نحو تعاقُب دَعَوي منظَّم

المؤتمرات الدعوية من الوسائل التي يستطيع الداعية الاستفادة منها في التعاقب الدعوي؛ فيجتمع ثلة من الدعاة، وكل داعية يذكر تجربته، ولا بد أن يسبق ذلك التخطيط الجيد والتنظيم الحسن، مع تجميع تلك المواد ونشرها كتابةً وصوتًا وصورةً


التَّعاقُب الدَّعَوي من أهم الأعمال التي ينبغي للداعية القيام بها؛ حتى يستفيد مَن يأتي مِن بعده مِن تجربته الدعوية، ويُوفِّر على الدعاة اللاحقين الوقوع في الأخطاء والمشكلات التي وقعت من قبلهم، وتكون تلك التجارب والخبرة الدعوية في ميزان حسنات الدعاة؛ بإذن الله.

 إن تعاقُب المعاني الجميلة واستمرارها من الأمور التي يحرص عليها الصالحون، فما دعا نبي الله زكريا -عليه السلام- ربه أن يرزقه ولدًا إلا لذلك المعنى؛ فقال الله -تعالى- عن نبيه زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا 5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم: ٥، ٦]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم  حريصًا على تبليغ سُنته ومنهج الإسلام تبليغًا قوليًّا وفعليًّا ليرث الصحابة منه ذلك المنهج، ويُورّثوه لمن بعدهم علمًا وعملاً.

ولا ينبغي أن تنقطع العلاقة بين كبار الدعاة والدعاة الجدد الأصغر سنًّا، بل ينبغي أن تكون العلاقة بينهم وثيقة، فيستفيد الآخرون من الأوائل، ويتعلمون من تجربتهم وسَمْتهم وطريقتهم في الدعوة والإصلاح.

ولا ينبغي للداعية أن يُخْفِي تجربته الدعوية عن الدعاة الجدد، بل يجتهد في بيانها وتوضيحها وكتابتها مع تحقيق الإخلاص في ذلك، ففي جميع مجالات العلم يستفيد المبتدؤون من تجارب المتخصصين السابقين، فلماذا لا تستفيد الدعوة من تجارب الدعاة والمصلحين؟!

إن التعاقب الدعوي عبر نقل تجارب كبار الدعاة للاحقين من الأشياء التي تنفع الدعاة الجدد، وتجعلهم يُحققون العديد من النتائج الطيبة في الدعوة إلى الله -تعالى-.

إن الدعاة اليوم يعملون في الشمس، يراهم الجميع، ويعرفون تفاصيل جهدهم؛ فأخطاؤهم واضحة وظاهرة للعيان، فنحن بحاجة لتقليل تلك الأخطاء، والتعلم من التجارب الدعوية السابقة، وعدم الوقوع في الأخطاء القاتلة التي وقع فيها الدعاة في الماضي.

ومهما كانت بعض الدعوات فيها من الشوائب والمخالفات، فلا ينبغي الإعراض عنها بالكلية، بل نستفيد من الصواب الذي في تلك الدعوات، ونترك ما جانَب الصواب وخالَف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ، وصادَم مقاصد الإسلام العظيمة.

ولا ينبغي للدعاة اليوم تكرير الأخطاء الماضية، والبدء من نقطة البداية التي بدأ منها السابقون، بل يتعلمون ممن ذهب، وينهلون من تجاربهم الدعوية.

 ومع أهمية التعاقب الدعوي، هناك عقبات تُسهم في منع الدعاة من القيام بهذا التعاقب الدعوي، نذكر بعضها، ونناقشها؛ حتى نزيل تلك العوائق.

 عقبات وعوائق تمنع التعاقب الدعوي:

1- الخوف من جرح الإخلاص

لا شك أن حديث الداعية عن تجربته قد يُشْعِره أن ذلك يَجْرح إخلاصه، ولا شك أن المسلم دائمًا في اختبار، سواءٌ تحدَّث عن تجربته أو صَمت؛ فإن تحدَّث خشي الرياء، وهذا يدعوه لمجاهدة نفسه، وإن صمت حرَم إخوانه من تجربته؛ فعلى الداعية مجاهدة نفسه في تحقيق الإخلاص في حُسْن قصده بالتعاقب الدعوي، فإذا كان المرء يُخفي عمله كثيرًا، فالناس في بعض الأوقات بحاجة لمن يُظهر عمله ليقتدوا به، كالذي يجهر بالعمل الخيري والصدقة ليقتدي الناس بفعله، وهكذا أيضًا في التعاقب الدعوي.

2- الخوف من الإيذاء في نفسه أو أُسرته

 بذكر بعض التفاصيل التي تتعلق ببعض الجهات، وهذه عقبة شديدة، فليس مطلوبًا من الداعية التصريح دائمًا، والكلام المباشر بكل ما حدث، بل المطلوب ذِكْر ما تحتاجه الدعوة وما يحتاجه الدعاة، وهناك أساليب عديدة في البلاغة العربية كالكناية والتشبيه والاستعارة والمجاز تساعد الداعية في التحدث عن أمور معينة دون التصريح مع الوصول للبيان بالتلميح والأسلوب غير المباشر، فليفعل الداعية ذلك، والداعية العاقل هو الذي يجمع بين سلامة نفسه وتحقيق التعاقب الدعوي بالتلميح والأسلوب غير المباشر.

3- الدخول في الخلافات مع من يختلفون معه

وهذا الأمر مما يحرم الكثير من الناس من الانتفاع بتجربته، ولذا على الداعية عدم الدخول في تفاصيل تُفضي به لتجريح بعض المنتمين لبعض الأحزاب والجماعات التي يختلف معهم، وليكن كلامه مختصرًا وواضحًا وبعيدًا عن التجريح وعدم الإنصاف؛ وعلى الداعية مراعاة الحكمة في عرض تجربته إذا كان لها صلة ببعض ممن يختلف معهم، فيسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم  كما قال الله -تعالى-: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]، فليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال يقوله المرء من غير حكمة ولا رفق. والداعية ليس بحاجة لذِكْر الأشخاص ولا جميع الملابسات، بل اللبيب بالإشارة يفهم؛ لأن التصريح بكل شيء يحرم الكثير مِن الناس مِن الانتفاع مِن دعوته، لا سيما الذين يختلفون مع الداعية في توجههم.

 وسائل تعاقب الدعوة:

1- المؤتمرات الدعوية:

المؤتمرات الدعوية من الوسائل التي يستطيع الداعية الاستفادة منها في التعاقب الدعوي؛ فيجتمع ثلة من الدعاة، وكل داعية يذكر تجربته، ولا بد أن يسبق ذلك التخطيط الجيد والتنظيم الحسن، مع تجميع تلك المواد ونشرها كتابةً وصوتًا وصورةً؛ ليعمّ النفع بتلك التجارب، وما أجمل أن يتناقش الدعاة مع بعضهم في تجاربهم فتتضح التجارب وتبرز الدروس وتظهر العِبَر لجميع المهتمين بالدعوة والإصلاح.

2- المقالات:

المقال من أسهل الوسائل في التعاقب الدعوي، وكتابة المقال لا يُكلّف الداعية كثيرًا؛ فيستطيع الداعية أن يكتبه من عفو خاطره، دون أن يبذل جهدًا كبيرًا في ذلك، فيستطيع انتقاء درس من دروسه الدعوية أو موضوع من موضوعاته التي مرَّ فيها بتجربة، ويعالجها في مقال من مقالاته، فقد يكون موضوع المقالات بعنوان تجربتي مع خطبة الجمعة، أو تجربتي في إعداد الدروس، أو تجربتي في الإمامة، أو تجربتي في الإدارة المدرسية، أو تجربتي مع معالجة المشكلات الأسرية،... وهكذا، مقال متوسط يجمع خيرًا كثيرًا وتجربةً وافيةً نافعةً للأجيال اللاحقة، وإذا كتب الداعية عدة مقالات يستطيع بعد ذلك وضعها في كتاب نافع يستفيد منه أبناء العمل الإسلامي جميعهم.

3- السيرة الذاتية:

وهذه ينبغي للداعية الاعتناء بها مبكرًا منذ البدء في الدعوة والإصلاح؛ لأن الداعية عندما يتأخر في التدوين تضيع منه الكثير من التفاصيل المهمة التي تنفع اللاحقين، فالكتابة اليومية ومتابعة الجهد الدعوي اليومي بالتدوين والتسجيل يجعل التجربة واضحة وظاهرة للقراء، ويجعلهم يستفيدون من تلك التجربة، وعليه أن يستصحب النية الصالحة عندما يبدأ في كتابة سيرته الذاتية لينتفع الدعاة بسيرته وتجربته الدعوية.

4- الروايات الأدبية:

 ميزة الرواية الأدبية أن مساحة البَوْح لدى الكاتب واسعة جدًّا، وإذا امتلك الداعية تقنيات الكتابة السردية يستطيع أن يُمتّع القارئ ويُلقّنه دروسًا دعوية جيدة أيضًا، فيخرج الداعية الصغير المبتدئ بتجارب نافعة ويتعلم الدروس المفيدة، ويصل لتفاصيل خيالية تحاكي تفاصيل حقيقية، فيغرس بين السطور الأمور التي لا يستطيع الكاتب التصريح بها، لتصل المعاني للقراء دون أن يصيب الكاتب سوء أو شر.

5- اللقاءات الحوارية:

 من الأساليب الجيدة التي ينبغي أن نمارسها في التعاقب الدعوي: القيام بالحوارات النافعة مع الدعاة الذين لهم تجربة دعوية نافعة، وينبغي أن تكون الأسئلة الملقاة على الداعية مما تخدم الدعاة والدعوة وبعيدة عن الأمور الشخصية التي لا تنفع، وما أجمل أن تُبَثّ تلك اللقاءات في الصحف والمجلات، وتتشر في الإذاعة والتلفاز، ومنصات التواصل على الإنترنت.

إن التعاقب الدعوي من الأعمال النافعة التي ينبغي أن نَحُثّ الدعاة على القيام بها؛ حتى نُطوّر من دعوتنا، ونسهم في توسيع دائرة الإصلاح لدينا، والتقليل من أخطاء الدعاة، والتعلُّم من الأخطاء السابقة. 

أعلى