• - الموافق2025/03/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العلامة عبد الحميد بن باديس:  رائد التنوير في الجزائر وقاهر الخرافة والدجل

ولا يمكن لأيّ حديث عن نضال الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي أن يكتمل دون الإشارة إلى هذا الرمز الثقافي الذي أسَّس حركة إصلاحية جعلت من محاربة الأفكار البالية والخرافات إحدى أولوياتها.


في ظل معركة الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي، برز عبد الحميد بن باديس واحدًا من أبرز القادة الذين حملوا على عاتقهم مهمَّة استعادة الهوية الثقافية والدينية للشعب الجزائري.

لم يقتصر نضاله على مقاومة الاحتلال، بل تخطّاه ليشمل مواجهة الخرافات والشعوذة التي كانت تُهدِّد بنسيان الأجيال لثقافتهم الأصلية.

 ابن باديس لم يكن مجرد عالِم ديني، بل مُفكّر تنويري طوّر أفكارًا مناهضة لكل ما يُعيق تطور المجتمع الجزائري، مشددًا على أهمية التعليم في محاربة الجهل والدَّجل. ومن خلال المدارس التي أسَّسها، والأفكار التي نشرها؛ رسم ابن باديس خارطة طريق للأجيال القادمة لبناء جزائر وطنية وحرة فكريًّا.

ويُعدّ العلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس واحدًا من أعظم المفكرين والمصلحين الذين مرُّوا على تاريخ الجزائر؛ فهو الرجل الذي جعل من محاربة الخرافات والشعوذة والتدجيل جزءًا من نضاله الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.

ولا يمكن لأيّ حديث عن نضال الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي أن يكتمل دون الإشارة إلى هذا الرمز الثقافي الذي أسَّس حركة إصلاحية جعلت من محاربة الأفكار البالية والخرافات إحدى أولوياتها.

نشأة عبد الحميد بن باديس وأثرها على فكره

وُلِدَ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- في 6 ديسمبر 1889م في مدينة قسنطينة الجزائرية، التي كانت آنذاك تحت الاستعمار الفرنسي. نشأ في أسرة جزائرية دينية ذات اهتمام بالتعليم؛ حيث تعلم القرآن الكريم في صِغره، ثم انتقل إلى المدارس التقليدية ليتعلم أساسيات العلم الشرعي واللغة العربية. لكنَّ فكر ابن باديس لم يقتصر على ما تعلَّمه في تلك المدارس؛ إذ كان له نصيب من التعليم العصري الذي تلقاه في تونس ثم في باريس، وهو ما أثَّر في تشكيل مفاهيمه الإصلاحية.

انتقل ابن باديس إلى تونس؛ حيث درس في جامع الزيتونة، وكان لهذا تأثير واضح في تكوينه الفكري. ثم عاد بعد فترة إلى الجزائر، وهو يحمل أفكارًا ثاقبة حول ضرورة تحديث التعليم في الجزائر، محاربًا بذلك الجهل الذي كان يهيمن على العديد من مناطق البلاد بسبب الاحتلال الفرنسي.

وعندما عاد إلى الجزائر، بدأ عمله في نشر الفكر الإصلاحي الذي يَعتبر أن التعليم هو الخطوة الأولى نحو التحرر الوطني والاقتصادي والثقافي.

النضال ضد الخرافات والشعوذة

عندما بدأ ابن باديس في نشر أفكاره، كان يُواجه مجتمعًا يسوده الجهل والتخلف، وكانت العديد من الممارسات الخرافية والشعبية منتشرة. كان ذلك نتيجة لسنوات طويلة من الاستعمار الذي سعى إلى تقويض التعليم والثقافة الوطنية، مما سمح بانتشار الخرافات والتقاليد التي لا علاقة لها بالدين الإسلامي الصحيح.

في هذا السياق، بدأ عبد الحميد بن باديس في التوجُّه نحو محاربة الخرافات التي كانت تُمارَس في بعض القرى الجزائرية؛ إذ كان العديد من الناس يتَّبعون طقوسًا غير علمية أو دينية لحل مشكلاتهم.

وكان ابن باديس يرى أن محاربة هذه الممارسات تتطلب تصحيح المفاهيم الدينية والعلمية في المجتمع؛ من خلال تجديد الخطاب الديني، وتعليم الناس كيفية التفكير النقدي.

وفي محاضراته وخُطَبه، كان يتحدَّث عن ضرورة العودة إلى الإسلام الصحيح الذي يدعو إلى استخدام العقل والعِلْم في فهم النصوص الدينية، بعيدًا عن الخرافات والطقوس المُبتدَعة.

من أبرز ما قام به ابن باديس في هذا الإطار هو مقاومته للأفكار الخاطئة التي كانت تُروِّجها بعض الشخصيات الدينية التي اتخذت من الدين وسيلة للربح الشخصي. وكان يصف هذه الممارسات بأنها مجرد تدجيل وتضليل للرأي العام، فاستغل هذه القضايا ليقترح بديلاً علميًّا عقلانيًّا على طريقتهم. وكان يعتقد أن المجتمع لا يمكن أن يتقدَّم إذا استمر في الخضوع للخرافات، وأن الإسلام الصحيح هو الذي يدعو إلى التفكر والعقل، لا إلى الخضوع للطقوس المُضلِّلة.

تأسيسه للمدارس وتغيير المفاهيم

لا شك أن أبرز الإنجازات التي حقَّقها عبد الحميد بن باديس كانت في مجال التعليم؛ فبعد عودته إلى الجزائر، عمل على تأسيس مجموعة من المدارس الجزائرية التي كانت تُركِّز على تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي؛ حدث هذا في وقتٍ كانت فيه السلطات الاستعمارية تسعى إلى فرض اللغة الفرنسية وطَمْس الهوية الثقافية الجزائرية، لكنّ ابن باديس كان يُدرك أن قوة الأمة تكمن في تعليمها ومحو الأمية، وبالتالي بدأ في تأسيس المدارس التي تُعلِّم الأطفال الجزائريين لُغتهم الأم وعلوم دينهم وثقافتهم.

وفي عام 1931م، أسَّس «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، التي كانت تهدف إلى إصلاح التعليم وتحديث الفكر الديني في الجزائر. هذه الجمعية كانت في واقع الأمر حركة فكرية شاملة، حملت على عاتقها نشر التعليم العربي والإسلامي في جميع أنحاء الجزائر. كانت هذه المدارس والمراكز التعليمية لا تقتصر على تعليم المواد التقليدية فقط، بل كانت تُركّز أيضًا على تثقيف الناس حول كيفية التفكير السليم في الشؤون الدينية والفكرية.

وقد عمل ابن باديس على تدريب جيل جديد من المُعلّمين الذين سيحملون لواء التعليم في الجزائر بعد الاستقلال، وكان هدفه ليس فقط تعليم الموادّ الأكاديمية، ولكن أيضًا بثّ الروح الوطنية والهوية الجزائرية في نفوس الطلاب، بعيدًا عن التأثيرات الاستعمارية التي حاولت تهميش الثقافة الوطنية.

مكافحة الدجل والخرافات في المجتمع الجزائري

في الوقت الذي كان يسود فيه الجهل وتنتشر الخرافات في العديد من المناطق الجزائرية؛ كان ابن باديس يُواجه تحديات كبيرة في محاربة هذه الظواهر. فالمجتمع الجزائري كان يعاني من تأثيرات الاستعمار الثقافية والدينية؛ حيث كان البعض يُصدِّقون أو يتَّبعون العديد من الأفكار والممارسات التي لا علاقة لها بالإسلام الصحيح.

وكان ابن باديس يرى أن الدَّجل والخرافات لم تكن فقط مرتبطة بالممارسات الشعبية، بل كانت هناك محاولات من بعض الشخصيات الدينية لاستغلال الناس وادعاء قدرات خارقة. وقد تحدَّث في العديد من خُطَبه عن ضرورة العودة إلى الإسلام الصحيح الذي يَحُثّ على التفكير والعقل، ويرفض أيّ محاولات لاستخدام الدِّين لأغراض شخصية.

كما حارَب ابن باديس العادات التي كانت تنتشر في بعض المناطق، مثل الذهاب إلى السحرة والمشعوذين، وادعاء القدرات الخارقة. وكان يُشدِّد على أهمية التعليم باعتباره وسيلة أساسية لمحاربة هذه الممارسات الباطلة، وأكَّد أن الإسلام يرفض السحر والشعوذة ويعتبرهما من أفعال الشيطان.

موقفه من دعاة المِلَل والنحل

كان ابن باديس أيضًا من أشد المعارضين للتيارات الفكرية التي كانت تدعو إلى الفُرْقَة والانقسام داخل المجتمع الجزائري. فقد رأى أن هذه الدعوات، سواء كانت دينية أو سياسية، تُشكِّل تهديدًا للوحدة الوطنية الجزائرية، خاصةً في ظل الظروف الاستعمارية القاسية.

وقد انتقد ابن باديس بشدة أولئك الذين كانوا يحاولون نشر أفكار تدعو للانقسامات بين المسلمين، أو الذين كانوا يتبنون أفكارًا تخالف تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة؛ حيث كان يُؤكّد أن الجزائر بحاجة إلى الوحدة من أجل النهوض والاستقلال، وأن أيّ دعوة لتقسيم المجتمع أو تشتيته هي بمثابة خدمة للمستعمر الفرنسي.

وكان يُروِّج لفكرٍ إصلاحيّ معتدل ومتوازن بعيدًا عن التطرُّف والانقسامات الداخلية، داعيًا إلى العودة إلى القِيَم الإسلامية السمحة التي تدعو إلى التعايش والتسامح والعدل.

خــاتمة

لقد ترك عبد الحميد بن باديس إرثًا عظيمًا في الجزائر، سواء على صعيد الفكر أو العمل الوطني. من خلال محاربته للخرافات والشعوذة والتدجيل، وأسهَم في بناء أُمَّة جزائرية قادرة على التفكير والنهوض بثقافتها. وكان هو القائد الفكري الذي حمل راية العلم والتعليم في وقتٍ كان فيه الاحتلال الفرنسي يُحاول بشتَّى الطرق مَسْخ الهوية الجزائرية.

كانت حركة ابن باديس الفكرية نهضة حقيقية، وأرست قواعد التعليم والإصلاح في الجزائر والتي استمر تأثيرها بعد الاستقلال. وإن فكر ابن باديس لا يزال حيًّا في الجزائر؛ حيث يظل رمزًا للتنوير والمقاومة ضد الجهل والظلم، ويظل أحد أعظم المفكرين الذين أسهموا في بناء الوعي الديني والوطني في الجزائر.

 

 

 

أعلى