مؤتة بوابة الهيبة والنصر

الطائفة المؤمنة لا يركنون إلى مُعين أو معاون من البشر، وجُلّ مَن يساندهم لا ترتقي قدراتهم لصدّ عنفوان الأمة المتنازع معها. ومع ذلك لم ينكص أحد منهم على عقبيه، بل ازدادوا ثباتًا حتى حين علموا أن عدد الأعداء قد تضاعَف بقدوم ملك الروم ورجاله بجيش رديف يماثل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فلا يتوقع أحد أن تجرؤ دولة ناشئة من أصل جماعة قليلة مُطارَدة على مُقارَعة قوة محيطة بها، خاصةً أن هذه القوة ذات مدد، وعَدد، وعُدد، ولها سطوة وهيبة، لكنّ الواقع جاء على خلاف هذه الحسابات البشرية التي غدت محض خيال لا يختلف كثيرًا عن مصير الهباء المنثور الذي تذروه الرياح فيصبح بلا قيمة ولا قَدْر.

يصدق هذا الوصف على غزوة مؤتة التي وقعت في بلدة مؤتة بمحافظة الكرك جنوب الأردن في شهر جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة، (الذي يوافقه شهر أغسطس عام 629م).

وكانت هذه المعركة التاريخية بين جيش المسلمين وجحافل الروم والغساسنة الذين ربما فجعتهم نتائج هذه الواقعة، وغصُّوا بها لدرجة الشَّرَق المميت، ولو كان لآلتهم الإعلامية أن تنعتها لأسمتها كارثة أغسطس!

تُجمع المصادر التاريخية على أن سبب هذه الغزوة هو اعتداء الحاكم الغساني شرحبيل بن عمرو على سفير النبي صلى الله عليه وسلم  الحارث بن عمير الأزدي -رضي الله عنه-، الذي حمل رسالة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ملك بُصْرى؛ يَدْعُوه فيها إلى الإسلام، فاعترَضه الشقي الغساني وضرب عنقه. وكان العُرْف الدولي مستقرًّا على حماية الرسل والسفراء، ومنع الاعتداء عليهم، بَيْد أن عتو الأقوياء يحجب عنهم هذه الأعراف، ويُوهمهم بأنها أعراف واجبة النفاذ على الضعفاء، وخاضعة للتقدير عند الأقوياء!

لأجل ذلك جهَّز النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- جيشه المجاهد لمُعاقَبة الحاكم الغساني على صنيعه الآثم الخلي من الكياسة ومن المروءة.

ولم يلتفت النبي القائد صلى الله عليه وسلم  لأيّ مخوف أو حساب ليس في صالح إمضاء هذا الجيش، بل إنه كان يتوقع شدة الأمر وصعوبته، ولذلك احتاط لهذا الاحتمال، وعيَّن ثلاثة قادة للجيش، وسماهم، ورتَّبهم بالتوالي؛ رضي الله عنهم وأرضاهم، وتقبَّلهم مع الشهداء الأبرار.

ولم يتردد المسلمون في إجابة هذا النداء الصعب، والمشاركة في المهمة الخطرة، وهي مهمة فيها سفر بعيد إبَّان شهور الصيف اللاهب، وغايتها مواجهة قوة لا قِبَل لهم بها، ولا عهد لهم بنزالها، بيد أنهم لم يلتفتوا لهذه الواردات، حتى تمنَّى بعضهم ألَّا يعود من المعركة؛ رجاءَ الظفر بالشهادة، وهي أجلّ مطلوب ولو كان فيها فراق كل محبوب.

فمضى الجيش الصابر المحتسب وهو يعلم أنه سيواجه عددًا مهولًا من الطرف الآخر، وسارت جموع المجاهدين مع يقينهم بأن العالم المحيط يخالفهم ويقف في خنادق المناوئين، وأن الطائفة المؤمنة لا يركنون إلى مُعين أو معاون من البشر، وجُلّ مَن يساندهم لا ترتقي قدراتهم لصدّ عنفوان الأمة المتنازع معها. ومع ذلك لم ينكص أحد منهم على عقبيه، بل ازدادوا ثباتًا حتى حين علموا أن عدد الأعداء قد تضاعَف بقدوم ملك الروم ورجاله بجيش رديف يماثل الجيش الأصلي في تعداده.

ثم حمي الوطيس، وبدأت المعركة من جانب المسلمين، فأثخنوا في العدو، وبثُّوا الرعب في قلوب الكفار المترعة بالدنيا وشهواتها، حتى امتلأت نفوس القوم خوفًا من سيوف المسلمين، وهلعًا من الموت، وجزعًا من مفارقة الملاذّ، وتعلّقًا بالدنيا، فلم تنفعهم كثرتهم ولا حرصهم ولا تحوُّطهم، ولا أدلّ على ذلك من كثرة عدد قتلى الكافرين، وقلة عدد الذين رُزقوا الشهادة من الجيش المؤمن، ولو جرت الأمور وفق الحسابات المادية، والنظرة الدنيوية؛ لأمكن لمئات الألوف من أفراد الجيش أن يطحنوا بضعة آلاف مقاتل طحنًا، بيد أن ما حفظته الأرض، ووعاه التاريخ كان غير هذا، بل نقيضه تمامًا.

وقد شاء الله أن يُستشهد القادة الثلاثة تباعًا، ويُحْصَى في أجسادهم الطعنات والضربات من الأمام؛ لأنهم كانوا مُقدمين غير مدبرين، مشاركين غير منكفئين، حريصين على النصر أو الشهادة، وعلى رفع معنويات الجيش وطاقته الروحية، ولم ينتظر أحدهم ليأكل أو يشرب، رجاء نَيْل مطلوبه الأعلى، ومراده الأسمى، وربما أنه وقع في خَلدهم من تسمية القادة الثلاثة بالتتابع أن الشهادة تنتظرهم، ويا لها من مَغنم مُبتغى!

لأجل ذلك تقدَّم صحابي بَدْري اسمه ثابت بن أقرم -رضي الله عنه وأرضاه-، فرفَع الراية التي لا ينبغي لها أن تسقط، ويا له من فِعْل شجاع حصيف! فنحن أمة تتشارك في الغاية، ولا يستقل امرؤ نفسه وعمله في سبيل الله، ولا يَتركُ المرء ثغرته التي فُتِحَت أمامه دون سدٍّ كي لا ينفذ منها غادر أو عدوّ، وهكذا فعل هذا الصحابي البدري بمبادرته ومسارعته إلى تدارك الموقف.

ولم يهتبل الصحابي البدري الفرصة -وهي مواتية مطاوعة- لتحقيق مكسب شخصي أو مصلحة ذاتية، وإنما ابتغى الأصلح للمسلمين، ونظر لما يفيد الكافة والمجموع، وبحث عن الخيار الأنسب للحال، فدفع الراية إلى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- الذي استكبر أول الأمر من نفسه -وهو المتأخر في إسلامه- أن يتقدم على أهل بدر، بيد أنه رجع إلى رأي صاحب الراية الذي أشار إلى خبرة خالد في القيادة والقتال، والوضع القائم لا يحتمل غير الإقدام من أهله، ولا يناسبه إلّا تمكين ذوي المقدرة والدُّربة والأهلية.

وقد وفَّق الله خالدًا لتنظيم الجيش، وتغيير صفوفه ومواقعه؛ حتى نشر الفزع والهلع في صفوف جيش الكافرين، واستطاع بعد أيام تأمين تراجع الجيش المؤمن بسلام وسكينة، وضمان عودته سالمًا إلى المدينة النبوية، التي حزن كثيرٌ من أهلها عندما بلغهم الخبر، وحين فسَّروه على غير حقيقته التي أخبرهم بها النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام-.

تلك الحقيقة الناصعة البازغة التي وصفت الجيش بالكرّار. وأيُّ كَرٍّ أعظم وأقوى من مقارعة جيشٍ تعداده أضعاف مضاعفة مرات ومرات؟! وأيّ إقدام أشجع من استمرار القتال عدة أيام، وتكسير السيوف على رؤوس الأعداء والمحاربين من الكفار وأشياعهم، مع المحافظة على أفراد الجيش المسلم المستبسل في سبيل تحصيل النصر أو الشهادة؟! وأيّ نصر أعظم من العودة على مرأى من الأعداء دون أن يجرؤ أحد منهم على اللحاق بأولئك الفرسان الشجعان البواسل حقًّا؟!

وأيُّ كرّ وهجوم أشد مضاء وتأثيرًا مما أحدثه الجيش المسلم في أنحاء الجزيرة العربية، وفي تخومها؟! حينما عجَز الجيش اللجب، وعجز معه حلفاؤه من أقوياء الدنيا وسادات الأرض، فلم يستطع أحد منهم كسر جيش قليل العدد، ضعيف العُدَّة، منقطع النصير، وهو جيش في عُرف بعضهم لا يمثل دولةً، وإنما مجرد جماعة خالفت السائد، ولم تخنع لواقع قائم، أو ترضخ لقوة قريبة، أو تتطامن لفكرة مسيطرة، أو تقبل بمال مبذول لمن هان واستكان.

ليس هذا فحسب؛ فبعد أن ازدادت قوة المسلمين في عيون القوى المحيطة ومن جاورها، وترسَّخ في الوجدان وفي الواقع أنها فرضت نفسها وضرورة مشاركتها في البقاع وفي القرار، واكتسبت الدولة المسلمة مزيد خبرة ومعرفة بتلك النواحي وأهلها؛ صارت غزوة مؤتة تقدمةً للفتح الإسلامي الكبير الذي شمل أراضي الشام المبارك في عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، وكان من سابق القدَر أن تولى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قيادة بعض هذه الجيوش مدة من الزمن، وهو القائد الذي أسماه النبي -عليه الصلاة والسلام- سيف الله[1]، فظلّ سيفًا مسلولًا لا ينكسر، ولا يتوقف عن تحقيق رسالته.

إن الأحداث لا تُؤخَذ بمجرياتها المنظورة فقط؛ فلها تاريخ وسابقة، ولها مستقبل وآثار، والحكمة قد تخفى على المعاصر، والخيرة ستظهر ولو بعد حين؛ إذ ربما يموت الخيرة من الناس، ويَهلكُ الحرثُ والنسلُ، بيد أن العاقبة ستكون للمتقين، وسوف تعلو رايات النصر المبين، وتُزهر الأرض من جديد، ويخلف أقوامٌ راحليهم بخير خلافة وأتمّها، فتُكمل الناقصَ، وتُقيم المعوج، وتُصلح ما فسد، وتدعو لمن سلف على ثبات ورشد بالرحمة والرضوان، وحينها سيُردّد عباد الله كافة قول ربهم ومولاهم سبحانه: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة:21].


 


[1] كما هو مشتهر بين الصحابة، انظر صحيح البخاري (5076)، وصحيح مسلم (1946) و(1064)، وكما صحت به الأحاديث، انظر: مسند الإمام أحمد (22551).

 

 

أعلى