• - الموافق2025/01/06م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الحجج الدينية لليهود  في فلسطين

إلا أنّ أول اجتماع للمؤتمر الصهيوني الدولي في مدينة بال بسويسرا عام 1879م كان أول قرارات هذا المؤتمر: «يتم استعمار فلسطين بالوسائل السلمية التي تقوم على أكتاف الفلاحين ورجال الصناعة اليهود».


يزعم الصهاينة أن لهم حقوقًا في فلسطين، معتمدين في ذلك على بعض الحجج الدينية، ورغم أن الحجج الدينية لها شروط حتى نأخذ بها؛ منها أن تأتي في وَحْي الله إلى رسله في الكتب المُنَزَّلة على الأنبياء، وأن يثبت بكل الطرق النقلية والعقلية أن ما جاء في هذه الكتب السماوية صحيح، لم تطاله يد التحريف، ولا يتطرَّق إليه أيّ شكّ. أو بإخبار الرُّسل بذلك، بشرط أن يكون رواة هذه الأخبار من الصادقين والعدول.

فإذا وضعنا ما يزعمه الصهاينة أمام ميزان البحث العلمي والتاريخي والديني، فإننا نجد أن الحجج الدينية المزعومة باطلة، وأن الكتاب -التوراة المتداولة- كتاب أرضي كتبه أحبار اليهود لتحقيق أهداف عنصرية وسياسية، وأن ما جاء في التوراة المتداولة لا يَمُتّ للصدق ولا للحقيقة بأيِّ صلةٍ.

من هذا كله، وكما سنرى؛ فإن الحجج الدينية التي يزعمها الصهاينة تنهار من أساسها، ولا يُؤخَذ بها؛ لأنها باطلة، ولا نصيب لها من الصحة والحقيقة، ولا يؤيدها الواقع ولا التاريخ.

يزعم الصهاينة أن الإصحاح الثاني من سفر التكوين، في التوراة المتداولة يقول: «قال الرب لأبرام: اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان».

هذا أحد النصوص التي يرفعها الصهاينة، زاعمين أن هذا وَعْد صدر من الله لهم للاستيلاء على أرض فلسطين، ونحن وإن رفضنا التوراة المتداولة؛ إلا أننا في سبيل بحثنا عن الحقيقة لا نجد بأسًا في أن نتفحص هذا النص لنعرف هل يُبيح للصهاينة شيئًا.

في البداية؛ حين لا نجد مصدرًا صحيحًا ينتمي له اليهود الصهاينة؛ فإننا يجب أن نتجه إلى الصحيح إلى كتاب الله المجيد؛ ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، لم يكن إبراهيم -عليه السلام- يهوديًّا ولا نصرانيًّا، هذا ما قاله الله، وهو أصدق القائلين، فاليهود ليس ثمة أيّ علاقة بينهم وبين إبراهيم -عليه السلام-، وبالتالي فليس ثمة وَعْد بينه وبين هذا القطيع الكافر المارق.

وبالنسبة للوعد الذي أعطاه الله -تعالى- لإبراهيم؛ فإننا نجده في القرآن، ونجده واضحًا وضوحًا تامًّا، فلا تزييف ولا تأويل فاسد ولا تبديل؛ يقول الله -تعالى-: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]؛ فالله -تعالى- منح العهد والوعد لإبراهيم وغيره من صالحي ذريته، لكنّ الله منَع الظالمين من ولاية عهده.

ثم يُقرِّر الله -تعالى- أن اليهود سفهاء أعرضوا عن ملة إبراهيم الخليل، وتركوا ما دعا إليه من الحنيفية السمحة؛ ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]، ثم إن أبناء إبراهيم -عليه السلام- كانوا مسلمين، فلم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ونرى هذا في وصية إبراهيم لبنيه وليعقوب كما أخبرنا الله -تعالى-: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﮥ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131-132].

ونقرأ القول الفصل فيما يقوله الله -سبحانه- مُخاطبًا اليهود، مُقرِّعًا لهم مُفنِّدًا أكاذيبهم الضحلة ومزاعمهم المتهاوية؛ ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].

ليس ثمة علاقة بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبين اليهود -عليهم لعنات الله المتتابعة-، ولم يثبت أن إبراهيم أصدَر وعدًا أو مَنَح عهدًا؛ وذلك أن الخليل مع أنه كان نبيًّا كبيرًا ورسولًا كريمًا؛ إلا أن الذي يعطي ويمنع ويهب ويسلب هو مالك الأكوان وخالقها -سبحانه وتعالى-.

ولو عُدْنا إلى التاريخ نتعرف منه؛ لوجدنا أن الخليل -عليه السلام- لم يستقر في فلسطين نهائيًّا، ولم نسمع أو نقرأ، ولا حتى في التوراة المتداولة أنه -عليه السلام- أقام دولة فتولَّى رئاستها، بل إنه كان يدعو إلى الله -تعالى- وإلى دين الله؛ فكان مُتجوِّلًا رحَّالة هو وعشيرته من مكانٍ إلى آخر.

ثم نقدم الدليل الدامغ على أن حُجَج الصهاينة الدينية في فلسطين باطلة، والدليل الذي سنقدمه من توراتهم المتداولة؛ فقد جاء في سفر التكوين الإصحاح 33: وقام إبراهيم من أمام ميّته، وكلَّم بني حثّ قائلًا: «أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ. أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيتِي مِنْ أَمَامِي»؛ هل غابت هذه العبارة عن اليهود الصهاينة؟ أم يا ترى لم يتمكَّن كَتَبة التوراة من حذفها أو تبديلها؟ وهل يا ترى سنجد في الطبعات الجديدة للتوراة المتداولة شيئًا جديدًا بعد حذفها؟

إن هذه العبارة تؤكد أن إبراهيم -عليه السلام، وبحسب قول التوراة- كان غريبًا ونزيلًا على السكان الأصليين لفلسطين (الحيثيين)، فأيُّ حجة دينية يُقدِّمونها إذن؟ وأين هو الحق الديني الذي يزعمونه؟ إن توراتهم تقول هذا، فإن رغبوا في تعديلها فلكل مقام مقال.

ثم شيء آخر يلفت النظر، فلو قمنا من ناحية الآثار بعمل إحصاء لجميع الآثار المتبقية في فلسطين، والتي لها الصفة الدينية الرسمية الخاصة باليهود، وما يسمى بالديانة اليهودية؛ لما وجدنا أمامنا سوى بعض الأحجار المتآكلة المتهدّمة التي تعطي شكل حائط، هذه الأحجار يزعم اليهود أنها متبقية من مبنى هيكل سليمان، في حين أن هذا الحائط المتهدّم مشكوك في أمره؛ وذلك لأن هيكل سليمان انهدم واندثر وانمحى منذ آلاف السنين، بفعل عوامل التعرية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب هجمات الغزاة والمحاربين، الذين كانوا يهدمون ويُدمّرون كل ما يقع تحت أيديهم.

ثم أين معابد اليهود وبِيَعهم التي كانوا يقيمون فيها صلواتهم ويرتلون فيها أناشيدهم (الموسيقية)؟ ويقدمون من خلالها ضحاياهم البشرية وقرابينهم؟ ثم أين هي نقوشهم وصكوكهم وكتاباتهم القديمة المكتوبة؟ لا شيء... لا يوجد شيء... لأنهم أصلًا لم يفعلوا شيئًا في كل حياتهم، وما فعلوه انتهى واندثر وتحطَّم، وأُبِيدَ منذ آلاف السنين.

كما أن إبراهيم -عليه السلام- حين هاجَر ورحل إلى أرض كنعان بسبب كثرة الحروب بين الكلدانيين وبين جيرانهم، ألم تكن أرض كنعان مسكونة بأبنائها ونسائها ورجالها وشبابها؟

بل إن إبراهيم -عليه السلام، كما يقول أحد كتبة دائرة المعارف اليهودية- رفض أن يُزوّج ابنه إحدى بنات الكنعانيين لسببٍ بسيط؛ هو أن إبراهيم كان يرى نفسه غريبًا عن الكنعانيين. إن اليهود عندما دخلوا فلسطين كانت عربية يسكنها عرب، وإن اليهود عندما حلّوا بها كانوا مهاجرين نزلاء، وعندما كوَّنوا مملكتهم في عهد داود وسليمان -عليهما السلام- كانوا غزاة، شأنهم شأن الرومان والبابليين والآشوريين وغيرهم.

بل إننا عندما نتأمل بداية الحركة الصهيونية نجد أنها لم تكن في البدء تطالب بفلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، بل كان القطيع الكافر يريد أيّ بقعة على سطح المعمورة ليتجمعوا فيها -لعنة الله عليهم وعلى من عاونهم وعلى من يؤيدهم-، وحتى تيودور هيرتزل، أبو الصهيونية، قال في كتابه «الدولة اليهودية» تحت عنوان «فلسطين أم الأرجنتين؟» أيهما تفضل؟ قال هيرتزل بالحرف الواحد: «إن الأرجنتين تعتبر من أخصب بلاد العالم، وتشغل مساحات واسعة».

إلا أنّ أول اجتماع للمؤتمر الصهيوني الدولي في مدينة بال بسويسرا عام 1879م كان أول قرارات هذا المؤتمر: «يتم استعمار فلسطين بالوسائل السلمية التي تقوم على أكتاف الفلاحين ورجال الصناعة اليهود».

وعليه، فإنه لا يمكن أن يقوم وعد ديني بناء على باطل؛ إذ إن ما بُنِيَ على باطل فهو باطل، وقيام «إسرائيل» باطل، وكتابها باطل؛ وذلك أن قيام الأمم لا يكون على أساس الأوهام والأباطيل والأشياء المغلوطة، وإنما تقوم الأمم على أساس إيمانها بالله وبكتابه السماوي وبالكيان وبالعوامل الحضارية والأخلاق الفاضلة.

واليهود لم يتملكوا يومًا واحدًا الإيمان بالله، وأضاعوا التوراة الأصلية، ولم يكن لهم كيان، ولم تكن لهم حضارة، أما أخلاقهم فهي أحطّ أخلاق الكون كله، فكيف يُقال عنهم أنهم أُمَّة؟ ثم كيف نقبل حجتهم الدينية الواهية؟!

إن اليهود لن يكون لهم كيان قط، ولن يكونوا أُمَّة في أيِّ يوم من الأيام؛ وذلك لأنهم يفقدون مقومات الأمة، ولن تقوم لهم قائمة؛ لأن الله -تعالى- يقول: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، والأمم لا تقوم بالحجج الواهية أو الأقاويل الباطلة أو الدعاوى العنصرية التي تفتقر إلى الحقيقة والواقع والعلم والتاريخ.

حقوق تاريخية باطلة

تزعم «إسرائيل» الصهيونية أن لها حقوقًا تاريخية في فلسطين، ورغم أن الصهيونية لا تُقدِّم لنا إلا بعض العبارات الملتوية الموجودة في توراتهم المتداولة، وتعتبرها إحدى الحقائق العلمية التاريخية؛ فإننا لا يمكن أن نعتمد على بعض العبارات الملتوية في التوراة المتداولة -التي أصابها التحريف والتبديل-، ومع ذلك فإننا لكي ندحض افتراءات الصهيونية سوف نضع أمام القارئ بعضًا من نصوص التوراة المتداولة التي تُثبت أن المزاعم التي يُروّجها اليهود في فلسطين تفتقر إلى الحق، وما افتقر إلى الحق فهو باطل.

وقبل أن نناقش الحقوق التاريخية الصهيونية المزعومة، فإن هناك سؤالًا يتبادر إلى ذهننا؛ ألا وهو: هل كانت فلسطين وأرضها قَفْرًا خالية من أيّ مظهر من مظاهر الحياة عندما جاءها بنو إسرائيل -عليهم لعنة الله-؟ وهل بنو إسرائيل هم أول الأقوام التي وطئت أقدامهم فلسطين؟

يجيب التاريخ نفسه بالنفي، وذلك أن إحدى الحقائق التاريخية أن فلسطين كانت مسكونة بقبائل عربية يرجع أصلها إلى الجنس السامي، وإن هذه القبائل قد خرجت متَّجهة صوب فلسطين تباعًا من جنوب الجزيرة العربية في شكل هجرات مُكوّنة ممالك ودولًا؛ منهم: «الكنعانيون»، و«الفينيقيون» و«الآراميون»، وقد حدثت هذه الهجرات منذ 3000 قبل الميلاد، أي: قبل أن يتناهى إلى آذان التاريخ أيّ ذِكْر عن بني إسرائيل.

ثم إن الأمم التي كانت موجودة في فلسطين قبل أن يرد اسم «إسرائيل»؛ هذه الأمم تركت بصماتها في الحضارة والعمران والفن، مما هو موجود حتى أيامنا هذه، بل إن المؤرخ الفرنسي الكبير «رابو بوار» يقول في هذا المقام: «إن سكان فلسطين يرجعون إلى عهد قديم قبل أن يضع اليهود أقدامهم في فلسطين، وكانت لهم حضارة وأمجاد مثل الكنعانيين والفلسطينيين».

وإذا نحن تركنا أقوال هذا المؤرخ وغيره، واتجهنا إلى توراة اليهود التي كتبوها والتي هي بين أيديهم، فكتابهم هذا يُوضّح أن فلسطين كانت مسكونة بأقوام قبل هؤلاء اليهود، فهل غاب عن من كتبوا التوراة المتداولة أن يحذفوا هذه النصوص؟ ففي سفر يشوع نقرأ: «ولما سمع جميع الملوك الذين في عبر الأردن في الجبل وفي السهل وفي كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان، الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون اجتمعوا معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد» (الأصحاح: 9).

هذا السِّفر يُعلن بوضوح تامّ أن اليهود قاموا باحتلال الأرض الفلسطينية التي كان يحيا فيها أقوام كثيرون من سكانها الأصليين، ثم إن ما يُسمَّى بسفر الخروج (الإصحاح الثالث عشر) يُثبت -دون جدال- أن فلسطين كانت مسكونة مأهولة عندما حاول بنو إسرائيل دخولها: «فأرسلهم موسى ليتجسّسوا أرض كنعان، وقال لهم: اصعدوا من هناك إلى الجنوب، واطلعوا على الجبل، وانظروا الأرض ما هو الشعب الساكن فيها؛ أقويّ أم ضعيف؟».

ثم إذا تدبَّرنا القرآن الكريم نجد أن الله -تعالى- يقول: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22]، مما سبق يتضح أن بني إسرائيل ليسوا هم أصحاب أرض فلسطين، وليسوا هم أول مَن سكنوا فلسطين، وإنما سبقهم إلى فلسطين قبائل عربية، كما أن دولًا كبيرة وحضارات عظيمة قامت في فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل، وإننا نتأمل كيف دخل بنو إسرائيل إلى فلسطين، ثم كيف تشرَّد بعد ذلك القطيع اليهودي.

كيف دخل بنو إسرائيل فلسطين؟

يبدأ تاريخ بني إسرائيل الحقيقي بقصة هروبهم من مصر؛ خوفًا من بطش فرعون، ووصلوا إلى صحراء سيناء، وظلوا بها قرابة أربعين عامًا تائهين حيارى هائمين على وجوههم هذه السنوات المعروفة بأيام التيه.

وعن طريق الأردن بدأ التسلل، فتقدموا لدخول أرض فلسطين، ولكنَّ القبائل الكنعانية والفلسطينية التي كانت موجودة في أرضها وفوق ترابها وكيانها، تصدَّت هذه القبائل للقطيع الكافر المستعمِر وردَّته على أعقابه ذليلًا. ونودّ هنا أن نشير إلى ما يكشف الدعاية الصهيونية التي تحاول إظهار اليهود بمظهر الأبطال، وذلك أن التوراة المتداولة الموجودة بأيديهم تُسجّل أن الشعب الفلسطيني قديمًا أذاق اليهود مُرَّ الهزيمة مثنى وثلاث ورباع.

لم يكن هناك بُدٌّ من الخديعة والمراوغة؛ فقنع بنو إسرائيل في البدء بالإقامة في التلال العالية والهضاب المرتفعة بعيدًا عن السهول والوديان الخضراء، والمروج الخصبة، ثم بدأ التقرُّب الإسرائيلي من الشعب الكنعاني والشعب الفلسطيني صاحب الأمر، ووصل الأمر إلى إقامة أحد أشكال الحياة الاجتماعية مثل الزواج بين بعض الإسرائيليين الوافدين وجيرانهم، وما يقوله سفر القضاة في التوراة المتداولة في ذلك: «واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء، وأعطوا بناتهم لبنيهم، وعبدوا آلهتهم، ونسوا الرب إلههم».

ووصل الأمر بالقطيع اليهودي في سبيل الاستيلاء على أرض الغير، أن يكفر بالله -تعالى-، وأن يعبد آلهة الكنعانيين. ومن ناحية أخرى يؤكد هذا الموقف التاريخي أن الدخيل الإسرائيلي لم يؤثر على حضارة أصحاب الأرض الأصليين-الكنعانيين والفلسطينيين، بل أخذ المستعمر الصهيوني عبادة الآلهة منهم، ولا ننسى ما يُوضّحه سفر القضاة الذي أشرنا إليه أن اليهود استخدموا سلاح الجنس في سبيل الحصول على أراضي الغير بالخديعة والمراوغة والدعارة المقنّعة؛ ذلك السلاح الذي استُخدم في مطلع هذا القرن -عودًا على بدءٍ- للتسلل من الداخل.

سنحت الفرصة بعد ذلك أن أقام اليهود مملكة لهم على يد داوود -عليه السلام-، ثم سليمان -عليه السلام-، ولكنهم لم يقضوا على السكان الأصليين لفلسطين، ودامت هذه الفترة حوالي سبعين عامًا عادت الحياة الإسرائيلية بعدها حياة قبلية بربرية لا ترتبط بالأرض التي تحيا عليها، وأصبحت القبائل الإسرائيلية في حالة شبه ضياع، لا يربطها بأخواتها شيء.

وبعد أن سكنوا فلسطين هاجم الملك الآشوري (سرجون الثاني) سنة 722 قبل الميلاد عاصمة السامرة، وقتل شبابها، وسبى أهلها، وحمل معه ما استطاع من السبايا والأسرى اليهود إلى مملكة آشور؛ فاستخدمهم عُمالًا وخَدمًا في بلاطه، وزالت دولة «إسرائيل» الشمالية، وكانت المملكة الجنوبية قد انقسمت إلى مملكتين غير متجانستين متباعدتين في الدين والعادات والنظم.

ولا ننسى سنة 586 قبل الميلاد حين شنَّ الملك البابلي (بختنصر الأول) على دولة يهوذا هجومًا ضاريًا، وغزاها، وهدم الهيكل المقدس، وقتل مَن قتل من اليهود، وأَسر من بقي، وحملهم معه إلى مملكته بابل؛ حيث لاقوا ألوان الذل وصنوف الهوان مأسورين منفيين، مثلما لاقى عملاء السامرة، ولم يرفع عنهم هذا الاضطهاد الذي استمر حوالي 80 عامًا إلا بزوال دولتي آشور وبابل، وقيام حكم قورش.

بعدها أخذت جماعات من اليهود يعودون سرًّا إلى فلسطين، يندسُّون ويندمجون وسط الفلسطينيين والكنعانيين، حتى أعادهم قورش بعد أن أخذ عليهم العهد بالولاء، وأخيرًا خضعت فلسطين كلها للحكم اليوناني سنة 330 قبل الميلاد، وعاش اليهود كما عاش غيرهم في ظل حكم عسكري صارم يأتمرون بأمره ويُنفِّذون تعاليمه، وعاشوا -لعنة الله عليهم- كما تعيش الأقليات المغلوبة على أمرها.

كيف تشرد اليهود؟

اندلعت الثورة في فلسطين، والتي عُرفت بالثورة المكابية، والتي كان الهدف منها تخفيف وطأة الاحتلال اليوناني الجاثم على أرض فلسطين، ولكن لم يُقدَّر لهذه الثورة أن تنجح، وقُضِيَ عليها، وقام الرومان بإجلاء اليهود عن فلسطين، وحملوهم أسرى إلى روما على يد القائد (تيتوس) حوالي سنة 70 ميلادية، وعاش اليهود في روما حياة العبيد والخدم، وسجن الرومان كهنة اليهود ورجال دينهم.

من ذلك الوقت لم يقم لليهود قائمة، وتشتتوا في سائر أقطار العالم؛ من روسيا شرقًا، إلى أمريكا وبريطانيا غربًا.

هذا سَرْد موجز للتاريخ اليهودي، فأين -إذن- هذه الحقوق التاريخية التي تزعم الصهيونية أنها لها في فلسطين؟ بل أين هي هذه الحقوق شبه التاريخية التي تُعطي للصهيونية هذه الحقوق المزعومة؟ ثم ما المنطق المغلوط الفاضح في حقّ اغتصاب الأوطان الذي تريد الصهيونية أن تضعه موضع التنفيذ؟ إن اليونان -وهي دولة ما زالت قائمة- احتلت فلسطين، فلو سار هذا المنطق المغلوط الصهيوني فإنه يتعين أن نترك فلسطين لقادة أثينا.

أعلى