طالب العلم وقسوة القلب
يتأخر عن صلاة
الفريضة.. ربما أحياناً في الصف الأخير.. وربما لا يدرك الجماعة أصلاً.. وإن صلى
استعجل ولم يطمئن ولم يخشع.. تلاوة كتاب الله على حسب المزاج.. وربما يمر أكثر من
شهر أو شهرين ولم يختم.. وإن قرأ القرآن الكريم لا تمهّل ولا تدبّر .. الأذكار
سواء بعد الصلوات أو أذكار الصباح والمساء أو أذكار اليوم والليلة ليست بذاك
الاهتمام.. التوسع في فضول الكلام والطعام والمنام والترويح والاستجمام.
-
هذا الحال المؤسف لبعض (أقول لبعض) من ينتسب لطلب العلم، وقد يكون مقلاً في التوسع
في الفضول، إلَّا أنه مخل في التبكير للصلوات والطاعات والمحافظة على التلاوة
والأذكار والأوراد، بل قد يكون من أهل العلم المشهود لهم حفظاً وفهماً واستنباطاً
وبحثاً، لكن لا يُظهر الاهتمام الجلي الواضح بالحرص على تزكيته لعلمه بالعمل
الصالح، (وليس أحداً والله فوق مستوى النصح، فكلنا بحاجة للنصيحة الصادقة والتوجيه
السديد)، وما تساهل من قصَّر وفرَّط إلا عندما نضبت النصيحة، أو عندما صم المنصوح
أذنيه عن الحق ورأى أنه هو الذي يوجّه ويعلِّم وليس بحاجة إلى أن يوجهه أو يعلمه
أحد.
- وقد يكون
التقصير البيّن الذي لا ينبغي لمسلم فكيف بمن يُعتبر قدوة في صفوف طلبة العلم أو
قدوة في علمه وتعليمه؟ قد يكون ذلك الخلل عند البعض بسبب احتجاجه بفضل طلب العلم
الشرعي وتعليمه وإيراده النصوص الدالّة على عظيم فضله.
وهذا
حقيقةً من الفهم المغلوط، إذ ليس المقصود التمسك بنوافل العبادات وترك طلب العلم
أو تعليمه؛ إنما توضيح التفريط أصلاً في العمل بالعلم.. وكذلك لم يفهم أهل العلم
الأجلاء من سلفنا الصالح هذه النصوص على أنها تزهيد للعمل الصالح الذي هو ثمرة
العمل بالعلم، بل نجد في سيرهم العطرة صدق المحافظة على الطاعات والنوافل من قيام
لليل وصيام للنهار والتبكير للصلوات والطاعات والمداومة على الأوراد من تلاوة
للقرآن والأذكار بأنواعها وهيئاتها، مع الاهتمام الواضح بأعمال القلوب من إخلاص
وخشوع وخشية وإخبات والتحلّي بالورع والزهد.. ونحو ذلك من فضائل الأعمال، بل قبل
السلف الصالح حال صفوة البشر الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وعلى رأسهم خير
الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
- وحتى
يكون الحديث بعيداً عن التنظير فحسب؛ فلنعرج على شيء من حال علمائنا الأجلاء من
سلفنا الصالح - رحمهم الله ورفع منزلتهم في عليين -. ويلحظ هنا عدم ذكر من عُرف
بالعبادة وترك العلم، حتى لا يُقال إنهم أقوام تفرغوا للعبادة ولم يجتهدوا في طلب
العلم وتعليمه.. ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى مظان ذلك: كسير أعلام النبلاء
للذهبي، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وحلية الأولياء لأبي نعيم، والزهد للإمام أحمد.
- قال
إبراهيم بن وكيع - شيخ الشافعي - رحمه الله: كان أبي يصلي الليل فلا يبقى في دارنا
أحد إلا صلى، حتى إن جارية لنا سوداء لتصلي.
- قال سعيد
بين المسيب - رحمه الله -: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.
- كان
الإمام الشافعي - رحمه الله - يُقسّم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة،
وثلث للنوم.
- وقال -
رحمه الله - (مبيناً تركه فضول الطعام وضرره): ما شبعت منذ 16 سنة؛ لأن الشبع
يُثقل البدن ويُقسي القلب ويُزيل الفطنة ويجلب النوم ويُضعف صاحبه عن العبادة.
- كان سعيد
بن جبير - رحمه الله - يختم القرآن في كل ليلتين.
- قال أبو
الجويرية: لقد صحبت أبا حنيفة - رحمه الله - ستة أشهر فما فيها ليلة وضع جنبه على
الأرض (كناية عن قيامه لليل).
- وفي
الابتعاد عن الفضول بأنواعه المتمثل في الزهد، قال الإمام أحمد - رحمه الله -:
الزهد على ثلاثة أوجه، الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من
الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يُشغل عن الله وهو زهد العارفين. (يشير -
رحمه الله - إلى ترك زخارف الدنيا وترفها وملذاتها، وكذلك فضول الخلطة والكلام
والطعام والمنام).
- كان
الحسن البصري - رحمه الله - يبكي حتى يُرحم، (أي من خشية الله تعالى).
- وقيل
للحسن - رحمه الله -: يا أبا سعيد، كيف رأيت حالك؟ فقال: حال من ينتظر الموت إذا
أمسى، وإذا أصبح لا يدري هل يمسي؟ وكيف يموت؟
- وانظر
إلى لب تعريفهم للفقيه حقاً - نسأل الله من فضله -:
جاء رجل
إلى الحسن - رحمه الله - فسأله عن مسألة فأفتاه، فقال الرجل: يا أبا سعيد، من
الفقيه؟ قال: (الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المجتهد في
العبادة؛ هذا الفقيه).
- قال
سفيان بن عيينة - رحمه الله -: (إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة).
- عن مسعر
عن رجل قال: أتى طاووس - رحمه الله - رجلاً في السَّحر، يعني - رحمه الله -: كيف
يترك قيام الليل؟
- قال سعيد
بن جبير - رحمه الله -: (إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك؛
فتلك الخشية، والذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره).
- قال
إبراهيم بن يزيد بن الأسود - رحمه الله -: (إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة
الأولى فاغسل يدك منه).. فكيف لو رأى - رحمه الله - من يتهاون منهم في الصلاة مع
الجماعة بكاملها - نسأل الله العفو والعافية -.
- قال وكيع
- رحمه الله -: كان الأعمش (سليمان بن مهران) - رحمه الله - قريباً من سبعين سنة
لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريباً من سبعين فما رأيته يقضي ركعة.
- وفي
كراهيتهم للشهرة والفخر: قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية
والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلمَّا خرج
قال لي: ما العيش إلا هكذا - يعني رحمه الله حيث لم نُعرف ولم نوقَّر -.
- وفي
فضيلة التواضع والانكسار: قال بكر بن عبد الله الـمُزني - رحمه الله -: (إذا رأيت
من هو أكبر منك فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من
هو أصغر منك فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك
يكرمونك ويُعظّمونك فقل: هذا فضل أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيراً فقل: هذا ذنب
أحدثته).
- وفي
ترطيب اللسان بالذكر: قال عاصم بن الأحول: (كان عامة كلام ابن سيرين - رحمه الله -
سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده).
- وفي
الخوف من العجب: قيل للإمام أحمد - رحمه الله -: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عينه،
وقال: (أخاف أن يكون استدراجاً).
- وفي حفظ
اللسان: قال بكر بن منير: سمعت محمد بن إسماعيل (البخاري) - رحمه الله - يقول:
(أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً).
- وعن
الورع: سُئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن الرجل يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم
لا يعرفه، قال: (لا يأكل منها شيئاً حتى يعرفه).
- وفي
الحرص على العمل بما عُلِمَ: قال سفيان - رحمه الله -: (ما بلغني من رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديث قط إلَّا عملت به ولو مرّة)، وذُكر عن الإمام أحمد - رحمه
الله - مثل ذلك.
- وفي
الحرص على الوقت بالبعد عن كثرة المجالسة: قال ابن المهدي - رحمه الله -: (كُنَّا
مع الثوري أي سفيان - رحمه الله - جلوساً بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله).
- وفي
التخويف من حُب الرئاسة: قال سفيان - رحمه الله -: (ما رأيت الزهد في شيء أقل منه
في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة
حامى عليها وعادى).
فكيف بحال
من لم يزهد في رئاسة ولا مطعم ولا ملبس ولا مركب ولا مسكن، بل يُرى على بعض أهل
العلم التنعّم والترف البيّن في ملبسه ومركبه ومسكنه.
وصحيح أنه
قد صح عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله يُحب أن يرى أثر نعمته على عبده)[1]، لكن هذا
غير ما نحن بصدده من مظاهر التوسع والترف الذي يُنافس فيه بعض من ينتسب للعلم أهل
الثراء والوجهاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم لرأس علماء الصحابة في الحلال
والحرام مُعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لـمَّا بعثه إلى اليمن: (إياك والتنعم، فإن
عباد الله ليسوا بالمتنعمين)[2]، أي التكلف في التنعم
والوقوع في الترف، وليس الحديث هنا عن تحرير النصوص في ذلك، فهي واضحة جلية لأهل
العلم.. إنما هي إشارة عابرة.
وإن لم
يقتدِ أهل العلم وطلابه بعلماء السلف الصالح وأئمتهم من الصحابة والتابعين
وتابعيهم بإحسان - رضي الله عنهم ورحمهم - في عباداتهم واهتمامهم بأعمال قلوبهم
وزهدهم وورعهم وما إلى ذلك؛ فبمن يقتدون.
بل إن
الآثار الـمُرَّة لضعف العبادة والطاعة والسمت الصالح لتؤثر سلباً في جيل من
المتعلمين، بل في عامة الصالحين، حيث تأثرهم بالقدوة الحية أعمق أثراً وأقوى
رسوخاً من كثير من التوجيه والتعليم.
بل قبل ذلك
في القدوة نفسه في صميم تقواه؛ والذي له جليل الأثر في فتح الفتاح جل وعلا عليه في
العلم والإصابة والسداد، كما ذكر تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّـمُكُمُ
اللَّهُ}
[البقرة: ٢٨٢]، وهذا بلا شك يستلزم من القدوات ومن في طريقه إليهم أن
يولي هذا الأمر الجليل النبيل مزيد عناية واهتمام ودراية، ورحم الله أئمة وعلماء
سلفنا الصالح، فقد أدركوا أهمية ذلك؛ فأنشؤوا أجيالاً يخشون الله جل جلاله بحق،
وما سيرهم التي تطفح بها المصنفات عنا ببعيد، بل لو تمعنا وتأملنا بصدق وإنصاف في
بركة علم السلف الصالح وقبوله، لوجدنا أن أعظم سبب في ذلك: حسن إقبالهم على خالقهم
- جل وعلا -، وحسن طاعته وعبادته وخشيته، مع صدق مراقبته ومحاسبة النفس والبعد عن
زخارف الدنيا والتوسع فيها.
مع العلم
أن من علماء الخلف من قد يفوق بعض علماء السلف علماً وحفظاً وفهماً، لكن المحكّ
ومربط الفرس فيما ذُكر - نسأل الله من رحمته وفضله -. وأما أهم وأبرز أسباب هذا
الخلل في تربية النفس على الطاعات، خاصةً من بعض أهل العلم وطلابه:
مع ما ذكر
من التوسع في زخارف الدنيا والتنعم والترف وحجة الاشتغال بالطلب والتعليم، فهناك
سبب رئيسي ثالث، ألا وهو: ضعف مجاهدة النفس، والعجيب في هذا السبب أن البعض يجاهد
نفسه في الطلب والحفظ والبحث والتعليم ولا يجاهد نفسه في التبكير للطاعات
والمحافظة على نوافلها، ولعل ذلك يدخل في اقتناعه التام بأهمية الطلب والتعليم، ولكن
ليس في قرارة النفس حقيقةً الاقتناع بأهمية الحرص على الطاعات والمداومة عليها،
وهذا يدعوه إلى أن يُراجع النصوص الواردة في فضل العمل بالعلم عموماً والطاعات
والقُربات خصوصاً، مع اقترانها بالتحذير والوعيد فيمن أهملها وأخل بها.
وبلا شك أن
النفس يعتريها الفتور، ولكن إذا أصبح الفتور هو الغالب فهذا على جرف هار، بل
يستدعي تجديد التوبة الناصحة وأخذ النفس بالعزيمة الصادقة وترويضها على التدرج في
المحافظة على بعض الطاعات أو نوافلها حتى تعتادها، ثم الانتقال بها إلى طاعة أخرى
وترويضها وتربيتها عليها حتى تألفها.. وهكذا، مع التركيز على أثر تحميس النفس في
الاقتداء بمطالعة سير السلف الصالح، خاصةً أهل العلم منهم، على أن يُتنبّه إلى أن
لا تجنح النفس في العبادة فتثقل عليها وثم تتركها بالكلية، لأنه قد ورد في سير
السلف وخاصةً بعد جيل الصحابة - رضي الله عنهم - من بعض التابعين وأتباعهم - رحمهم
الله - من قد وقع في الغلو في العبادة، فلا يُقتدى به في ذلك.
وأيضاً
ينبغي كذلك الاطلاع على ما يعين على إصلاح أعمال القلوب وتربية النفس، فإن البعض
من أهل العلم وطلابه ينغمس في المسائل العلمية المجردة عما يرقق القلب ويزيد
الإيمان، بل منهم من يزهد ويزهّد فيها بحجة ما سبق من الاهتمام الـمُبالغ بالعلم
الشرعي، وكأن العلم الشرعي مقتصر فقط على مسائل وخلاف وأقوال ونسي قول الصحابي
الجليل بل هو من رؤوس علماء الصحابة - رضي الله عنه وعنهم - عبد الله بن مسعود
حينما قال مقولته الشهيرة التي تناقلها علماء السلف: (ليس العلم بكثرة الرواية،
ولكن العلم الخشية)[3]، وقوله أيضاً: (كفى بخشية الله علماً، وكفى
باغترار المرء جهلاً)[4].
وكذلك من
الخطوات الفعّالة في تربية النفس على الطاعات والمحافظة عليها: الابتعاد ما أمكن
عن الفضول بأنواعه، فهو خطر خطير في الإصابة بالغفلة والفتور، سواء كان فضول خلطة
أو كلام أو طعام أو منام، بل إن ذلك كما عدّه طبيب القلوب ابن القيم - رحمه الله -
من مفسدات القلوب.
بل هو
البوابة الرئيسية للوقوع في الحرام، فضلاً عن حرمان الطاعات والقُربات.
وفي
المقابل فهذا يدعو الحريص إلى الحرص على حسن اختيار الجليس الصالح والشيخ المربي
والمعلم الجليل.
وأخيراً:
قبل ذلك وبعده الاستعانة بالمعين جلَّ وعلا وكثرة دعائه، خاصةً في أوقات الإجابة
ومواطنها، ومن ذلك ما أرشد إليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه رأس علماء الصحابة
في الحلال والحرام معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما قال له: (يا معاذ، والله
إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك)[5]، والخطاب له وللأمة، وكان من دعائه صلى الله عليه
وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم
إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا
يستجاب لها)[6].
فاللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وأعنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
::
مجلة البيان العدد 318 صفر 1435هـ،
ديسمبر 2013م.
[1] سنن
الترمذي رقم 2963، وصحيح الجامع رقم 1887.
[2] مسند
الإمام أحمد رقم 22105، وصحيح الجامع رقم 2668.
[3] الدر
المنثور: 7/20-21.
[4] المرجع
السابق.
[5] أخرجه أبو
داود في سننه برقم 1522، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7969.
[6] صحيح مسلم
رقم 4905.