منديل أخضر حريري لفّه ليلتها في حقل شاسع تتموج فيه السنابل الخضراء، طيور خضراء تملأ الفضاء، تُغرّد فوق رأسه وترفرف حوله، كان يستشعر برودة رفرفتها فوق صدره، حتى لاح شعاع ضئيل من بعيد، كان قادمًا من السماء،
نظَر بعينين فاترتين إلى موضع المبنى، لم ير شيئًا، فرَك عينيه، وحدّق أكثر، إنه
ركام من إسمنت وحديد وأكوام من الأشياء، لقد قصفته آليات العدو ليلة أمس بطائرة
حربية بعدما أيقنت هزيمة جندها النكراء في الكمين المُحكَم.
أخرَج جسده من وسط الركام، ونظَر في الأرجاء لعلّه يلتقط حركة أحد الأحياء أو يسمع
حشرجة صدر لا يزال يعلو ويهبط... لا شيء ثمة غير الدمار، وناقلات جند ودبابة تناثرت
صفائحها، وأجزاؤها مُزّقت كل ممزق، وهناك بعض اللهيب، وأدخنة لا تزال تغزلها
الآليات.
افترّ ثغره عن بسمة أعلنت إحساسًا بالانتشاء، سار بضع خطوات، ثم وقف كمّن تذكّر
شيئًا، تحسَّس جيب سترته الخضراء، إنها لا تزال في الجيب، سار فوق الركام وكفّه
تشدّ على السلاح الرشاش بقوة.
عليه أن يتوجّه نحو الحي الجنوبي، فابنه وزوجته في انتظار عودته، بعد تنفيذ عملية
أمس، لكنه قد لا يعود إلا بعد تنفيذ العملية التالية، فأفراد المقاومة سيشرعون في
الإعداد للعملية القادمة، لقد نجح في استدراج الدبابة وآليات عسكرية لنقل الجند،
لتكون على مرمى الهدف، كان عليه أن يركض سريعًا نحو خندق فيحشر نفسه داخله حمايةً
لنفسه من تناثر شظايا الحديد، ارتطم لحظة الانزلاق في الخندق مع جزء صخري فظل هناك
ليلتها غارقًا في غيبوبته، كان في قرارة نفسه يتمنّى لو أنه لم يستيقظ؛ فيظفر
بالشهادة.
منديل أخضر حريري لفّه ليلتها في حقل شاسع تتموج فيه السنابل الخضراء، طيور خضراء
تملأ الفضاء، تُغرّد فوق رأسه وترفرف حوله، كان يستشعر برودة رفرفتها فوق صدره، حتى
لاح شعاع ضئيل من بعيد، كان قادمًا من السماء، أصاب سحنته الذاهلة ففتح عينيه داخل
الخندق، مدّ يديه نحو الأعلى، وأخذ يزيح بعض الحجارة التي سدّ معظمها المدخل.
صوت أنين طفولي تناهى إلى سَمْعه غير بعيد، فيه رقة تختلط بنغمة الألم، اقترب بحذر
شديد، مسح الأرجاء بعينيه وسبابته على الزناد، حزام الرصاصات على صدره يتوج
البطولة، خصلات شعر أسود انسدلت فوق قِطَع الإسمنت، ووجه صغير يلتمع رغم خدوشه في
وضح النهار، برزت منه عينان جميلتان اتسعت حدقتهما كأنهما تعلنان عن البقاء.
نظرت إليه كأنها تعرفه من زمان بعيد، أزال الركام المحيط بالجسد الصغير، أخرجها
برفق، كانت كفّها الصغيرة تعضّ على دميتها الشقراء، حملها بين يديه من المكان،
وقال: لا تخافي، سآخذك إلى مكان آمِن، ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم أغمضت جفنيها،
رأسها يتدلى فوق منكبيه، وهو يسرع بالجسد الصغير إلى مخيم قريب لتتلقّى العلاج.
أزيز قادم ارتجت له الأرض، توقفت الأقدام، تراجع القهقرى، موضع على مقربة من نصف
جدار، وضع الطفلة بهدوء، نظر إلى كفها، لقد أسقطت الدمية، تململ الجسد ليبتسم في
وجهه من جديد، جسّ النبض، لقد توقف الصدر الصغير، قبَّلها، مسح على وجهها الطفولي
البريء، وقال: هناك في السماء ستجدين كل شيء، عزيزتي!
تحسَّس جيب السترة، أخرج المنديل الأخضر الحريري، غطَّى الجسد الممدد على الأرض،
أخذ القنبلة التي كانت بداخله، وضعها في جيب سرواله العسكري، زحف فوق الركام بهدوء
كحية خبرت شعاب الغاب، اقترب من العدو، ناقلة جند تتقدّمها دبابة «ميركافا»، ظل في
مكانه يرقب ويخطط، انفجار قوي يهزّ الدبابة، يشتعل وسطها، يمتد اللهيب إلى بقية
الأجزاء، يُجَنّ مَن في الناقلة، يرشقون الرصاص خبط عشواء في كلّ اتجاه.
الأقدام تقف منتصبة كنخلة، ترشق الرصاصات التي تبدأ في الـتآكل من الحزام، ترمي
اليد بالقنبلة، تنفجر الناقلة، رصاصة في الضلع الأيمن تخترق السترة، يتحامل الجسد
على نفسه، يرشق ما تبقَّى من رصاصات، ثم يهوي كورقة خريف من غصن البطولة.
سبابة ترتفع، وتمتمات باسمة، طيور خضراء ترفرف فوق الجسد المسجَّى، ومنديل أخضر جاء
من السماء حطّ فوق الجسد، أجسام قوية منتصبة ترتدي ملابس خضراء تعانق أسلحتها، وقفت
عند رأسه تشتم عبق القرنفل يفوح من المنديل الأخضر، وترقب السماء، وهي تمسح على
صدره بأنداء رطيبة تحت شمس النهار.