بنجلاديش والانتقام من الهوية الإسلامية
تشهد "بنجلاديش" اليوم أزمة
خطيرة، حيث تنتشر الفوضى والعنف، ويشتعل المسلمون غضباً، وسط ترقب لما سيحدث خلال
الأسابيع القليلة الماضية، بعد صدور أحكام بالإعدام على بعض قادة ورموز
"الجماعة الإسلامية"، على خلفية ما تقول الحكومة إنها "جرائم قتل
وإرهاب" قاموا بها خلال "حرب الانفصال" عن باكستان عام 1971م، وهي
الأحكام التي وصفتها الجماعة الإسلامية ومؤسسات حقوقية بأنها أحكام مسيّسة ناتجة
عن محاكم مسيّسة، كما ظهرت دلائل على تدخّل الحكومة في عمل المحكمة وإجبار القضاة
على إصدار أحكام الإعدام تلك.. في المقابل يصرّ التيار العلماني على تنفيذ
الأحكام، متجاهلاً كافة المآخذ القانونية على المحكمة، فيما يعتبر حرباً شديدة على
الجماعة الإسلامية وانتقاماً من الهوية الإسلامية للبلاد التي تسعى الجماعة للحفاظ
عليها.
بنجلاديش هي سابع أكبر دول العالم من حيث
عدد السكان، إذ إن عدد سكانها نحو 160 مليون نسمة، 96% منهم مسلمون، فهي رابع أكبر
الدول من حيث عدد المسلمين فيها، ويعتبر الإسلام الديانة الرسمية داخلها، لكن تعيش
الديانات الأخرى وتمارس شعائرها في سلام، واستقلت بنجلاديش عن باكستان عام 1971.
قصة الانفصال
يرى كثير من المؤرخين أن بذور انفصال
بنجلاديش عن باكستان زرعت يوم تقسيم شبه القارة الهندية حين رفض المستعمر
البريطاني وصل باكستان ببنجلاديش جغرافياً، فصارت الدولة الواحدة منقسمة جغرافياً
إلى منطقتين بعيدتين؛ باكستان والتي عرفت حينها بباكستان الغربية، وبنجلاديش التي
عرفت بباكستان الشرقية، وشجعت الهند انفصال بنجلاديش عن باكستان، وذلك عن طريق بعض
البنجاليين الذين كانوا يرددون أن البنجاليين لا يحظون بنفس الاهتمام والمعاملة
الذي يحظى به الباكستانيون، وزاد ترويج هذا الأمر حتى انتخابات عام 1970 التي فاز
فيها حزب "مجيب الرحمن" من بنجلاديش بالأغلبية النيابية، وكان قد قدم
مقترحاً من ست نقاط يمثل بذرة انفصال بنجلاديش، فرفض الجنرال يحيى خان الذي يصر
على الوحدة، تسليم السلطة لمجيب الرحمن، وقامت حرب أهلية، حتى أعلن الجيش الباكستاني
في بنجلاديش استسلامه أمام الجيش الهندي الذي خاض حرباً ضد باكستان لدعم انفصال
بنجلاديش.
كانت الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت ترفض
انفصال بنجلاديش؛ إدراكاً منها لخطورة تقسيم البلاد، والارتماء في الأحضان
الهندية، وقد انتقمت منها الحكومة البنجالية على الفور بعد الانفصال، حيث سجنت
الآلاف من المعارضين للانفصال، ثم تم العفو عنهم ضمن اتفاقية ثلاثية تمت بين
بنجلاديش وباكستان والهند، كما تم العفو عن 195 عسكرياً لم يكن من بينهم أي من
قادة الجماعة الإسلامية الذين يحاكمون الآن.
محاكمة بعد 37 عاماً
الجماعة الإسلامية هي أكبر القوى الإسلامية
في بنجلاديش، وإلى جانبها توجد قوى أخرى، مثل: مجلس الخلافة وحركة الخلافة،
والتيار السلفي الذي يُعنى بعلم التوحيد، وجماعة التبليغ والدعوة وهي لا تهتم
بالشؤون العامة وليس لها دور في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها
تمتلك وتدير العديد من المؤسسات، ومنها: جمعية العمال، وجمعية الفلاحين، وجمعية
التربية الإسلامية، ومطبوعة يومية، وأخرى أسبوعية، وثالثة شهرية، فضلاً عن إدارة
العديد من المدارس وثلاث جامعات حكومية تحظى بحضور إسلامي قوي في أوساط الطلاب.
خلال السنوات الأخيرة تعاظمت قوة الجماعة
الإسلامية، وصارت تمثل قوة سياسية واجتماعية مهمة في البلاد، فالمعارضة الرئيسية
تتمثل في الحزب الوطني البنجلاديشي وتقوده خالدة زيوار، والتي وجدت حلفاءها بين
الأحزاب الإسلامية، مثل: الجماعة الإسلامية البنجلاديشية، وجماعة أويكا جوتا
الإسلامية، بينما انحازت رابطة عوامي التي تنتمي إليها رئيسة وزراء بنجلاديش
الحالية شيخة حسينة ابنة شيخ مجيب الرحمن الذي أعلن استقلال البلاد عام 1971 وأصبح
رئيسها المؤسس بعد الحرب؛ إلى اليساريين والأحزاب العلمانية.
وقد أزعج هذا الوضع التيار العلماني الذي
يسيطر على الحكم في البلاد، فأثار قضية الانفصال مجدداً بعد مرور 37 عاماً عليها،
وطالبوا بمحاكمة قادة الجماعة الإسلامية بدعوى ارتكابهم جرائم حرب ونهب وسلب
وتأييدهم الجيش الباكستاني خلال حرب الانفصال، كما قررت الحكومة، بقيادة رئيسة
الوزراء الشيخة حسينة، حظر أي ممارسة إسلامية سياسية ومنع التعليم الإسلامي، وشنت
حرباً شرسة ضد الجماعة الإسلامية وأنشطتها السياسية والاجتماعية والتربوية
والدعوية، وذلك تحت ضغط الشيوعيين في الحكومة، وهم لا يقلون عن نصف عدد الوزراء؛
للقضاء على الجماعة الإسلامية وتضييق الخناق على قادتها، حتى إن الحكومة قامت بحذف
البند الأساسي من دستور البلاد وهو الإيمان بالله وتكوين العلاقة مع الدول
المسلمة.
وفي عام 2009 قدمت الأمم المتحدة دعماً
للحكومة البنجالية لمحاكمة قادة الجماعة الإسلامية بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال
حرب الانفصال، وطلبت الحكومة البنجالية من باكستان والولايات المتحدة تزويدها
بالوثائق الخاصة التي تتصل بالحرب، في الوقت ذاته ترفض محاولات المحامين الدوليين
التدخل بدعوى أن هذا أمر داخلي، وأنشأت الحكومة محكمة خاصة بجرائم الحرب بغرض
"محاكمة كل من أدين بالتعاون مع القوات الباكستانية خلال حرب الاستقلال
وارتكاب جرائم حرب".
أحكام الإعدام وانتقادات حقوقية
أصدرت المحكمة حكماً بالإعدام على عدد من
أكبر رموز الجماعة الإسلامية، على رأسهم اثنان من كبار شيوخ البلاد وعلمائها،
وهما: الشيخ دِلْوَار حسين سعيدي، والشيخ أبو الكلام آزاد، وقد لاقت تلك الأحكام
انتقادات واسعة من قبل عديد من الهيئات والمنظمات الحقوقية الدولية، مثل: منظمة
العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ورابطة المحامين الدولية، والمركز
الدولي للعدالة الانتقالية، والاتحاد الدولي للقضاء، وكذلك عدد من الشخصيات
والرموز السياسية العالمية، مثل: الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعدد من أعضاء
مجلس اللوردات بالمملكة المتحدة.
وقال الاتحاد الدولي للقضاء في تقريره عن
هذه المحاكمات الذي نشر في 22 يناير الماضي، بعد أن شكل وفداً من 14 عضواً زار
بنجلاديش في ديسمبر الماضي لمراقبة وقائع المحكمة؛ إنه يجب إيقاف حكم الإعدام على
"أبي الكلام آزاد" والمحاكمات الأخرى؛ نظراً لأن بنجلاديش لا تؤمِّن
محاكمة عادلة للمتهمين، وأن المحاكمة لا يمكن أن تطابق المعايير الدولية؛ لأن
القاضي والمدعي العام ولجنة التحقيق عُيِّنوا كلهم من قبل الحكومة، والمتهمون هم
سياسيون حزبيون من المعارضة، ومحاكمة بهذا الشكل لا يمكن أن تكون خاضعة للمعايير
الدولية.
واقترح التقرير 12 خطوة لتأمين محاكمة عادلة
لقادة الجماعة الإسلامية، على رأسها: تجريد القضية من العناصر السياسية، والتعامل
معها على أساس قانوني، وتعريف الجرائم التي وردت في محكمة جرائم الحرب بشكل واضح،
وإعادة تعيين القضاة لضمان الحياد، واستبدال القضاة والمدعين العامين وغيرهم في
القضية، وتعيين قضاة محايدين ومدعين عامين يتّسمون بالنزاهة، والتحقيق مع
المسؤولين الذين يسيؤون استخدام سلطتهم، وأن تكون السلطة القضائية في مأمن من
الضغوط السياسية، والتحقيق مع الذين وضعوا القضاء تحت الضغط.
وقد أعلنت منظمة هيومان رايتس ووتش أن هذه
المحاكمات لا تصل إلى مستوى العدل العالمي، وأن التغييرات التي أحدثت في قوانين
بنجلاديش لا ترقى أبداً للمستوى المطلوب، مما يعرض قادة الجماعة الإسلامية
السابقين لاعتقال تعسفي ومحاكمات سياسية جائرة وأحكام ظالمة.
وأوضحت المنظمة أن نظام المحاكمة في
بنجلاديش يحتاج إلى تعديلات لضمان العدالة، منها: السماح للمتهم بالتأكد من مدى
حيادية من يحاكمه، وتعريف مصطلح جرائم الحرب لأنه غير واضح في القانون البنجلاديشي
ولم يعدل طبقاً للمعايير الدولية، والتأكد من أن الدفاع يأخذ الوقت اللازم
للاستعداد؛ لأن القانون الحالي يسمح له فقط بثلاثة أسابيع، وإنشاء مكتب للدفاع كما
هو الحال في البلاد الأخرى.
الجماعة ترفض والعلمانيون يسيؤون ويحرضون
رفضت الجماعة الإسلامية الأحكام الجائرة
الصادرة عن المحكمة بحق قادتها ورموزها، وأصدرت بياناً طالبت فيه المجتمع الدولي
بأن يقوم بدوره في مخاطبة رئيسة وزراء بنجلاديش بأن توقف فوراً مهزلة المحكمة
الجائرة التي تود عبرها تلفيق التهم ضد قادتها الأبرياء؛ توطئة لشنقهم. وناشد
البيان الأمم المتحدة أن تقوم بإدارة محكمة جرائم الحرب والضغط على الحكومة
للإفراج عن قادة الجماعة الإسلامية المعتقلين بكفالة. كما طالبت منظمة المؤتمر
الإسلامي بإصدار بيان علني يدين النشاط غير القانوني لحكومة بنجلاديش، واستضافة
اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وانتقاد ما يسمى
المحكمة الجنائية ببنجلاديش بأنها عملية غير متناسقة مع المعايير الدولية.
وخرج أنصار الجماعة الإسلامية إلى الشارع
رفضاً لهذه الأحكام الجائرة، وتصدت لهم الحكومة، ووقع كثير من القتلى والجرحى في
صفوف المتظاهرين، وحذرت الجماعة الحكومة من مغبّة تنفيذ حكم الإعدام بحق قادتها،
فإنها وحدها تتحمّل عواقب هذه الفعلة المشينة، وقالت إنه "في حال رأت هذه
الحكومة أنه لا يمكن أن تتعايش في سلام مع هؤلاء العلماء، فإننا نطالب بترحيلهم
خارج بنجلاديش رغم أن مسلمي الداخل أولى بوجودهم وجهودهم، لكن على الأقل بقاؤهم
أحياء هو ذخر للأمة وركن متين ينفع الله به المسلمين عامة".
أما التيار العلماني فقد نظم تظاهرات في
العاصمة البنجالية دعا فيها إلى تنفيذ أحكام الإعدام ضد قادة ورموز الجماعة
الإسلامية، ضارباً بعرض الحائط الانتقادات الحقوقية الكثيرة التي وجهت للمحكمة،
متنكراً لكل خطاباته الرنانة حول احترام حقوق الإنسان وحرياته.
في الوقت ذاته، تطاول العلمانيون على
المقدسات والشعائر الإسلامية، ووجّه المدونون العلمانيون إساءات بالغة للإسلام
والمسلمين، فيما تشير أصابع الاتهام إلى شيخة حسينة بالوقوف وراء تلك الإساءات؛
لهدم الثوابت الإسلامية، فتطاول أحدهم على رب العزة - سبحانه وتعالى - وعلى نبينا
الكريم صلى الله عليه وسلم، فيما قال آخر معلقاً على أحكام الإعدام "إنه لا
أحد يستطيع أن يوقف حُكم الإعدام في الشيوخ المذكورين، حتى لو نزل الله للحيلولة
دونه لشَنَقْنَاه كذلك"، وذلك دون أن تحرك الحكومة ساكناً لمعاقبة هؤلاء، ما
أدى إلى تزايد الشكوك بوقوفها وراء تلك الهجمة على الثوابت الإسلامية.
قابل المسلمون في بنجلاديش هذه الإساءات
بموجة غضب عارمة، ودعت الجماعة الإسلامية أنصارها وجميع المسلمين للخروج في
تظاهرات حاشدة للتنديد بهؤلاء المدونين، والدعوة إلى فرض قيود صارمة على المدونين
الذين يسيؤون إلى الإسلام، وإنزال عقوبة الإعدام بهم، وشارك في التظاهرة مئات
الآلاف، ووفقاً لبعض التقديرات فقد وصل عدد المتظاهرين لنحو ثلاثة ملايين متظاهر
هتفوا "الله أكبر، الشنق للمدونين الملحدين".
خاتمة
إن تدافع الأحداث على هذا النحو بين محاولات
القضاء على الجماعة الإسلامية وفتح ملفات مضى عليها عقود من الزمان، ومحاكمات
مسيّسة تتساقط عليها الانتقادات كما الأمطار، والتضييق على الأنشطة التربوية
والاجتماعية، والتغيير في الدستور لترسيخ علمنة البلاد، والهجوم على الثوابت
والمقدسات الإسلامية؛ ليؤكد أن هناك صراعاً قوياً بين العلمانية والإسلام، وأن
الحكومة البنجالية الحالية تشن حرباً شرسة على الدين الإسلامي والهوية الإسلامية
في البلاد، ولكي تحقق نجاحاً في ذلك ينبغي توجيه ضربات قاضية إلى الجماعة
الإسلامية التي كان لها – بفضل الله - الدور الأبرز في الحفاظ على هوية البلاد،
ونشر الدعوة الإسلامية، وهو ما تقوم به الحكومة.
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.