باب المندب...أبعاد الاشتباك العسكري بين القوات الأمريكية والحوثيين

كان من المفترَض أن يحصل الحوثيون على تضامن من الدول العربية، على اعتبار أن هجماتهم في البحر الأحمر والعربي، كما يقولون، تنطلق من مبدأ ديني وأخلاقي لنُصْرة سكان غزة، لكن لم يحصل من ذلك شيء


في 31 أكتوبر 2023م أعلن الحوثيون لأول مرة عن تبنّيهم لثلاث هجمات صاروخية منفصلة على إسرائيل؛ ردًّا على الحرب الدامية ضد الفلسطينيين في غزة، لكنّها لم تُحْدِث تأثيرًا حقيقيًّا، فتداولها الإعلام العربي والدولي بشكل محدود، وهذا يُعدّ إخفاقًا في هدفهم المُعلَن.

اتَّجه الحوثيون إلى باب المندب جنوب البحر الأحمر لصدّ أو اعتراض السفن الإسرائيلية؛ فتمكنت «فرق استيلاء حوثية»، كما وصفتها الصحف الإسرائيلية، من السيطرة على سفينة «جلاجسي ليدر» في 19 نوفمبر، واقتادوها، مع أفراد طاقهما، إلى ساحل مدينة الحُديدة.

وعندما يتعلق الأمر بهذا الممر المائي يصبح التأثير مختلفًا تمامًا؛ حيث تكمن أهمية باب المندب في كونه أحد الممرات المائية الأكثر حيوية في العالم، والذي اكتسبها بعد إنشاء قناة السويس في 1868م، وبات يشكّل حزامًا بحريًّا ناقلاً للطاقة والبضائع من قارة آسيا إلى أوروبا بمعدل 12% من التجارة العالمية، وتَعْبُر من خلاله 60 سفينة يوميًّا، وبالتالي فإنّ أيّ توتر عسكري يؤثر مباشرةً على سلاسل الإمداد التجارية العالمية، وليس على إسرائيل فحسب.

واصَل الحوثيون رَصْد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، واستهدافها بالصواريخ والطيران المُسَيَّر، وحين حوَّلت مسارها عبر رأس الرجاء الصالح، أضاف الحوثيون إلى أهدافهم السفن التجارية التي تكون وجهتها نحو ميناء «إيلات الإسرائيلي»، وبهذا تضاعفت هجماتهم العسكرية حتى بلغ عدد الصواريخ الباليستية التي أطلقوها إلى 50 صاروخًا و200 طائرة مسيرة حتى منتصف يناير الماضي.

مقابل ذلك، كثَّفت الإدارة الأمريكية من رسائل الإدانة والتحذير للحوثيين، مع إبداء مخاوفها من توسُّع رقعة الحرب إلى المنطقة العربية، لكن دون جدوى؛ فالحوثيون لطالما أعلنوا عقب كل هجوم على السفن المتَّجهة إلى إسرائيل بأنهم مستمرون حتى تتوقف الحرب على غزة، وبهذا تحوَّل البحر الأحمر إلى أكثر الممرات المائية في العالم خطورةً على التجارة البحرية.

وجدت أمريكا نفسها أمام أمر واقع، فبدلًا من إحباط ذريعة الحوثيين بالضغط على إسرائيل لإنهاء حربها على غزة، ذهبوا إلى تصعيد عسكري مُماثل، وذلك بتشكيل تحالف عسكري متعدد الجنسيات، وهذا يعد سلوكًا دبلوماسيًّا أكثر خشونة لأول مرة تتخذه ضد الحوثيين، فأعلنت في 18 ديسمبر 2023م عن التحالف أسمته «حارس الازدهار»، وهو تحالف مكوّن من 20 دولة، أفصحت عن بعضها، وهي: بريطانيا، كندا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، النرويج، إسبانيا، البحرين، سيشل، اليونان، وأستراليا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، ولم يتضمَّن من الدول العربية سوى مملكة البحرين.

وخلال فترة تأسيس التحالف روَّج المسؤولون الأمريكيون على نطاق واسع أن الوضع في البحر الأحمر قضية دولية تستهدف المجتمع الدولي والرفاهية الاقتصادي وازدهار دول العالم، وهذا يستوجب ردًّا عالميًّا، وأن الهدف هو التصدّي للصواريخ الباليستية الحوثية التي تستهدف السفن.

وفعلًا انتشرت عدد من البوارج الحربية الأمريكية والبريطانية على امتداد باب المندب والبحر الأحمر برفقة السفن التجارية، وتمكّنت من إسقاط صواريخ وطيران الحوثيين التي تستهدف تلك السفن، لكن هذا الاحتشاد العسكري لم يُعِد للبحر الأحمر وباب المندب وضعهما الآمِن كما كان في السابق، فقد استمرت السفن الإسرائيلية في سلوك طريق رأس الرجاء الصالح بالغ التكلفة، وأعلنت أكبر شركات الشحن البحري العالمية: سي إم أيه سي جي إم، وميرسيك الدنماركية وقف جميع رحلاتهما عبر البحر الأحمر.

 وعندما تصبح حركة السفن التجارية في باب المندب إلى جانب البحر الأحمر شبه مشلولة؛ تكون أمريكا قد حقَّقت هدفًا لها يتمثل في توسيع دائرة المشكلة إلى نطاق دولي دون حَصْرها على إسرائيل فحسب كما أراد الحوثيون، بالإضافة إلى تخفيف الضغط الإعلامي، ومحتوى وسائل التواصل على إسرائيل؛ وذلك بخفض تداول جرائمها الدامية في غزة بتسليط الضوء على الاشتباك العسكري في الممر المائي الأكثر حيوية في العالم، وهنا بالإمكان العودة إلى مقالة في صحيفة جورزليم بوست بتاريخ 28 نوفمبر الماضي، ذكرت أن الهجوم على اليمن سيُخفّف عن إسرائيل الضغوط لاستكمال عمليتها العسكرية في غزة.

أما على المستوى الإقليمي والدولي، فيمكن النظر إلى تأثر مصر بهذه الأحداث؛ حيث يُمثِّل باب المندب والبحر الأحمر شريانًا وجوديًّا لقناة السويس، وهي بدَوْرها تُمثِّل أمنًا قوميًّا لا تقل أهميته عن نهر النيل، وبهذا أدت الاشتباكات العسكرية بين التحالف الأمريكي-البريطاني والحوثيين إلى فقدان القناة المصرية 41% من حركتها الملاحية، ولا يمكن التقليل من هذه الخسارة الفادحة على مصر بالنظر إلى أزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية المهدِّدة لها، أما دول الخليج فلكونها دولًا ريعية تعتمد على موارد المشتقات النفطية، إلى جانب الدول التي تعتمد على شراء النفط كالصين وأوروبا؛ وبالتالي فإن أيّ توتر في البحرين الأحمر والعربي يجعلها أكثر تضررًا.

السؤال المُهم: هل يدرك الحوثيون مأزق تدويل مشكلة البحر الأحمر والعربي وباب المندب؟ 

بالنظر إلى تصريحاتهم المتواصلة، فهم يحرصون على تأكيد أن الملاحة التجارية آمِنَة، ولا يسعون لتهديدها، وإنما يقتصر عملهم العسكري على استهداف السفن الداعمة لإسرائيل. لكن هذا لا ينفي الواقع بتحوُّل البحر الأحمر والعربي إلى جبهة عسكرية واسعة النطاق، وباتت حركة التجارة من الصين إلى المنطقة العربية وحتى أوروبا خطرة، وفي حالة عدم استقرار.

وعلى هذا النحو من التصعيد العسكري المتبادَل؛ فإنه يصعب تحديد نطاقه ما دام الحوثيون مستمرين في شنّ هجمات ضد السفن التجارية، في مقابل استمرار النشاط العسكري للبوارج الأمريكية والبريطانية، لذلك نجد أنه بتاريخ 10 يناير الماضي انتقل الاشتباك إلى مرحلة جديدة حين استهدف الحوثيون بارجة حربية، مما أخرج أمريكا عن طورها، فأعلنت في يوم 12 يناير عن شن هجمات جوية على خمس مدن يمنية يسيطر عليها الحوثيون.

جاء رد الحوثيين مُقلِّلاً من تأثير الهجمات الأمريكية البريطانية على استمرار عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر والعربي، لكنهم أعلنوا عن تصعيد عسكري جديد بمهاجمة سفن الدول المُشارِكَة في التحالف، بما فيها القطع البحرية الأمريكية والبريطانية في المنطقة، وهذا ما تخشاه دول الخليج والصين وأوروبا من اشتعال المنطقة العربية، واشتعال أزمة في إمدادات الطاقة العالمية، وشلّ حركة التبادل التجاري، ولذا دعت السعودية إلى ضبط النفس، وتجنُّب التصعيد، مع السماح بحرية الملاحة باعتبارها مطلبًا دوليًّا، في حين أبدت إيران تهديدًا صريحًا؛ حيث صرّح وزير خارجيتها بأن «الهجمات على اليمن تؤدي إلى توسيع نطاق الحرب».

على المستوى الدولي، ظهرت روسيا بموقف انتهازي كعادتها في باقي دول المنطقة العربية؛ فحيث تكون أمريكا تكون هي بالاتجاه المضادّ، بغضّ النظر عن القيمة الأخلاقية لأساس مواقفها، فوصفت الهجمات الأمريكية البريطانية على الحوثيين بأنها «مثال على انحراف الأنجلوسكسونيين عن قرارات مجلس الأمن الدولي»، أما الصين فقد دعت إلى منع توسُّع الصراع، وأبدت استعدادها للتواصل مع الجميع؛ من أجل الحفاظ بشكل مشترك على أمن الممر المائي الدولي.

كان من المفترَض أن يحصل الحوثيون على تضامن من الدول العربية، على اعتبار أن هجماتهم في البحر الأحمر والعربي، كما يقولون، تنطلق من مبدأ ديني وأخلاقي لنُصْرة سكان غزة، لكن لم يحصل من ذلك شيء، وهذا عائد لانكشاف دوافعهم غير تلك التي يدَّعون فيها نصرة غزة، وهي الهيمنة العسكرية على المنطقة العربية، وإحاطتها من جميع الاتجاهات بالاشتراك مع حلفائهم في إيران والعراق وسوريا ولبنان تحت مُسمَّى «وحدة الساحات»، بالإضافة إلى دوافعهم المحلية في تكريس شرعيتهم السياسية في مجتمعٍ ما يزال يرفض سلطتهم القمعية.

وعلى هذا النحو من الاشتباك العسكري في البحرين الأحمر والعربي، امتدادًا إلى مناطق شمال اليمن؛ الواضح أن أمريكا ليس لديها خطة فاعلة لردع الحوثيين في منع توسيع نطاق الاشتباك العسكري عدا عن قصف جوي وبحري لمناطق عسكرية حوثية، لكنَّ هذه المناطق هي ذات الأهداف التي ظل التحالف العربي يقصفها خلال سبعة أعوام دون أن تُضْعِف قدراتهم العسكرية، كما أن إعادة أمريكا إدراج الحوثيين منظمة إرهابية عالمية في 17 يناير الماضي ليس له تأثير أيضًا لردعهم، فقد سبق أن صنَّفتهم إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مطلع 2021م، وهذا يعود لكون الحوثيين ما يزالون جماعة مسلحة، ولم يتحولوا إلى دولة يمكن إيقاع الضرر بها عبر العقوبات.

يمكن فَهْم العشوائية الأمريكية من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن في اليوم الثاني بعد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية حين سأله الصحفيون في البيت الأبيض عن الهجمات؛ فقال: «إنها لن تُوقف الحوثيين، لكننا سنواصل شنّها عليهم»!

أما الحوثيون فمن المشكوك فيه أن العمليات العسكرية الأمريكية والبريطانية ستمنعهم من وقف هجماتهم في البحر الأحمر والعربي، وإذا كان هناك من شيء حقَّقته تلك العمليات العسكرية فهو تحقيق حلم الحوثيين في خوض حرب مباشرة مع أمريكا، وأن شعارهم المعادي لأمريكا وإسرائيل الذي رفعوه في معاركهم ضد اليمنيين منذ 20 عامًا قد أصبح واقعًا.

خلاصة القول في ثلاث نقاط:

1- إن الاشتباك العسكري في البحرين الأحمر والعربي من غير الممكن إدراك أبعاده وحدوده الجغرافية والزمانية؛ لفشل أمريكا في ترويض الحوثيين في الالتزام بقواعد اشتباك؛ كما تفعل إسرائيل مع حزب الله في جنوب لبنان، إلى جانب رغبة الحوثيين في استمرار الاشتباك مع أمريكا؛ لتكسب معادلة مفادها شرعية المواجهة مع «العدو»؛ لتكريس شرعيتها السياسية الداخلية، وبالتالي فإنه لا يمكن الوثوق في جديتها في إنهاء الاشتباك في البحر الأحمر والعربي بانتهاء الحرب على غزة، فهي جماعة ذرائعية؛ أي أنها تخلق الذريعة لتبرير أعمالها العسكرية التوسعية، وهو تفكير تعلّمته جيدًا من إيران، فبإمكانها الاستمرار في المعارك حتى وإن توقفت الحرب على غزة بذريعة إنهاء عسكرة الأمريكية للبحرين الأحمر والعربي، فالهيمنة عليهما هدف إيران تجلَّى بتصريحات مسؤوليها الرافضة لما أسمته «عسكرة أمريكا» لهذه الممرات المائية.

2- هناك جرأة حوثية في الاشتباك مع القوات الامريكية أكثر من الجماعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران في العراق ولبنان، وهذا ليس لأن لدى الحوثيين قوة عسكرية عظمى، ولكن لأنها ميليشيا مسلحة لا شيء تملكه لتخسره، وإدراكها لعدم رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في توسيع دائرة الصراع في المنطقة العربية، وحساسية الوضع في اليمن، ولتفادي إفشال المشاورات السياسية الجارية بين السعودية والحكومة اليمنية الشرعية والحوثيين لإنهاء 9 سنوات من الحرب.

3- رغم أن الحوثيين يقولون: إن استهدافهم للسفن التجارية الداعمة لإسرائيل إجراء هدفه الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة؛ إلاّ أن ما نتج عنه من توتر عسكري في البحر الأحمر والعربي أدى إلى تخفيف الضغط الإعلامي نسبيًّا عن إسرائيل، وأصبح لأمريكا قضية تترافع بها أمام المجتمع الدولي تتعلق بالمخاطر على التجارة العالمية، ولم تعد جرائم الحرب الإسرائيلية على غزة هي القضية الوحيدة والمُهمَّة.

 

أعلى