قد تتحقَّق سُنّة النصر للمؤمنين، ولكن لا يلبث أن يكون هذا النصر ومضة، ثم تنطفئ؛ لأن متطلبات سُنّة التمكين لم تتحقق.
وقد تتحقق سُنّة التمكين، ولكن لا يدوم هذا التمكين، لعدم استمرار أسبابه، فكم قامت من دولة مسلمة، ولكن لا تلبث أن تسقط، لذات السبب.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنَّ لله -عز وجل- سُننًا ونواميس في هذا الكون بنظامه وأفلاكه، وفي
الأمم ونَصْرها وأَخْذها؛ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل. مَن درَسها واستوعَبها؛ صحَّت
نظرته لواقعه، وصدَق استشرافه لمستقبله. ومَن جهِلَها أو تغافَل عنها؛ لم يزل
يتعثّر في مسيره، ويتخبَّط في طريقه، ويتساقط في الحُفَر، واحدة تلو الأخرى، ولا
يكاد يفيق.
معنى السُّنَّة:
السُّنَّة في اللغة: الطريقة و«السِّيرَة؛ حَسَنَةً كَانَتْ أو
قَبِيحَةً»[1]،
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ
سَنَّ
فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً
حَسَنَةً؛
فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ
عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ من أوزارهم شَيْءٌ»[2].
وسُنَن الله -عز وجل-، أو السُّنَن الربانية، أو السُّنَن الإلهية، أو السُّنن
الكونية، يُعبَّر عنها بالمَثُلات والسيرة والعادة، «وَالسُّنَّةُ هِي الْعَادَةُ
الَّتِي تَتَضَمَّنُ
أَنْ
يَفْعَلَ
فِي
الثَّانِي
مِثْلَ مَا فَعَلَ بِنَظِيرِهِ الْأَوَّلِ»[3]،
«فسُنّته -سبحانه- عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه؛ بإكرام هؤلاء وإعزازهم
ونَصْرهم، وإهانة أولئك وإذلالهم وكَبْتهم»[4].
«وسُنَّةُ الله -تعالى-، قد تُقَال لطريقة حِكمته، وطريقة طاعته؛ نحو: ﴿سُنَّةَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23]»[5].
وحديثنا هنا عن هذا النوع من السنن، وليس عن السنن الكونية المتعلقة بتدبير الأفلاك
وحركة الكون، بجميع نواميسه؛ فإن هذه تقع بطريقة القهر والتَّنجيز الحَتْميّ
الآنيّ، والناس يشاهدونها في حياتهم اليومية، ولتكرُّرها على حواسّهم أصبحت معتادة
لهم، فلا يشعرون بعظمتها، كطلوع الشمس وغروبها، ومنازل القمر، وتعاقُب الليل
والنهار، وفصول السَّنة، ونحو ذلك، فهذه لا تختلف إلى نهاية الدنيا.
فالمقصود هو السُّنن البشرية المتعلّقة بالأفراد والمجتمعات، وهي قَهْرية حَتْمية
مُنجزة، لا تتخلف؛ إلا أنها مرتبطة بوجود سببها وانتفاء مانعها؛ فالبشر هم الذين
يختارون السبب والطريق الذي ينتهي بهم إلى سُنّة الله فيهم؛ قال شيخ الإسلام ابن
تيمية -رحمه الله- في السنن البشرية: «وهذه السُّنن كلها سُنَن تتعلق بدينه،
وأَمْره ونَهْيه، ووَعْده ووعيده، وليست هي السُّنن المتعلقة بالأمور الطبيعية،
كسُنّته في الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك من العادات؛ فإن هذه السُّنة ينقضها
إذا شاء بما شاء من الحكم، كما حبس الشمس على يوشع، وكما شقَّ القمر لمحمد -صلى
الله عليه وسلم-، وكما ملأ السماء بالشُّهُب، وكما أحيا الموتى غير مرَّة، وكما جعل
العصا حية، وكما أنبَع الماء من الصخرة بعصا، وكما أنبَع الماء من بين أصابع الرسول
صلى الله عليه وسلم »[6].
فالبشر هم الذين يختارون الفعل أو الترك، ثم تترتب السُّنة الإلهية على وفق
أفعالهم.
أهمية العلم بالسنن الإلهية:
أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- بالاعتبار بالأحداث الماضية؛ فقال -تعالى-: ﴿لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، وقال
-سبحانه-: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، والاعتبار:
قَرْن الشيء بمثله، فيُقاس الحاضر على ما كان قد حصل في الماضي، وهذا يُنبئك بما
سيحصل قبل وقوعه، فمن فعَل مِثْل فِعْل الماضين جُوزِيَ مثل جزائهم؛ إن خيرًا فخير،
وإن شرًّا فشرّ، وقال -تعالى- عما حصل لقوم لوط -عليه السلام-: ﴿وَإِنَّهَا
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: 76]، وقال -سبحانه وتعالى- عن عقوبات العصاة من
الماضين: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد: 10].
من سُنن الله تعالى أن الكفر وحده ليس سببًا دائمًا للأخذ والإهلاك:
فالله -تبارك وتعالى- لا يُفْنِي الكفار لكُفْرهم؛ فقد قضى -سبحانه- ببقاء الكفر
والكافرين إلى نهاية الدنيا، بل يتركهم يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون،
ويعمرون دنياهم، والآخرة موعدهم؛ فهؤلاء قوم نوح -عليه السلام- مكَث فيهم نبيّهم
داعيًا لهم إلى التوحيد، وهم مشركون، تسعمئة وخمسين عامًا؛ ﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: 14]. وكل نبيّ لا ندري كم مُكْثه في قومه داعيًا
للتوحيد. ولكن متى ما بغَى أحدٌ وظلَم، ووقف أمام الرسالة صادًّا الناسَ عنها؛ أعمل
الله فيه سُنَّة الأخذ والعذاب.
وصور البغي كثيرة، منها التآمر على القتل أو الإخراج، ومنها الصد عن الدعوة
وتشويهها، ومنها تحدي الأنبياء والمصلحين، وهذا السبب قالته الأمم الماضية
لأنبيائها، فعبارة: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
بالذات تكررت في الأمم، فقيلت لنوح عليه السلام [الأعراف: 70]، قالوها
بعد أن نفد صبر قومه عليه في دعوتهم للتوحيد وأخذهم إلى طريق الجنة: ﴿قَالُواْ
يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين﴾ [هود:32] وقالتها عاد لنبيها هود عليه السلام
[الأعراف: 70، والأحقاف: 22]، وقالتها ثمود لنبيها صالح عليه السلام: ﴿ائْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 77]، وقيلت للوط
عليه السلام ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: 29] وقيلت لشعيب عليه السلام: ﴿فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: 187].
وصُوَر البغي كثيرة، منها التآمر على القتل أو الإخراج، ومنها الصَّدّ عن الدعوة
وتشويهها، ومنها تحدّي الأنبياء والمُصلِحين، وهذا السبب قالته الأمم الماضية
لأنبيائها، فعبارة: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ﴾ بالذات تكررت في الأمم السابقة؛ فقيلت لنوح -عليه السلام-
[هود:32] وقالتها عاد لنبيها هود -عليه السلام- [الأعراف: 70، والأحقاف: 22]،
وقالتها ثمود لنبيها صالح -عليه السلام-: ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 77]، وقيلت للوط -عليه السلام-: ﴿فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: 29]، وقيلت لشعيب
-عليه السلام-: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: 187].
وتَعْضُدها أعمالٌ أخرى في بعض الأمم، تضافرت وتظاهرت فأَهْلَكَتْ؛ فثمود جمعوا
ثلاث جرائم في آنٍ واحدٍ: عقروا الناقة بعد أن نهاهم نبيهم عن التعرُّض لها،
قائلًا: ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾، وهدَّدهم إن هم تعرَّضوا لها قائلًا:
﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 73]، ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ [هود: 64]، ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: 156]، وتحدّوا نبيهم كما
سلف، وتآمروا على قتله وأهله؛ ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﮇ قَالُوا تَقَاسَمُوا
بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا
شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﮖ وَمَكَرُوا مَكْرًا
وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﮞ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﮨ
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ﯖ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ﴾ [النمل: 48- 53].
وقوم نوح -عليه السلام- مع تحدّيهم له هدّدوه بالرجم؛ ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116]، وقوم
لوط تحدّوا نبيهم -عليه السلام-، وتآمروا على إخراجه وأهله من قريتهم؛ ﴿وَلُوطًا
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﯥ
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﯲ
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: 54 -56].
وكاد مشركو مكة أن يُخرِجوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها؛ ﴿وَإِنْ
كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا
يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﭟ
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 76 - 77].
من سُنَن الله -تعالى-: سُنَّة النصر للمؤمنين:
وهي سُنَّة تتحقق لمن نصر الله؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]،
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51]، ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:40]، ﴿ وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ ﯔ
إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ ﯘ
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافات: 171- 173]،
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾
[النور: 55].
ولقد أخفق الملأ من بني إسرائيل في ثلاثة اختبارات متتالية، ثم تمحّض النصر للصفوة
الصادقة منهم، وتساقط المنهزمون، الذين كانوا سيُشَكِّلون عبئًا على الجيش لو خرجوا
فيه؛ شأنهم شأن مَن قال الله -تعالى- فيهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا
زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].
وهكذا انتصر المسلمون على ثلاثة أضعافهم في بدر؛ ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل
عمران: 123]، بينما انهزموا يوم حُنَيْن وهم فوق العشرة آلاف، لذات السبب؛
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25]، وفي الجَمْعَيْنِ كليهما رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم .
فهؤلاء الملأ من بني إسرائيل قد سألوا نبيَّهم أن يُولِّي قيادتَهم مَن يقاتلون في
سبيل الله تحت رايته، واستنكروا مِن نبيهم سؤاله عن صدق عزيمتهم؛ ﴿قَالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾، فاستغربوا
قائلين: ﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾؛ لكنَّ القوم لم يكونوا بذاك، فقد
سقط أغلبهم لأول وهلة، بمجرد نزول التكليف بالقتال، وقبل البدء في أيّ معركة:
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 246]، وهذا القليل أيضًا سقط
أكثره في المحكّ الثاني والامتحان التالي؛ الذي كان في الزعامة والتصدُّر والرئاسة
وتقلُّد المناصب؛ ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ [البقرة: 247]،
وهو ابتلاءٌ سَقَط فيه كثيرٌ مِن هؤلاء.
ومعظم حركات الجهاد المعاصرة -ولن أقول كلها- تسقط في هذا الاختبار، رغم أن
بداياتها كانت صادقة، لكنّ سباق الزعامة والتصدُّر دمَّرها؛ وصدق الله: ﴿وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].
واختبار ثالث اختُبِرَ به الملأُ مِن بني إسرائيل بنهر عذْبٍ بارد بعد عطشٍ شديد،
ونُهُوا عن الشرب منه إلا رشفةً واحدةً، ملء اليد الواحدة، تُطفئ لهيب الظمأ ولا
تروي؛ ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 249].
وعَبَر النهرَ قلةٌ خالصة مخلصة، دبَّ الرعب إلى قلوب بعضهم لما رأوا جُمُوع العدو،
في امتحانٍ رابعٍ كادوا يُخفقون فيه؛ ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾
لولا أن وعَظَ الثابتون المرعوبين؛ ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]؛ فاتعظوا وصبروا وثبتوا،
فالأمر جدّ لا يَقبل جبانًا رعديدًا، ففتح الله عليهم ونصرهم؛ ﴿فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: 251].
من سُنن الله -تعالى-: سُنّة التمكين للمؤمنين:
قد تتحقَّق سُنّة النصر للمؤمنين، ولكن لا يلبث أن يكون هذا النصر ومضة، ثم تنطفئ؛
لأن متطلبات سُنّة التمكين لم تتحقق: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}[الحج:41].
وقد تتحقق سُنّة التمكين، ولكن لا يدوم هذا التمكين، لعدم استمرار أسبابه، فكم قامت
من دولة مسلمة، ولكن لا تلبث أن تسقط، لذات السبب.
ولكي تتحقَّق سنَّة التمكين للمؤمنين في الأرض لا بد من المرور بما يلي:
سنة الابتلاء والتمحيص:
فلا نصرَ ولا تَمكينَ إلاَّ مِنْ رَحِم الابتلاء؛ فالزلازل -وإن أحدثتْ شُروخًا
وتصدُّعات- إلا أنها تُنَقِّي الصَّفّ وتُمحِّصه، فليس عبثًا أن تأتي تلك الهزّة
العنيفة إبَّان بواكير الدعوة في مكة، في حادثة الإسراء والمعراج، ومعظم المسلمين
وقتها يستسر بإسلامه، والجمهرة الباقية تُعذَّب على أيدي المشركين؛ ﴿وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء:
60]، «وبعض من كان إيمانه ضعيفًا رجع عنه؛ بسبب أنَّ ما أخبرهم به من الأمور
التي كانت ليلة الإسراء، ومن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان
خارقًا للعادة»[7]؛
فهؤلاء لا يَصلحُون لمواصلة السير، ولن تتحمَّل أكتافُهم أعباء الدعوة والجهاد؛
فكان لا بُدّ أن يسقطوا من أول الطريق، ويتخلّص منهم الصفّ الإسلاميّ بمثل هذا
الابتلاء؛ ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، فهذا النَّصر
قريبٌ حقًّا، وسريع الحصول، بقدر سرعة المترّبين في صعود السُّلّم، بتعدُّد درجاته
بين بأْساء وضَّرَّاء وزلازل وفِتَن، مع تسلُّحهم بالصبر واليقين والثبات وسلامة
المنهج.
وقد يطول البلاء، ويُعاد ويُكرَّر؛ بسبب عدم استيعاب الدرس جيدًا، والإخفاق في
الامتحان الأول ثم الثاني ثم الثالث، وهكذا، أو بسبب الحاجة إلى مزيدٍ من الإنضاج
المُؤهِّل للتمكين بعد النصر، فيطول البلاء أو يتكرر؛ ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4]،
فالله يبتلي العبدَ قبل أن يُمَكِّن له.
قال المتنبي:
تُرِيدِينَ لُقْيانَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً
وَلا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ
سنة المُدافَعَة، وسُنَّة المداولة:
قال الله -تعالى-: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، وقال -سبحانه-: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج:40].
يتدافع الحق والباطل، ولا يستتب الأمر لأحدٍ منهما طوال الوقت، فإذا ساد الحقّ
زمنًا، اعترى حَمَلته الضعف والترهل، ودبَّت في مفاصلهم عوامل الهزيمة؛ فأُدِيلَ
عليهم أهل الباطل؛ ليستيقظوا من جديد فيُعِيدُوا الكَرَّة، وهذه الدورة قد تستغرق
عقودًا من السنين أو المئات منها؛ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140]، وهذا ما قاله هرقل؛
تعقيبًا على إفادات أبي سفيان: «وسَأَلْتُكَ: هلْ قاتَلْتُمُوهُ وقاتَلَكُمْ،
فَزَعَمْتَ أنْ قدْ فَعَلَ، وأنَّ حَرْبَكُمْ وحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا، ويُدالُ
عَلَيْكُمُ المَرَّةَ وتُدالُونَ عليه الأُخْرى، وكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْتَلى
وتَكُونُ لَها العاقِبَةُ»[8].
سُنّة الإهلاك والتدمير:
وهي سُنة تَنال المستحقين لها، في الوقت المناسب؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﭪ إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ ﭮ الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ ﭵ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالوَادِ ﭻ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ﭿ الَّذِينَ
طَغَوْا فِي البِلادِ ﮄ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ ﮈ فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﮎ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾
[الفجر: 6 - 14].
وقد تأتي لصالح قوم آخرين، فتقع سُنّة التغيير والتبديل والاستخلاف بين الطرفين،
وتقع سُنّة النصر والتمكين؛ ﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129]،
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف: 137].
من صفات السُّنَن الإلهية وخصائصها:
أ- المفاجأة:
فقد تأتي بغتة، بل هذا هو الغالب، فقد يُؤخَذ المجرم في حال غفلةٍ وأمنٍ من
العقوبة؛ قال -تعالى-: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ﴾ [النحل: ٤٥]، وقال -سبحانه-: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى
أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﭭ أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 97-99].
ب- التداخل والترابط والتدافع:
قد تتداخل السُّنن الإلهية فيما بينها وتترابط وتتعاضد، أو تتدافع؛ ففي بعض الأحيان
تكون سُنّة التمكين لقوم هي نفسها سُنّة الأخذ والإهلاك لآخرين، وربما تداخلت سُنّة
استحقاق النصر والتمكين لقوم، مع سُنّة الأخذ والعقوبة لآخرين، فتتحول هذه، أو
تُرْجَأ بسبب سُنّة الإملاء والإمهال والاستدراج، فيستحق الفرد أو الأمة الطاغية
الظالمة الباغية الأخذَ والعقوبةَ، لكنها تعيش ردحًا من الزمن في أُبَّهَة وقوة
وعزّ وسطوة وتمكين وبَغْي وعدوان -كما تُشاهَد في شرق الأرض وغربها- وذلك أن الحق
المقابل والمُعارِض يَعتريه نَقْص، أو لم يَنْضُج بعدُ ولم يَستحقّ النصر والتأييد
والتمكين؛ فلا يزال في اختبار وتعثُّر، أو أن هذا الطغيان مُختلِط بحقّ أو شبهَة،
أو مُتدثِّر برداء نفاق؛ ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: 25]؛ فلو
تميَّز الحق من الباطل في هذه الحالة، وتمايَز المؤمنون عن الكفار، وتمحّض الكفر
وحده، لنزل العذاب الأليم بالكفار.
فتُرْجَأ سُنَّة الأخذ والعقوبة والعذاب، بسُنَّة الإملاء والإمهال والاستدراج؛
﴿إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ﴾ [الأعراف: 135]؛ ليزدادوا إثمًا، أو لأن الطرف
المستحِقّ للنصر والتمكين لم يَتهيَّأ بعدُ.
فرعون بقي في طغيانه عقودًا متطاولة؛ مِن قَبل ولادة موسى -عليه السلام-، وإلى أن
أغرقه الله في البحر؛ ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا
شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]، واستمر على طغيانه
إلى أن عاد إليه موسى -عليه السلام- نبيًّا مرسلًا، فكان ردّه: ﴿أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: 18]؛
فعانَد الحق، واستمر على كُفره وطغيانه، إلى أن وقع في سُنّة من سُنَن الله في
الظالمين؛ حين ازداد طغيانه وبَغْيه، وتوعَّد بني إسرائيل بالقتل والاستعباد؛ بعد
حادثة السحرة: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾
[الأعراف: 127]، قال السعدي: «وهذا نهاية الجبروت من فرعون والعتو والقسوة»[9]؛
فأخذهم الله بأنواع من العقوبات فلم يرتدعوا، ونكثوا العهد، فكانت العاقبة مُضِيّ
السُّنَّة؛ ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 136]،
فوَاجَه مصيره المحتوم؛ ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 40]؛ هكذا
﴿نَبَذْنَاهُمْ﴾!
واعتَبِرْ بالعديد ممَّن عاصرتَهُم من طغاة العرب والعجم، كم مكثوا! ثم كيف كانت
نهايتهم! ﴿وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 127].
لكن لماذا يُـمْهِل الله الظالمين، ويدَعُهم يُفْسِدون في الأرض ويتسلّطون على عباد
الله؟!
يُمْهِلهم لحِكَم عديدة نُدرك بعضها ويَخْفى علينا أكثرها، فمن الحِكَم التي ذكَرها
الله -تعالى-:
ابتلاء للمؤمنين، وليصطفي الله من عباده شهداء؛ ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140].
ليزداد المجرمُ جُرمًا والظالمُ ظُلمًا، فيبلغَ الاستحقاقَ لما أعدَّه الله له من
العذاب الأليم؛ ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ﴾ [الأعراف: 138، والقلم: ٤٥].
ليكونوا فتنة لمن لم يُكرمه الله بمحبّته، فيجاريهم خوفًا أو طمعًا، وفي القرآن
العديد من المواضع التي تُفَصِّل حال الرعاع الأتباع مع السادة المُتنفّذين؛ فإنَّ
أُبَّهة الدنيا تَخطف، واقرأ الآيات الثلاث من سورة الزخرف: ﴿وَلَوْلَا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﰇ
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﭖ وَزُخْرُفًا
وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 33-35]؛ ولك أن تتمعّن في الأعداد الهائلة
المنبهرة اليوم بالغرب على كُفْره، والشرق على إلحاده! حتى حشروا أنفسهم في جُحْر
الضبّ لمجرد التقليد! فيا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك.
وهذه السُّنن تتداخل وتتكامل وتتدافع في دقةٍ متناهيةٍ، وعدلٍ تامّ، ورحمةٍ كاملةٍ،
وحِكْمةٍ بالغةٍ، لا يمكن أن يُحيط بها بشر.
اطّراد سنن الله تعالى وثباتها وعدم تخلُّفها:
سُنَن الله -تعالى- في الكون مطّردة منضبطة، لا تتخلف، ولا تتبدل، ولا تتغير، فإذا
تحققت شروطها، وانتفت موانعها؛ وقعت، «وَقَدْ بَيَّنَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ -فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ-»[10]،
«وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ لَنْ تُبَدَّلَ وَلَنْ
تَتَحَوَّلَ، وَسُنَّتُهُ عَادَتُهُ الَّتِي يُسَوِّي فِيهَا بَيْنَ الشَّيْءِ
وَبَيْنَ نَظِيرِهِ الْمَاضِي، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَحْكُمُ
فِي الْأُمُورِ الْمُتَمَاثِلَةِ بِأَحْكَامٍ مُتَمَاثِلَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ [القمر: 43]...»[11].
فحكمة الله تأبَى التفريق بين المتماثلات، والتسوية بين المختلفات؛ ونتيجةً لهذا
الاطراد، صارت قصص الأولين عبرةً، ولولا القياس، واطراد السُّنة الكونية الإلهية،
ما كان للاعتبار مكان، «وَلِهَذَا أَمَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
بِالِاعْتِبَارِ؛ فَقَالَ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]. وَالِاعْتِبَارُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ
بِمِثْلِهِ؛ فَيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَهُ مِثْلُ حُكْمِه؛ فَإِذَا قَالَ:
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، وَقَالَ: ﴿لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]؛ أَفَادَ
أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ جُوزِيَ مِثْلَ جَزَائِهِمْ؛ لِيَحْذَرَ
أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ؛ وَلِيَرْغَبَ فِي أَنْ يَعْمَلَ
مِثْلَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ؛ قَالَ -تَعَالَى-:
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، وَقَالَ -تَعَالَى-:
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا
لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا ﭟ
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 76-77]»[12].
من حِكَم ثبات السنن الربانية واطرادها:
اطمئنان النفوس حين تثق بالنتيجة والعاقبة، فالمؤمن الذي يثق أن جزاءه الجنة على
إيمانه؛ سيمضي سائرًا في طريقه على مقتضيات الإيمان، واثقًا من وعد ربه بالجنان،
صابرًا على ما يلقاه في هذا الطريق من ابتلاء وامتحان.
الاتعاظ والاعتبار؛ فمن تُحدِّثه نفسه بالإساءة إذا عرف عاقبة إساءته؛ ارتدع
وامتنع.
ربط المسبَّبات بأسبابها؛ فالله قد ربط الأمور بأسبابها، ولكن ينبغي التوازن في
الالتفات إلى الأسباب، فإنه على نوعين:
أ-التفات شِرْكيّ؛ يتمثل في الاعتماد عليها، والاطمئنان لها، والاتكال عليها، وقطع
النظر عن مُسبِّبها -سبحانه-، واعتقاد أنها فاعلة بنفسها.
ب- التفات شرعي؛ يتمثل في الأخذ بها، مع اعتقاد أنها من الله، فتتوكل عليه وتعتمد
عليه -سبحانه-، ولا تشغله الأسباب عن المسبّب -سبحانه-؛ فترك الأسباب قَدْحٌ في
العقل، والحسّ، والفطرة، والشرع، والاعتماد عليها بالكلية قَدْحٌ في الإيمان،
والتوحيد، والدين.
النظرة الثاقبة للمستقبل، والقدرة الفائقة على استشرافه.
تجنُّب أخطاء السابقين؛ حتى لا يقع فيما وقعوا فيه، فيحصل له مثل ما حصل لهم،
فيكون عبرةً لغيره، بدلاً من أن يَعتبر هو بغيره.
الاطمئنان إلى عدل الله في خلقه؛ حين يرى أَخْذه للمجرمين، وانتصافه للمظلومين.
اختصار طريق النصر والتمكين؛ فمَن لا يَفْقه هذه السُّنن سيظَلّ ضالًّا متخبطًا،
يقوم ويسقط ويتعثر، ولن يصل لمبتغاه.
تحصيل الأجر والثواب؛ بامتثال أمر الله لنا بالاعتبار والادكار، وتقليب الأنظار؛
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الأنعام: 11]، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [النمل: 69].
تعريف اللاحقين بأسباب إهلاك السابقين ليجتنبوها؛ «وكذلك
كلُّ
موضعٍ
أمَر
الله
-سبحانه- فيه
بالسَّير
في الأرض، سواء كان السَّيْرَ الحِسِّيَّ على الأقدام والدوابِّ، أو السَّيرَ
المعنوي بالتفكُّر والاعتبار، أو كان اللفظ يعمُّهما وهو الصواب؛ فإنه يدل على
الاعتبار والحذر أن يحِلَّ بالمُخاطَبين ما حلَّ بأولئك. وقد نفى الله -سبحانه- عن
حُكمه وحِكمته التسويةَ بين المختلفَين في الحُكْم؛ فقال -تعالى-: ﴿أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﯯ
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35 - 36]؛
فأخبر أنَّ هذا حُكْم باطل في الفِطَر والعقول، لا تليق نسبته إليه -سبحانه-. وقال
-تعالى-: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21]، وقال -تعالى-: ﴿أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28][13].
المبادرة بالتوبة، وعدم التسويف بها؛ فالسُّنن لا تُجامل، وقد تأتي بغتةً، وقد
يستيقظ الإنسان بعد فوات الأوان؛ ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﯪ فَلَمْ
يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 84- 85].
عدم المحاباة، ومُضِي السُّنن على جميع المخلوقات:
السُّنن الإلهية عامَّة، تَسري على الجميع، دون محاباة ولا تمييز؛ ﴿لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123].
استبطاء وقوع السُّنن الإلهية:
يقع هذا الاستبطاء من بعض الناس بسبب عَجَلتهم؛ قال -تعالى-: ﴿خُلِقَ
الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: 37]، ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾
[الإسراء: 11]، وقال رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «واللَّهِ
لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتّى يَسِيرَ الرّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ،
لا يَخافُ إلّا اللَّهَ، والذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»[14].
إن السُّنن الإلهية سائرة على وتيرتها، لا تتخلَّف، ولكن ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8] و﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38].
وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] لسان العرب (13/ 225).
[2] أخرجه مسلم (1017).
[3] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 19- 20).
[4] شفاء العليل (2/ 143).
[5] المفردات في غريب القرآن (429).
[6] جامع الرسائل (1/ 52).
[7] تفسير السعدي (ص461).
[8] أخرجه البخاري (1076).
[9] تفسير السعدي (ص300).
[10] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 20).
[11] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 23)، وانظر النبوات (867).
[12] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 20).
[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 280 - 281).
[14] صحيح البخاري (٦٩٤٣).