• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هجوم طوفان الأقصى... ومغالطة تهميش الفلسطيني

فقد أظهرت المقاومة قُدُرَات غير متوقعة أمام قوة الجيش الصهيوني وتسليحه، وفضحت فشله الاستخباري، وأنتجت صورًا قلبت الافتراضات الأساسية التي كانت تُحرِّك النفوذ الأمريكي في هذا الملف


القراءة الأولية لهجوم طوفان الأقصى، الذي بادرت به المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؛ تؤكد أن المسار الذي تسلكه القوى الإقليمية والعالمية يتَّجه إلى استثمار الهجوم لصناعة فرصة جديدة تساعد الدولة العبرية في استيعاب الصدمة العسكرية التي تلقّتها؛ من خلال إعداد صفقة شاملة تُغيّر المشهد الإقليمي برُمته.

وإذا نظرنا لطبيعة التحرك الأمريكي، الذي شمل كافة القوى المؤثرة في المنطقة؛ فسنجد أنه يتّجه بصورة كبيرة إلى الاستفادة من حرب أكتوبر عام 1973م، والذي انتقلت عقبها مصر من محور اليسار الاشتراكي إلى محور (الاعتدال) الأمريكي، والذي بموجبه اتجهت المنطقة إلى مسار التطبيع الشامل بقيادة مصر.

فالضربة التي تلقَّاها الجيش الصهيوني هي الأولى من حيث النوعية والخسائر منذ حرب أكتوبر عام 1973م، وأفرزت نتيجةً واحدةً بالنسبة للدولة العبرية وثَّقتها التصريحات الأمريكية المتتالية تؤكد عدم ثقة الولايات المتحدة بقدرة الجيش الأمريكي على حماية المشروع الصهيوني في المنطقة.

فقد أظهرت المقاومة قُدُرَات غير متوقعة أمام قوة الجيش الصهيوني وتسليحه، وفضحت فشله الاستخباري، وأنتجت صورًا قلبت الافتراضات الأساسية التي كانت تُحرِّك النفوذ الأمريكي في هذا الملف.

فقد تبنَّت الدولة العبرية سياسة «جز العشب» مع المقاومة الفلسطينية، وتبنَّت فكرًا سياسيًّا قائمًا على إدارة الصراع بدلًا من حلّه، لذلك يُنْظَر إلى هذه المواجهة على أنها أجبرت العالم على إعادة النظر في ترك الفلسطينيين كملف هامشي يمكن القضاء عليه مِن قِبَل الدولة العبرية، والقفز على حقوقهم؛ فهذه المواجهة -التي أظهرت قوة الاستعداد لدى المقاومة الفلسطينية، رغم الحصار والعمق الاستخباري الكبير التي أظهرتها نتائج الحرب منذ الهجوم البري الصهيوني على مدن وقرى قطاع غزة- عرَّت الجيش الصهيوني بكافة أدرعه وأسلحته؛ فقد أطلق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو حربه الانتقامية على غزة بعناوين واضحة مرتبطة بتدمير المقاومة، واحتلال قطاع غزة، وإخضاعها لحكومة عسكرية يقودها تحالف دولي، واستعادة الأسرى الصهاينة.

لكن بعد مرور أكثر من 120 يومًا من الحرب فشل الاحتلال في جميع أهدافه، وانسحب مكرهًا من أغلب مدن القطاع، ولا يزال غارقًا لأكثر من 70 يومًا في مستنقع مخيم خانيونس، دون أن ينجح في تحقيق أيّ هدف من أهدافه.

لقد أظهر العدو الصهيوني في كل ثانية منذ بداية الحرب انتقامًا شرسًا من المدنيين بقصف واستهداف مراكز الخدمات؛ مثل المستشفيات والمتاجر والمساجد والمؤسسات الدولية، وتعمَّد قَطْع الطرق وتجريفها لمنع التواصل وإدخال المواد الإغاثية، وكذلك استهدف شبكات الاتصالات والكهرباء، وحوَّل مربعات سكنية بأكملها إلى أكوام ترابية، حتى أصبح العثور على جثامين الشهداء حالة يومية صعبة يعيشها المواطن الفلسطيني في غزة.

في مقابل ذلك، نجحت المقاومة في إدارة معارك قصيرة مع سلاح الجو والبحر والبر الصهيوني بصورة منتظمة في كافة المحاور؛ استهدفت من خلالها إشغاله وتكبيده خسائر قاتلة، واستنزفت الإدارة السياسية للحرب داخل الكنيست الصهيوني، وعكست صراعات بينية لدى الجبهة الداخلية الصهيونية.

لقد ترك هجوم طوفان الأقصى لدى الصهاينة مخزونًا عميقًا من الصدمات، طغت على الأسطورة التي صنعها الجيش الصهيوني طوال العقود الماضية، ونسفت حقائق حاول ترسيخها بكون الشعور بالأمان أمرًا طبيعيًّا نتج عن منظومة تسليح ضخمة تعمل لتوفيره، تدعمها الولايات المتحدة والقوى الغربية، ليس حبًّا في اليهودية كهوية دينية، بل لكون الدولة العبرية تمثّل بُعدًا إستراتيجيًّا في خارطة المصالح الغربية في الشرق الأوسط.

يقول المحلل آرون جلاسرمان: «إن الأحداث الأخيرة قد تعزّز احتمالات ظهور عملية سلام؛ لأن الحرب الحالية أظهرت ببساطة أن محاولة تجاهل الفلسطينيين، واعتبارهم شعبًا مهزومًا يمكن تهميشه؛ هي مغالطة رُوِّج لها مِن قِبَل الدولة العبرية، لكنَّ تفجُّر الأحداث الأخيرة تسبَّب بكارثة بالنسبة للدبلوماسية الغربية كان يصعب التنبؤ بتطوّر تبعاتها في المنطقة».

إنّ التقييمات الصهيونية وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال، بشأن العمل البري، وهي خاطئة، تشير إلى أن حوالي ربع مقاتلي المقاومة تم استهدافهم، وتقول الأرقام الصهيونية بأن هناك 30 ألف مقاتل لدى حركة حماس، بينما تشير الأرقام الفلسطينية إلى وجود أكثر من 45 ألف مقاتل، بينما تشير التقييمات الاستخبارية إلى أن حوالي 80% من الأنفاق الهجومية لا تزال سليمة، وتشير الرواية الصهيونية إلى وجود 500 كلم من الأنفاق في القطاع.

يقول دانييل ليفي، رئيس مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط -وهو معهد سياسي غير ربحي يركز على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط-: «إن الحملة الصهيونية المكثفة ضد حماس أظهرت الآن حدودها؛ حيث لا تزال حماس سليمة». وأضاف في حديثه لشبكة ABC News: «إن حماس خسرت عددًا من مقاتليها، لكنها لا تزال تقاتل بقوة».

إن الفشل الذي تعيشه الآلة العسكرية الصهيونية تَرْجَمه الخلافُ داخل الحكومة الصهيونية؛ فقد انتقد عضو مجلس الحرب الجنرال غادي آيزنكوت -الذي قُتِلَ ابنه في غزة- أداء حكومة بنيامين نتنياهو، مشيرًا إلى أن استعادة الأسرى من غزة لن تتم بالحل العسكري.

بعيدًا عن الحقائق الميدانية التي أصبحت ترسّخ حالة صمود فلسطيني؛ فإن دولة الاحتلال الصهيوني تعيش لأول مرة منذ نشأتها حالة عزلة شعبوية هائلة؛ فقد ركّزت التعبئة الشعبية حول العالم في إظهار فلسطين باعتبارها تجسيدًا حيًّا للظلم في النظام العالمي، وهذا الأمر أكَّده استعراض الملف أمام محكمة العدل الدولية التي لم تكن في نتائج أحكامها مُرضية ومُنصفة للحق الفلسطيني.

إن الأزمة الإنسانية في قطاع غزة لا يمكن استيعاب حجمها بالأرقام والمعايير الكمية؛ لكونها تتعلق بنتائج اجتماعية أكبر من مقارنتها بالخسائر الميدانية للمقاومة، فهناك عشرات الآلاف من الأُسَر التي ستُصبح بعد انتهاء حرب بدون بيت يلملم شتاتها بعد رحلة نزوح مؤلمة، وكذلك فإن قطاع غزة فَقَدَ أكثر من 250 أكاديميًّا من أساتذة الجامعات والمؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى التدمير الكلي الذي استهدف النسبة الأكبر منها، ولا شك أن ذلك سيكون له عواقب كارثية على المسيرة التعليمية، وبموازاة ذلك يمكن إسقاط ما سبق على القطاعات الصحية، وغيرها من القطاعات، لذلك نحن أمام كارثة إنسانية ستكون عواقبها أكثر ضررًا من الحرب المباشرة.

أما من الناحية السياسية والعسكرية؛ فإن صمود المقاومة بالنسبة للحالة الميدانية، يمكن قراءته في المشهد الحالي الذي أجبر الدولة العبرية على العودة لطاولة المفاوضات بعد أكثر من 120 يومًا من الحرب، واستدعى تدخُّل عدة أطراف دولية وإقليمية، والسبب في ذلك مرتبط بصمود الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه، ولذلك فإن سكان قطاع غزة قد تحمَّلوا فاتورة كبيرة لقاء معادلة سياسية وعسكرية جديدة ستترجم ثمرتها في إدارة المعركة التفاوضية التي تحاول من خلالها الدولة العبرية تهميش المقاومة كمؤثر وفاعل في إدارة قطاع غزة، وكل ذلك مرهون بالتأثير الإقليمي في هذا الملف، والدور الذي ستلعبه مصر مستقبلًا.

 

أعلى