكن يومًا إلا وجهًا آخر للوحشية المقنَّعة.
مشهد ليس بعيدًا عمّا يعيشه أهلنا في غزة اليوم:
«حصار،
وتجويع، وتهجير، وإبادة جماعية».
المنبع واحد. الحضارة التي أقامت بنيانها على أشلاء الشعوب وأحلامها، من الكونغو
إلى الجزائر، ومن إندونيسيا إلى فيتنام، هي ذاتها التي تَمُدّ اليوم كيان الاحتلال
بحبل القوة، وتمنحه الغطاء ليمارس أبشع الجرائم أمام أعين العالم.
ليس غريبًا إذن أن يُذكِّر
«نتنياهو»
الرئيسَ الأمريكي السابق
«جو
بايدن»
بأنّ ما تفعله
«إسرائيل»
في غزة ليس سوى تكرار لما فعلته الولايات المتحدة من قبل في هيروشيما وناجازاكي.
ولا عجب أنْ ذكَّر قادة فرنسا بمجازرهم في الجزائر، وبريطانيا بمآسيها في الهند،
وهولندا بجرائمها في إندونيسيا. فالمشكاة واحدة، والميراث واحد، وإن اختلفت الأسماء
والأزمنة.
من الكونغو إلى غزة
هذه
«الحضارة»
قامت على أساسين:
1- الاستعمار بوصفه مشروعًا للسيطرة والإخضاع؛ حيث لا يُرى الإنسان إلا مادة
للاستغلال أو الإبادة.
2- تسويغ الجرائم بشعارات أخلاقية؛ من
«تمدين
الشعوب المتوحشة»
بالأمس، إلى
«محاربة
الإرهاب»
اليوم.
وإذا كان الماضي قد زُيِّف تحت أقلام المستشرقين ومؤرخي الإمبراطوريات، فإن الحاضر
مكشوف بالصوت والصورة. فغزة ليست مجرد قضية سياسية، بل هي مرآة تكشف عن استمرار
البنية الاستعمارية ذاتها، ولكن بوسائل جديدة.
إن حضارةً تُعيد إنتاج المذبحة مرةً بعد أخرى، من الكونغو إلى غزة، ليست حضارة
تنتمي إلى النور، بل إلى ظلامٍ عميق لا يزال يُلقي بظلاله على البشرية. ولذا فإن
مواجهة المشروع الصهيوني ليست شأنًا فلسطينيًّا خالصًا، بل هي وقوف في وَجْه ميراث
استعماري مُتجدِّد يُهدِّد قِيَم العدالة والإنسانية في العالم كله.
لكنّ أُمَّة ابتعثها الله لتُخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده،
ومِن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام؛ ما زالت تُقدِّم
قوافل الشهداء، ولم تُنْهِ مهمتها الحضارية بعدُ.