وقد ظهر لي حقيقة واضحة مع ذلك، هي أن حياة المسلمين اليوم حياة بعيدة كل البعد عن الحياة المثالية التي يمكن أن تُحققها لهم تعاليم الإسلام، فكلّ ما كان في الإسلام من قوًى دافعة ومن حركة، انقلب بين المسلمين إلى كسل وجمود، وما كان فيه من كرم واستعداد لبذل الرو
يُعدّ «ليوبولد فايس»[1] -أو «محمد أسد» بعد إسلامه-، نموذجًا رائعًا للباحثين عن الحقيقة، وواحدًا من عشاق المعرفة ونزاهة الفكر والرأي، وطرازًا نادرًا من الرّحالة في عالم الأرض، وفي عالم الفكر والروح، وقد ارتبط بالحرمين الشريفين ارتباطًا وثيقًا، وأحبَّ أهلها، واعتبر بلاد الحرمين موطنه، وصار من أتباع الملك عبد العزيز -رحمه الله- ومن أخلص خلصائه.
وكان اعتناقه -رحمه الله- للإسلام عام 1926م، إعلانًا مقنعًا بقدرة الإسلام على استقطاب الحيارى الذين يبحثون عن الحقيقة، وقد جاء إسلامه نتيجة لسنوات عديدة من التجوُّل في العالم الإسلامي والاختلاط بشعوبه، والتعمُّق في ثقافته، واطلاعه الواسع على تراثه، بعد إجادته للغة العربية والفارسية.
رحلته إلى الإسلام
يقول محمد أسد عن بداية رحلته في الشرق الإسلامي: «في سنة 1922م غادرتُ موطني النمسا للسفر في رحلة إلى إفريقيا وآسيا لأعمل مراسلًا خاصًّا لبعض الصحف الأوروبية الكبيرة، ومنذ تلك السنة وأنا أكاد أقضي كل وقتي في بلاد الشرق الإسلامية، وكان اهتمامي بادئ الأمر بشعوب هذه البلاد التي زُرْتها، وهو ما يشعر به الرجل الغريب.
ورأيت أول ما رأيت مجتمعًا يختلف في مظهره كل الاختلاف عن المجتمع الأوروبي، وبدأت منذ الوهلة الأولى أحسّ بميل ينساب في نفسي، ويزداد نحو ذلك اللون الهادئ المستقر من فلسفة الحياة، بل أقول الحياة الإنسانية إذا قُورنت بالأسلوب الميكانيكي الموسوم بالسرعة في حياة الأوروبيين.
هذا الميل بدأ يُوجِّه شعوري تدريجيًّا إلى دراسة هذا الاختلاف، وبدأت أهتم بدراسة التعاليم الدينية في الإسلام، على أنني في ذلك الوقت لم أشعر بدافع قويّ يكفي ليجذبني إلى اعتناق الإسلام، إلا أنني بدأت أرى صورة حية لمجتمع إنساني متطوّر يكاد يخلو نظامه من التناقضات الداخلية، ويتَّسم بأوفر قسط من الشعور الأخوي الصحيح.
وقد ظهر لي حقيقة واضحة مع ذلك، هي أن حياة المسلمين اليوم حياة بعيدة كل البعد عن الحياة المثالية التي يمكن أن تُحققها لهم تعاليم الإسلام، فكلّ ما كان في الإسلام من قوًى دافعة ومن حركة، انقلب بين المسلمين إلى كسل وجمود، وما كان فيه من كرم واستعداد لبذل الروح أضحى بين المسلمين اليوم ضيقًا في الأفق العقلي وحبًّا للحياة السهلة الوادعة، وقد تملكتني الحيرة عندما رأيت ذلك، ورأيت التناقض العجيب بين ما كان في ماضي المسلمين وبين حاضرهم فحفَّزني ذلك إلى زيادة العناية بهذا اللغز الذي رأيته.
وقبل إسلامه كان «ليوبولدفايس» دائم التساؤل والبحث عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المُشِعَّة التي قرأ عنها. وفي يومٍ راح يحاور بعض المسلمين منافحًا عن الإسلام، ومحمّلًا المسلمين تَبِعَة تخلُّفهم عن الشهود الحضاري؛ لأنهم تخلَّفوا عن الإسلام؛ ففجَأه أحد المسلمين بهذا التعليق: «فأنت مسلم، ولكنك لا تدري»، فضحك فايس قائلاً: «لستُ مسلمًا، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يَجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يُضيّعونه»، وهذه الكلمة هزَّت أعماقه، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها، وظلت تلاحقه مِن بعد حتى نطق بالشهادتين.
وجاء إسلام محمد أسد ردًّا حاسمًا على اليأس والضياع، وإعلانًا مقنعًا عن قدرة الإسلام على استقطاب الحائرين الذين يبحثون عن الحقيقة؛ يقول عبد الوهاب عزام عن إسلامه: «إنه استجابة نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وإعجاب قلب كبير بالفطرة السليمة، وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال».
الطريق إلى مكة
يُعتبر كتاب «الطريق إلى مكة»[2]، من أهم الكتب التي ألَّفها محمد أسد، وسطَّر فيها رحلته إلى الإسلام وإلى الجزيرة العربية مهبط الوحي، فنجده يقول في هذا الكتاب عن رحلته إلى الإسلام: «جاءني الإسلام متسللًا كالنور إلى قلبي المظلم، ليبقى فيه إلى الأبد، والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه، فالإسلام بناء تامّ الصنعة، وكل أجزائه قد صِيغَت ليُتمَّ بعضها بعضًا، ولا يزال الإسلام -بالرغم من جميع العقبات التي خلَّفها تأخُّر المسلمين- أعظم قوة ناهضة بالهِمَم عرفها البشر، لذلك تجمَّعت رغباتي حول مسألة بَعْثه من جديد».
ويقول: «إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة؛ إذ يهتم اهتمامًا واحدًا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد والمجتمع، ويهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من طاقات، إنه ليس سبيلًا من السبل، ولكنه السبيل الوحيد، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهداة، ولكنه الهادي»، ويضيف: «إن الرجل الذي أُرسل رحمةً للعالمين، إذا أبينا على هُدَاه، فإن هذا لا يعني شيئًا أقل من أننا نأبى رحمة الله».
ويقول: «إن الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة، ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا، ولا يُؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يُتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدّ من غير أن يُضيِّع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطًا للنجاة في الآخرة، وفي الإسلام لا يحق لك فحسب، بل يجب عليك أيضًا أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة. إن مِن واجب المسلم أن يَستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يُشرِّف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية. الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو».
مشهد الصلاة
ويقدم في كتابه هذا مشهدًا من المشاهد التي أثَّرت فيه وحبَّبته في الإسلام، وذلك عندما دخل الجامع الأموي في دمشق، ورأى مئات المصلين وهم يصطفون في صفوف طويلة منتظمة خلف الإمام، يفعلون ما يفعل في نسق واحد، وبصمت مثل الجنود، وهم يسمعون صوت الإمام يتلو آيات القرآن الكريم، ويقول أسد: «إنه في تلك اللحظة أدرك مدى قرب الله منهم وقربهم منه، وأن صلاتهم لا تنفصل عن حياتهم اليومية، بل وتُعينهم على نسيان مآسيهم، وما يُعكِّر صفو حياتهم، ما أعظم هذا الشعور أن الله قريب منهم! وما الذي يمكن أن يحسّوه غير ذلك»، ويقول أسد: «إنه تمنَّى أن يملأ قلبه هذا الشعور، وأحسّ بضرورة فهم روح تلك الشعوب المسلمة؛ لما وجده فيهم من تلاحم عضوي بين الفكر والحواس، ذلك التلاحم الذي فقده الأوربيون».
الإفاضة مع الحجيج
وعندما قام برحلته للحج انبهر بما شاهده في البقاع المقدسة ومدن الحجاز، فوصف إفاضته مع الحجيج من عرفات بقوله: «ها نحن أولاء نمضي عَجِلين، مستسلمين لغبطةٍ لا حدّ لها، والريح تعصف في أُذني صيحة الفرح، لن تعود بعدُ غريبًا، لن تعود، إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرف، وليس فيهم من غريب، فنحن في التيار المصطخب جسد واحد، يسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتَّقد في قلوب أصحاب رسول الله، يعلم إخواني أنهم قصَّروا، ولكنهم لا يزالوا على العهد، سيُنْجِزُون الوعد لبيك اللهم لبيك، لم أَعُد أسمع شيئًا سوى صوت لبيك، في عقلي، ودويّ الدم وهديره في أذني، وتقدَّمت أطوف، وأصبحت جزءًا من سيل دائري، لقد أصبحت جزءًا من حركة في مدار، وتلاشت الدقائق، وهدأ الزمن نفسه، وكان هذا المكان محور العالم».
سبيل النجاة
سلَّط محمد أسد الضوء على سبيل النجاة من واقعنا المتردي، فقال في كتابه الفذّ «الإسلام على مفترق طرق»: «ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد، علينا أن نُشعر أنفسنا بهذا العار، بجعله نُصْب أعيننا ليل نهار، وأن نطعم مرارته، ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا، وبدلًا من أن نُخضع الإسلام باستخدام المقاييس العقلية الغربية، يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم. أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسُنَّة نبينا على وعي وعزيمة، ويجب على المسلم أن يعيش عالي الرأس، ويجب عليه أن يتحقق أنه متميز، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك، وأن يُعلن هذا التميز بشجاعة بدلًا من أن يعتذر عنه».
ومنذ أكثر من نصف القرن يُحذّر محمد أسد في كتابه «الإسلام على مفترق طرق» من ممارسات انهزامية كهذه، وأن يكون المسلمون أكثر تأصيلًا ثقافيًّا، مشدِّدًا على أن الإسلام بخلاف سائر الأديان، إنما هو فلك ثقافي اجتماعي واضح الحدود، فإذا امتدَّت مدنية أجنبية بشعاعها إلينا، وأحدثت تغييرًا في جهازنا الثقافي، كما هو الحال اليوم، وجب علينا أن نتبيَّن لأنفسنا إذا كان هذا الأثر الأجنبي يجري في اتجاه إمكانياتنا الثقافية أو يعارضها، وما إذا كان يفعل في جسم الثقافة الإسلامية فِعْل المَصْل المُجدِّد للقوى أو فِعْل السُّمّ.
ويخلص إلى القول: «إن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع المسلمون أن يتمنوه هو أن ينظروا بعيون غربية ويروا الآراء الغربية، إنهم لا يستطيعون إذا أرادوا أن يظلوا مسلمين أن يتبدلوا بحضارة الإسلام الروحية تجارب مادية من أوروبا».
عظمة القرآن الكريم
وقف وقفات مع القرآن الكريم، ومما أدهشه فيه أنه لا يقتصر اهتمامه على الجوانب الروحية فقط، وإنما أيضًا اهتم بالجوانب الأخرى من الأمور الدنيوية، فلم يَدَع القرآن الكريم المسلمين ينسون أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة في طريق البشر نحو تحقيق وجود أسمى وأبقى، وأن الهدف النهائي ذو سمة روحية، ويرى أن الرخاء المادي لا ضرر منه، وهو ليس غاية في حدّ ذاته، ولا بد أن تُقنَّن شهية الإنسان وشهواته وتتم السيطرة عليها بوعيٍ أخلاقيّ من الفرد.
وقال: «إن القرآن الكريم ينظر إلى الجوانب الفكرية والأخلاقية بتقدير وإجلال، وإن منهجه في تناول مشكلات الروح أعمق كثيرًا من تلك التي وجدتها في التوراة، هذا عدا أنه لم يأتِ لبشر دون بشر، ولا لأمة بذاتها دون غيرها، كما أن منهجه في مسألة البدن بعكس منهج الإنجيل، منهج إيجابي لا يتجاهل البدن؛ حيث إن البدن والروح معًا يكونان البشر كتوأمين متلازمين»، ويرى أسد أن ذلك المنهج هو السبب الكامن وراء الإحساس بالأمن والتوازن الفكري والنفسي الذي يُميِّز المسلمين، وبالعكس فإن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تُقيم توازنًا بين حاجات الإنسان الجسمية والاجتماعية وبين أشواقه الروحية.
وفي عام 1992م، انتهت حياة هذا الرحَّالة والعالِم والمفكِّر المسلم الذي يُعدّ من العقول الإسلامية المتفتحة التي أنتجت فكرًا وأدبًا وقِيمًا عالية، وقامت بدورها في التوجيه والإرشاد، وتفاعلت مع قضايا الأمة خير تفاعل، وقد دُفِنَ جسده الطاهر في مقابر المسلمين بمدينة غرناطة بالأندلس.
[1] نمساوي يهودي الديانة وُلِدَ في ليفو بالنمسا سنة (1900م)، ودرس الفلسفة والفن في جامعة فيينا، ثم اتجه للصحافة فبرع فيها، وعندما بلغ عمره اثنين وعشرين عامًا زار الشرق الأوسط، وعمل مراسلًا صحفيًّا في الشرق العربي والإسلامي لجريدة «فرانكفورتر زينتج»، وأقام مدة في القدس، ثم زار القاهرة، فالتقى بالإمام مصطفى المراغي، فحاوره حول الأديان وانتهى إلى الاعتقاد بأن (الروح والجسد في الإسلام هما بمنزلة وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله تعالى)، ثم بدأ في تعلُّم اللغة العربية بأروقة الأزهر، وهو لم يزل بعدُ يهوديًّا.
وقد انتهت رحلته البحثية باعتناق الإسلام في الجزيرة العربية عام (1926م)، عن قناعة تامة بأنه الدين الحق، وبعد إسلامه تنقَّل في العالم الإسلامي، من شمال إفريقيا إلى أفغانستان شرقًا، وعمل فيه، وقام بأداء فريضة الحج، وأقام بالمدينة المنورة مدة تزيد على الخمس سنوات، وشارك في الجهاد الليبي مع عمر المختار، ثم سافر إلى باكستان فالتقى بشاعر الإسلام محمد إقبال، وعمل مديرًا لدائرة تجديد الإسلام في البنجاب الغربية، وعمل رئيسًا لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور، ثم قام بتأليف الكتب التي رفعته إلى مصافّ المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث.
ومن أشهر كتبه: كتابه الفذ «الإسلام على مفترق طرق» الذي صدر عام (1934م)، وكتاب «الطريق إلى مكة» الذي صدر عام (1953م)، ويُعتَبر من أروع الأعمال الأدبية والفكرية التي صدرت في القرن العشرين، كما ألَّف كتاب «مبادئ الدولة في الإسلام» عام (1947م)، وكتاب «هذه شريعتنا» عام (1987م)، واللَّذَيْن أصَّل من خلالهما لنظرية الحكم في الإسلام، وأصدر جريدة شهرية اسمها «عرفات»، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية.
[2] - هذا الكتاب عبارة عن مذكرات للمؤلف، ترجمه رفعت السيد علي، وأصدرته منشورات الجمل في بغداد وبيروت عام 2010م، كما قام بترتيب المذكرات، صالح بن عبد الرحمن الحصين، وصدرت تحت عنوان «محمد أسد في الطريق إلى مكة» عن مؤسسة الوقف في الرياض عام 1431هـ.