تميزت عبادة الصيام بتلك الخاصية التي جاءت في الحديث القدسي في قول الله -سبحانه-: «إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به»؛ فلَمَّا كان ثَوابُ الصِّيام لا يُحْصِيه إلَّا اللهُ -تعالَى-، لم يَكِله -تعالَى- إلى مَلائكتِه، بلْ تَولَّى جَزاءَه -تعالَى- بنفْسِه، والله
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
رمضان هو شهر الخير والبركات، شهر يُجدِّد فيه المسلمون صِلَتهم بالله، ويُقْبِلُون
على الطاعات، ويُحَسِّنون من أخلاقهم، وينهلون من دروسه الكثيرة والعظيمة.
ومن أبرز القِيَم التي يُرسِّخها في نفس المسلم: فضيلة «الصبر»؛ تلك الفضيلة التي
تُعدّ مفتاحًا للنجاح في الدنيا والآخرة.
ولا غرابة في ذلك؛ فقد سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بـ«شهر
الصبر»؛ كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر؛ صوم الدهر، ويُذْهِب مَغَلَّة
الصَّدْر»، قال: قلت: وما مَغَلَّة الصدر؟ قال: «رِجْس الشيطان»[1].
قال ابن رجب الحنبلي: «وأفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع
الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله -عز وجل-، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك
شهواته لله، ونفسه قد تنازعه إليها»[2].
والصبر في رمضان ليس درسًا مفردًا بذاته من دروس رمضان، بل هو مجموعة دروس يتلقاها
الصائمون، ويعيشونها واقعًا في هذا الشهر الفضيل، ويمكن إجمال هذه الدروس فيما يلي:
1- الصبر على الجوع والعطش
الصيام هو العمل الأساس الذي يقوم عليه رمضان، وهو تدريب عملي على الصبر الجسدي،
فعندما يمتنع المسلم عن الطعام والشراب لفترة طويلة، يتعلم كيف يتحمَّل المشقة
الجسدية، ممَّا يُقوِّي إرادته، ويُعلِّمه التحكُّم في شهواته، وكيف يسيطر على
رغباته، ممَّا يساعده في مواجهة التحديات الأخرى في الحياة.
كما أن الشعور بالجوع والعطش يُذكِّر المسلم بمعاناة الفقراء والمحتاجين، مما
يُعزِّز لديه روح العطاء والرحمة.
2- الصبر على إخلاص النية
تميزت عبادة الصيام بتلك الخاصية التي جاءت في الحديث القدسي في قول الله -سبحانه-:
«إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به»؛ فلَمَّا كان ثَوابُ الصِّيام لا يُحْصِيه إلَّا
اللهُ -تعالَى-، لم يَكِله -تعالَى- إلى مَلائكتِه، بلْ تَولَّى جَزاءَه -تعالَى-
بنفْسِه، واللهُ -تعالَى- إذا تَولَّى شَيئًا بنفْسِه دلَّ على عِظَمِ ذلك الشَّيءِ
وخَطَرِ قَدْرِه، وبيَّن -سبحانه- سبب هذه الخاصية بقوله: «يَدَعُ شَهْوَتَهُ
وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»[3]؛
فالصائم يجد فقد شهوته، وتتوق نفسه إليها، وهذا لا يوجد بهذه المدة في غير الصيام،
لا سيما في نهار الصيف لطوله وشدة حرّه، وترك الإنسان ما يشتهيه لله -تعالى- هو
عبادة مقصودة يُثاب عليها، ولأن الصيام سرّ بين العبد وربه لا يَطَّلع عليه إلا
الله -تعالى-، فهو عمل باطن لا يراه الخلق ولا يدخله رياء.
ومن هنا يتعلم المسلم أن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة وصبر، فيُنقِّي المسلم قلبه
وعمله من كل شائبة تنافي الإخلاص ليسلم له عمله ويعظم أجره؛ ﴿فَمَنْ كَانَ
يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
3- الصبر على الطاعات
رمضان هو شهر تكثيف العبادات، مثل الصلاة، وقراءة القرآن، والذِّكر، والدعاء، وقيام
الليل، وغيرها، وهذه العبادات تتطلب صبرًا ومثابرةً، خاصةً مع انشغالات الحياة
اليومية. والصبر هنا يعني:
- أداء هذه العبادات:
مثل صلاة التراويح والقيام والتهجد، والتي قد تكون طويلة وتتطلب جهدًا بدنيًّا،
والمعتكف في العشر الأواخر لا يخرج من المسجد إلا لقضاء حوائجه الضرورية، ولا ريب
أن هذا العمل يحتاج إلى الصبر العظيم؛ لأن المعتكف ينقطع عن الدنيا وعلائقها، ويترك
بيته وأهله وعمله وأمواله وأشغاله، ولا ينشغل إلا بطاعة الله من ذِكْر وقراءة قرآن،
وصلاة ودعاء واستغفار، ويتجنَّب تمامًا ما لا يَعنيه من حديث الدنيا، ولا يخرج من
المسجد لبيع أو شراء، ولا لعيادة مريض ولا شهود جنازة.
- والمواظبة على أدائها:
فختم القرآن في رمضان يتطلب صبرًا على القراءة اليومية، والتفكر والتدبر في الآيات،
كما أن أجر قيام رمضان يتطلب المواظبة على صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف كل
ليلة، والدعاء يتطلب الصبر على تكراره، وانتظار الاستجابة من الله، خاصةً أن حال
الصيام من أسباب الإجابة، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثُ دعواتٍ مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المسافر،
ودعوة المظلوم»[4].
وهذا النوع من الصبر يُقوِّي العلاقة مع الله، ويزيد من التقوى؛ كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة:
153]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: ٥٤]،
وقوله: سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31].
4- الصبر عن المعاصي
في شهر رمضان، يتعلم المسلم كيف يكبح جماح نفسه عن ارتكاب المعاصي، سواء كانت معاصي
اللسان مثل الغيبة والنميمة، أو معاصي الجوارح مثل النظر إلى المحرمات أو الاستماع
لها. هذا النوع من الصبر يُعدّ من أصعب أنواع الصبر؛ لأنه يتطلب مراقبةً دائمة
للنفس، ومجاهدةً حقيقية للشيطان؛ فالصبر هنا هو سلاح المؤمن في مواجهة الشهوات
والملذات المحرمة.
والصبر هنا يعني:
-
ضبط اللسان:
الامتناع عن الكلام السيئ والجدال غير المفيد.
-
ضبط السمع والبصر:
تجنُّب النظر أو الاستماع إلى المُحرَّمات، سواء في الواقع، أو عبر الشاشات، أو
شبكة الإنترنت وغيرها.
- ضبط الانفعالات النفسية:
مقاومة الغضب والانفعالات السلبية.
هذا النوع من الصبر يتطلب مجاهدة حقيقية للنفس، ولكنه يعود بفوائد عظيمة؛ حيث يعتاد
المسلم على التحكم في سلوكياته، ويزيده تقوى لله وخشية وإنابة.
5- الصبر على مشاق الحياة
شهر رمضان قد يأتي في أوقات مختلفة من السنة، وقد يكون النهار طويلًا أو الجو
حارًّا أو باردًا. هذه الظروف تتطلب صبرًا إضافيًّا؛ حيث يتعلم المسلم كيف يتكيَّف
مع الظروف الصعبة، وكيف يُواجه التحديات بصبرٍ وثباتٍ، وهذا النوع من الصبر يُعلِّم
المسلم:
- التكيُّف مع الظروف:
القدرة على تحمُّل المشاق والتغيُّرات في البيئة المحيطة.
- قوة التحمُّل:
الصبر على التعب والإرهاق الناتج عن الصيام والعبادات.
6- الصبر على العلاقات الاجتماعية
رمضان هو شهر التواصل الاجتماعي؛ حيث تكثر الزيارات العائلية والاجتماعات مع
الأصدقاء، وكذلك تكثر الاجتماعات مع عموم الناس في المساجد والأسواق، هذه التفاعلات
تتطلب صبرًا، خاصةً عند التعامل مع اختلافات الرأي أو المشكلات. والصبر هنا يعني:
- التسامح:
الصبر على أخطاء الآخرين، والعفو عنهم؛ امتثالًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا
كانَ يَوْم صَوْم أحَدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قَاتَله،
فليقل: إني صائم، إني صائم»[5]،
لا يقدر على ذلك إلا الصابر الذي قهَر نفسه لأجل رضا الله -تعالى-، وذلَّت نفسه
لعظمته.
- التعاون:
الصبر على مساعدة الآخرين، وتقديم الدعم لهم، خاصةً في إعداد وجبات الإفطار أو
المشاركة في الأعمال الخيرية التي تكثر في رمضان، ويحرص عليها عموم الناس.
7- الصبر على النفس والذات
شهر رمضان فرصة للمراجعة الذاتية، والتأمل في السلوكيات والأفكار. والصبر هنا يعني:
- التفكُّر:
الصبر على التفكُّر في الذات، وتحليل الأخطاء والعيوب.
- التغيير:
الصبر على العمل على تحسين الذات، وتقويم الأخلاق والسلوكيات.
8- الصبر على انتظار الفرج
شهر رمضان يُعلِّم المسلم أن الصبر هو مفتاح الفرج، وأن كل مشقة يتحمّلها في سبيل
الله ستُعوَّض بأجر عظيم.
وهذا يتجلَّى في انتظار لحظة الفطر كل يوم، فبعد ساعات طويلة من الصيام يأتي الفطر
ليفرح الصائم بذلك، ويتطلع إلى الفرحة الكبرى؛ كما في حديث: «للصَّائمِ فرحتان:
فرحةٌ حينَ يُفطرُ، وفرحةٌ حينَ يَلقى ربَّهُ»[6].
وهذا النوع من الصبر يُعزِّز الثقة بالله ويُقوِّي الإيمان، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6].
رمضان شهر الصبر، فالذي يصوم رمضان وهو منضبط انضباطًا تامًّا شهرًا كاملًا، لا بد
أن يخرج من هذا الشهر وقد اكتسب صفة الصبر، بل تغذَّى بالصبر، فالذي صبر عن الحرام،
وصبر عن الأكل والشرب، وصبر على صلاة التراويح والتهجد، وصبر على كفّ الأذى، وصبر
على ما نهى رسول الله عنه؛ «فإن شاتَمه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم»[7]؛
لا بد أن تكون صفة الصبر قد توطَّدت لديه.
والصبر في رمضان هو رحلة إيمانية لا تقتصر على الشهر نفسه، بل يمتد تأثيرها إلى
بقية العام، تُعلِّم المسلم كيف يكون أقوى وأكثر تحملًا، ليس في مواجهة الجوع
والعطش فقط، بل أيضًا في مواجهة تحديات الحياة ومصاعبها، ورمضان هو فرصة وأيّ فرصة
لتعزيز هذه الفضيلة العظيمة، والتي تُعدّ مفتاحًا للنجاح في الدنيا والآخرة؛ «وَمَا
أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِن الصبْرِ»[8].
وليتحقق موعود الله -تعالى- للصائمين الصابرين، والذي جاء في قوله تعالى: ﴿
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]،
وقوله في الحديث القدسي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي
وأنا أجْزِي به»[9].
[1] أخرجه الترمذي (٧٦٢)، وابن ماجه (١٧٠٨)، والنسائي (٢٤١٠)، وأحمد (٢١٣٦٤) واللفظ
له، وقال محققو المسند: صحيح لغيره.
[2] جامع العلوم والحكم - ت الفحل ١/٥٠٦.
[3] أخرجه البخاري (٧٤٩٢) مختصراً، ومسلم (١١٥١) واللفظ له.
[4] أخرجه أبو داود (١٥٣٦)، والترمذي (١٩٠٥)، وابن ماجه (٣٨٦٢)، وصححه الألباني في
صحيح الجامع (٣٠٣٠).
[5] أخرجه البخاري (١٩٠٤)، ومسلم (١١٥١).
[6] أخرجه البخاري (٧٤٩٢)، ومسلم (١١٥١).
[7] أخرجه البخاري (٥٩٢٧)، ومسلم (١١٥١).
[8] أخرجه البخاري (١٤٦٩).
[9] أخرجه البخاري (٥٩٢٧)، ومسلم (١١٥١).