• - الموافق2024/12/18م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
النبي صلى الله عليه وسلم  زوجًا

لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة جديدة مشرقة في المجتمع البشري لحال المرأة الحائض مع زوجها؛ تجمع بين التقوى المانعة من ارتكاب الحرام وبين إكرام المرأة؛ حتى في حال حيضتها.

 

هل الأنبياء يتزوجون؟

أليسوا مشغولين بتكاليف النبوة وأعباء الرسالة؟

أليسوا محجوزين عن الشهوة والرغبات النفسية؟

القرآن يجيب عن هذا بأبلغ عبارة؛ إذ يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلَّا بِإذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]. فهذا هو الأمر الطبيعي أن يكون الرسول جزءًا من المجتمع، وأنْ يكون بشرًا مثلهم في بَشريته، غير أنه كمّله الله بالوحي والنبوة، وكلّفه بالبلاغ والنذارة، فهو يمارس بشريته بنور من الله وبهداية الوحي المُنزَّل عليه، قال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إلَّا بِإذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11].

ثم إننا أُمرنا باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم  في كل شؤون الحياة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وفي هذه الزاوية نستعرض طرفًا من أخبار حياة النبي صلى الله عليه وسلم  الزوجية؛ لنتعلم منها.

النبي صلى الله عليه وسلم عشيرًا

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم  في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: «تقدّموا». فتقدّموا، ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك». فسابقته فسبقْتُه، فسكت عني، حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدّموا». فتقدموا، ثم قال: «تعالي حتى أسابقك». فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك»[1].

فيُستفاد من هذا الأثر ما يلي:

من المعاشرة بالمعروف إيناس الزوجة، ولا يؤثر على ذلك اختلاف الأعمار والأحوال. وقد يمنع منه الأعمال المجهدة والشاقة فتشغل الرجل عن زوجه، فينبغي عليه أنْ يتلمس الفرص المناسبة لإيناسها وإشعارها بأنه يحن إليها وعليها.

وبعض الرجال لا يستغني عن الزوجة في سفره وإقامته، لذلك نص الفقهاء على وجوب سفر المرأة مع زوجها؛ إذا أراد ذلك، قال مالك: وللزوج أن يظعن بزوجته من بلد إلى بلد وإن كرهت[2]، فالأصل معيَّتها له في سفره وإقامته، وهذا والذي قبله مبني على أنَّ شهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة، فهو يحتاج إلى الإعفاف دائمًا، ولأنَّ في الزوجة سكنًا للرجل من وحشة الحياة المضنية.

ويُستفاد من الأثر أيضًا: أن تغيُّر جسم المرأة مع تقدم السن أمر طبيعي لا عيب فيه؛ ما لم يتجاوز هذا التغير حدوده المقبولة في الصحة والجمال.

ويُستفاد من الأثر أيضًا: أن المرأة قد تنسى المواقف الجميلة والإيجابية في حياتها الزوجية، حتى تُذكَّر بها، ولذلك جاء التحذير النبوي من تطوّر هذه الصفة عند النساء لتتحول إلى جحود ونكران، كما في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار». فقلن: وبِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير»[3].


ومن الأحاديث الدالة على حُسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم  لأزواجه ما رواه منصور بن صفية، عن أمه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقرأ القرآن ورأسه في حجري، وأنا حائض). وفي رواية: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن)[4].

فيُستفاد من هذا الأثر حرص النبي صلى الله عليه وسلم  على القرب الجسدي من زوجه، حتى في الحالات التي يُتصور فيها التباعد، كالحيض الذي هو مظنة الاستقذار، وكالانشغال بقراءة القرآن الذي هو مظنة الخشوع والتدبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يلامس جسد الحائض ويقرأ القرآن في ذات الوقت، بل ويضع رأسه في حجرها إمعانًا في القرب الجسدي، ولا يشوش ذلك على قراءته للقرآن؛ لا من حيث الطهارة، ولا من حيث الخشوع. وفي هذا من معاني المودة والحب الشيء الكثير وما لا يمكن وصفه.

ويستفاد من هذا الأثر أن على الزوج دفع ما يوهم زوجته بأن لها حالات قد لا تكون مرغوبة فيها من زوجها، بإحداث عمل تشعر معه بأنها مرغوبة وأن زوجها يحب القرب منها في تلك الحالات. وهذا منه صلى الله عليه وسلم  لم يكن مقصورًا على عائشة -رضي الله عنها-، بل هكذا كان صلى الله عليه وسلم  مع أزواجه، كما في حديث سفيان، عن منبوذ عن أمه قالت: كنت عند ميمونة، فأتاها ابن عباس، فقالت: يا بني، ما لك شعثًا رأسك؟ قال: أم عمار مرجلتي حائض. قالت: أيْ بني، وأين الحيضة من اليد؟  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض[5].

وقد نشر اليهود ثقافة استبعاد المرأة الحائض وعزلها اجتماعيًّا لعِلّة النجاسة، كما جاء ذلك عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، أيْ لم يخالطوهن ولم يساكنوهن، فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم  فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْـمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»؛ فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه[6].

فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يهدم هذه الثقافة المنحرفة والعادة الظالمة بقوله تارة، وبأفعاله تارة أخرى، وقد تعددت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم  في بطلان هذه الفكرة، وليس المجال بسط ذلك هنا، وقد روى عروة عن ندبة قالت: (أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابة، فرأيت فراشها معتزلاً فراشه، فظننت أن ذلك لِهِجْرانٍ، فسألتها، فقالت: لا، ولكني حائض، فإذا حضت لم يقرب فراشي. فأتيت ميمونة فذكرت ذلك لها، فردتني إلى ابن عباس، فقالت: أَرغبةً عن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  ينام مع المرأة من نسائه الحائض، وما بينهما إلا ثوب ما يجاوز الركبتين)[7].

لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم  صورة جديدة مشرقة في المجتمع البشري لحال المرأة الحائض مع زوجها؛ تجمع بين التقوى المانعة من ارتكاب الحرام وبين إكرام المرأة؛ حتى في حال حيضتها.

وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم  نسيًّا للعشرة الزوجية الطيبة؟ كلا والله، لقد بلغ من الوفاء مبلغًا لا يُذكر مثله في التاريخ، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما غرت على امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم  كما غرت على خديجة؛ لكثرة ذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم  إياها وثنائه عليها، وقد أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب)[8]. فنِعْم العشير هو صلى الله عليه وسلم ، وله قصص في الوفاء مع خديجة -رضي الله عنها-، فصلى الله عليه وسلم على أكمل الناس أخلاقًا وخير الناس لأهله.

النبي صلى الله عليه وسلم  قوَّامًا

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  خير الأزواج قوامةً، وأداءً للواجبات التي عليه لأهله، وحمايةً لهم، فعن عمر -رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قُوت سَنتهم[9]. فبالرغم من كونه -عليه الصلاة والسلام- إمام المتوكلين على الله تعالى؛ إلا أنَّ ذلك لم يسوّغ له القعود عن تحصيل ما يُنفقه على عياله؛ إذ إنَّ النفقة على الزوجة تُعدّ من أهم عناصر القوامة، التي قال الله تعالى فيها: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. قال القرطبي: (فَهِم العلماء من قوله تعالى: {{وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}؛ أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قوَّامًا عليها، وإذا لم يكن قوَّامًا عليها كان لها فسخ العقد لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح)[10]. وقال الموفق ابن قدامة: (إذا منع امرأته النفقة، لعُسرته وعدم ما ينفقه؛ فالمرأة مخيّرة بين الصبر عليه وبين فراقه؛ رُوي ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة)[11].

وقد تخطئ بعض النساء في فهم النفقة فتظن أنَّ المقصود بها المال الذي يعطيه الرجل زوجه نقدًا، أو تظنها جميع مصروفات البيت المعتادة بحاجياتها وكمالياتها، وليس كذلك، فالنفقة هي الطعام والشراب واللباس والسكن، بالقدر الذي تحتاج إليه، وهذا ما عناه الموفق ابن قدامة بقوله: (وجملة الأمر أن المرأة إذا سلَّمت نفسها إلى الزوج، على الوجه الواجب عليها، فلها عليه جميع حاجتها من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن)[12]. فهذا هو القدر الواجب، وما سوى الحاجة فهو فضل، وما يتوافق عليه الزوجان برّ وخير من دون إسراف أو تجاوز.

وفي جانب آخر من قوامته صلى الله عليه وسلم  نلمس معنى الإصلاح والتعليم، كما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: «سبحان الله، ماذا أنزل من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، مَن يوقظ صواحب الحُجَر؟ يريد به أزواجه حتى يصلين، رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة»[13]. وفيه تذكير الرجل زوجه باليوم الآخر، وما أعد الله تعالى فيه من الأهوال والعقوبات.

ومما يستفاد من الحديث: تحمُّل الرجل مسؤولية وعظ أهله، وحثهم على التقرب إلى الله تعالى بأنواع القربات، لا سيما الصلوات فرضًا ونفلاً، وتعليمهم أن نوافل العبادات سبب لاتقاء الفتن والشرور؛ بإذن الله.

ومما يستفاد من الحديث ما ينبغي على الرجل لزوجه من تعليمها التصور الصحيح عن الدنيا، واقتران ملذاتها بالفتن، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم  حيث قرن بين فتح أبواب الخزائن وفتح أبواب الفتن، لئلا تبقى شهية الزوجة مفتوحة للاستمتاع بملذات الدنيا وزينتها.

وفي حديث القاسم بن محمد أنَّ عائشة -رضي الله عنها- أخبرته: أنها اشترت نُمْرُقة [تعني: وسادة] فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم  قام على الباب فلم يدخله، فعرفتُ في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بال هذه النمرقة؟» قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسَّدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يُعذّبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة»[14]. فإنك تجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم  يسارع إلى تغيير المنكر وإصلاح الخطأ الصادر عن زوجه، ولم يُثنه عن ذلك ما بذلته من مال وجهد.

ومما يستفاد من هذا الحديث: تعليم الرجل لزوجه وجه الخطأ وحُكم الله تعالى فيه، لئلا تفهم الزوجة خلاف ذلك أو تسيء الظن، ولتتربى على تقديم حق الله تعالى أولاً على كل الرغبات والمحبوبات.

ومما يستفاد من هذا الحديث: الإشارة إلى حثّ الزوجة على نفي كل ما يؤدي إلى ابتعاد الملائكة عن البيت كالتصاوير المحرمة، حتى تكون حارسة في بيتها تعتني بكل ما يقرب الملائكة ويبعد الشياطين.

ومن الأدلة على قوامته الشريفة صلى الله عليه وسلم : ما أخبرت به أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان عندها؛ وفي البيت مخنثٌ، فقال المخنث لأخي أمِّ سلمة عبد الله بن أبي أمية: “إن فتح الله لكم الطائف غدًا، أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخلن هذا عليكم»[15]. وفي هذا الحديث تعليم الرجال ما ينبغي أن يكونوا عليه من الغيرة على أزواجهم، وهذا من أصول القوامة التي كلّفتهم الشريعة بها، فإن حماية الزوجة أخلاقيًّا واجب زوجي، ودليل رجولة.

هذا طرف من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم  الدالة على حسن قوامته على أهل بيته، فصلى الله عليه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم مغاضبًا

كثيرًا ما تُذكر الأحوال التي تسرّ النبي صلى الله عليه وسلم ، فلربما ظن القارئ بأن محمدًا ملاك سماويّ وليس بشرًا، أو ظن أن حياته صلى الله عليه وسلم  الزوجية وردية حالمة! والحق أنه صلى الله عليه وسلم  بشر من البشر، عنده مشاعر الإنسان ورغبات الإنسان وعاطفة الإنسان وانفعالات الإنسان، إلا أنه كمَّله الله تعالى بالأدب والعلم والتقوى، فبلغ فيها الغاية التي يمكن للبشر أنْ يبلغوها، فأصبحت إنسانيته صلى الله عليه وسلم  محل أسوة واقتداء بكل ما فيها.

وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الأثر الطويل الذي اختصرت منه بعض جُمَله: «لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر -رضي الله عنه- عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  اللتين قال الله لهما: {إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِـحُ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]؛ فحججت معه، فعدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز، حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، مَن المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  اللتان قال الله -عز وجل- لهما: {إن تتوبا إلى الله}؟ فقال: عائشة وحفصة، إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاءً فضرب بابي ضربًا شديدًا، وقال: أنائم هو؟ ففزعتُ فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم  نساءه. قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعتُ عليَّ ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مَشْرُبة له [غرفة مرتفعة مستقلة عن البيت] فاعتزل فيها، فدخلتُ على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك؟ أولم أكن حذرتك، أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: لا أدري، هو ذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر. فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج فقال: ذكرتك له فَصَمَت. فانصرفتُ حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما ولَّيتُ منصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أَذِن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثَّر الرمال بجنبه، متكئ على وسادة من أَدَمٍ حشوها لِيف، فسلمت عليه، ثم قلت وأنا قائم: طلقتَ نساءك؟ فرفع بصره إليَّ، فقال: «لا». ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت: لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أنْ كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم  -يريد عائشة- فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم. فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم  من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: «ما أنا بداخل عليهن شهرًا»، من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله -يعني في أول سورة التحريم-، فلما مضت تسع وعشرون، دخل على عائشة فبدأ بها، قالت عائشة: فأُنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة، فقال: «إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك». قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال: «إنَّ الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 28 وَإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا 29} [الأحزاب: 28، 29]. قلت: أفي هذا أستأمرُ أبوي! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خيَّر نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة[16].

ففي هذه القصة تأديب النبي صلى الله عليه وسلم  لأزواجه، ومغاضبته لهن الزمن الطويل، وهجرهن، ولذلك بوَّب البخاري على الحديث فقال: «باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم  نساءه في غير بيوتهن»؛ أي: هِجرانهن وهجران بيوتهن وعدم الدخول عليهن، إشارة منه إلى سقوط حقهن المتعلق بقصر الهجران في البيت فقط في قوله: «ويُذكر عن معاوية بن حيدة رفعه «غير أنْ لا َتهجر إلا في البيت»، والأول أصح».

فيُستفاد من الحديث أنَّ للرجل أنْ يغضب على زوجه إذا بدر منها ما يُغضبه، وأنْ يهجرها في البيت في فراشها، وإذا رأى أنْ يهجرها خارج بيتها فلا بأس إذا لم يتعدَّ حدود الله.

ويستفاد من الحديث أنَّ تعريض المرأة زوجها لما يكرهه أو يُحرجه موجب لغضبه، وتستحق التأديب عليه.

ويستفاد من الحديث أن الصالحين وأهل الفضل والعلم يتعرضون لما يتعرض له غيرهم من المُنغّصات الزوجية، وأنهم ينفعلون بها كغيرهم، وأنها تؤثر عليهم سلبًا في حياتهم الاجتماعية، غير أنهم يتقون الله فلا يظلمون، ولا يتجاوزون حدود التأديب التي خوّلهم الله تعالى إياه على زوجاتهم.

ويستفاد من الحديث أن مغاضبة الأزواج، وما يترتب عليها من الهجر ونحوه لا تعيب الزوج، ولا تنقص من قَدْره، إذا كانت في وجهها الصحيح.

النبي صلى الله عليه وسلم مُعدِّدًا

تحت باب «كثرة النساء» ذكر البخاري أثارًا، منها أثر ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان عند النبي صلى الله عليه وسلم  تسعٌ، كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة). يعني أم المؤمنين سودة التي وهبت يومها لعائشة، وأثر أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم  (كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة)، وأثر سعيد بن جبير قال: (قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوج؛ فإنَّ خير هذه الأمة أكثرها نساء)[17].

ونكاح النبي صلى الله عليه وسلم  العدد من النساء ليس كله لمصالح الشريعة والأمة كما يظن البعض، فإنه أيضًا بشر من البشر له نوازعه وفطرته، بل كان الغاية في القوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «حُبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة»[18]. فتأمل جعله النساء من أعالي محبوباته من الدنيا، ويصرح بذلك، وهذا من كمال رجوليته، ولا عيب في ذلك، وبالنسبة له صلى الله عليه وسلم  فهي دالة على بشريته، ودالة على نفي ملائكيته وما هو أعلى من ذلك.

ولما رأى صلى الله عليه وسلم  المرأة وتحركت في نفسه الشريفة دواعي الشهوة ذهب إلى بعض نسائه ليقضي شهوته، فعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس منيئة لها -أي تدلك جلدًا عندها، تدبغه-، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إنَّ المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله، فإنَّ ذلك يرد ما في نفسه»[19]. والمراد بقوله «صورة شيطان» أن الشيطان يُزيّنها في عين الرجل، فتتحرك شهوته، لا أنها هي تكون في صورة إبليس.

وقد أشار القرآن إلى ميل النبي صلى الله عليه وسلم  إلى حُسْن الصورة فقال: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] . وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنَّ امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالت: يا رسول الله، جئتُ لأهبَ لك نفسي. فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم  فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقضِ فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: أيْ رسول الله، إنْ لم تكن لك بها حاجة فزوّجنيها[20]. وبوّب عليه البخاري بقوله: «باب النظر إلى المرأة قبل التزويج».

والمقصود أنَّ محاولة إخراج صورة للنبي صلى الله عليه وسلم  بعيدة عن بشريته مغالطة، فينبغي أن ندرك ذلك.

وفي سياق تعدد الزوجات، فقد روى أنس -رضي الله عنه- قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم  تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن، لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمدَّ يده إليها، فقالت عائشة: هذه زينب! فكف النبي صلى الله عليه وسلم  يده، فتقاولتا حتى استخَبَتا -أي ارتفعت أصواتهما خصامًا-، وأقيمت الصلاة، فمرَّ أبو بكر على ذلك فسمع أصواتهما، فقال: اخرج يا رسول الله إلى الصلاة، واحثُ في أفواههن التراب. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي صلى الله عليه وسلم  صلاته، فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم  صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولاً شديدًا، وقال: أتصنعين هذا[21].

ففي هذا الحديث عدل النبي صلى الله عليه وسلم  في القسم بين نسائه، وإعطائه كل واحدة تكون عندها النوبة حقها، حتى وإنْ تفاضلوا في محبته لهن. وقد شهدت عائشة بعدله، فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك؛ يعني القلب)[22]. بل إن أم سليم الأنصارية شهدت على أكثر من ذلك؛ يروي أنس -رضي الله عنه- أن أم سليم بعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  بقناع عليه رُطَب، فجعل يقبض قبضته، فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ويقبض القبضة فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ثم جلس فأكل بقيته أَكْلَ رجل يُعلَم أنه يشتهيه[23]. وهذا كله دليل على فضل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  في أخلاقه وصدقه وعطفه.

ومما يستفاد من هذا الحديث: حرصه صلى الله عليه وسلم  على رؤية نسائه كلهن كل يوم، يتفقدهن ويطيب نفوسهن ويؤنسهن ويتحدث إليهن ويقترب منهن. وهذا ليس على الوجوب، بل هو نابع من مراعاته لحاجة الزوجة إلى القرب والإيناس، فيكون متوازنًا بين تلبية حاجاتهن وتلبية حاجاته هو، فإنه تطيب نفسه برؤيتهن والحديث معهن والاستمتاع بهن.

ومما يستفاد من الحديث أنَّ للزوجة التي تكون عندها النوبة الاستئثار بالاستمتاع بزوجها في بيتها، وقد كفَّ النبي صلى الله عليه وسلم  يده حين رأى اعتراض عائشة -رضي الله عنها-.

وفي جانب آخر من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم  التي أبان عنها تزوجه بالنساء: ما رواه أنس -رضي الله عنه- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم  عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفة فيها طعام فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم  في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم  فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم». ثم حبس الخادم حتى أُتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسرت)[24].

ففي هذا الحديث مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم  لغيرة أزواجه، وقدرته على ضبط انفعالاته، فلم يصدر منه سلوك ينتقص من أخلاقه بسبب هذا التصرف، لا سيما وفي بيته ضيوف، وهذا دليل على أنَّ الرجل مطلوب منه ضبط انفعالاته قدر الاحتمال، وألا يتماهى مع سلوكيات الغيرة التي تحدث بين الزوجات، حتى وإنْ تعدَّى أثرها.

ومن تمام رجوليته صلى الله عليه وسلم  أنْ عفا عن زوجه في صنيعها المتعلق به، أما ما يتعلق بالزوجة الأخرى فإنه لم يُعفِ التي كسرت من ضمان ما أتلفته، فإنَّ الحب والمودة والرحمة لا تعني إسقاط الحقوق عن النفس للآخرين. وهذا تأديب منه صلى الله عليه وسلم  لأزواجه وتربية لهن لأنْ يلتزمن حدود الغيرة، وألا يتجاوزنها إلى ما لا يمكن المسامحة فيه.

وبعد..

فهذه صور مختلفة للنبي صلى الله عليه وسلم  زوجًا، وهي قليلة جدًّا؛ حرصتُ أن يطّلع عليها القارئ، ليرى الزوج النموذج، الزوج الأسوة، فيقتدي به، ثم يولي وجهه شطر مرويات السنة النبوية ليتعلم منها الرقي والذوق والشمول والتكامل في الحياة الزوجية، وليرى الجمال في بشرية النبي. فصلى الله وسلم وبارك على أكمل الرجال رجولةً وأعظمهم حلمًا وكرمًا ونقاءً.


 


[1] أخرجه أحمد 26277 وأبو داود 2578.

[2] تهذيب المدونة 2/404، وانظر: الجامع لأحكام القرآن 13/281.

[3] أخرجه البخاري ح1462، 7549 ومسلم ح79.

[4] أخرجه البخاري ح297.

[5] أخرجه أحمد ح26810.

[6] أخرجه مسلم ح302.

[7] أخرجه أحمد ح26819.

[8] اخرجه البخاري ح5221.

[9] أخرجه البخاري ح5357.

[10] الجامع لأحكام القرآن 5/111.

[11] المغني 11/ 361.

[12] المغني 11/348.

[13] أخرجه البخاري ح6218.

[14] أخرجه البخاري ح2105 ومسلم ح2107.

[15] أخرجه البخاري ح5227.

[16] أخرجه البخاري ح2468، ومسلم ح1479.

[17] الآثار رقم 5067، 5068، 5069.

[18] أخرجه أحمد ح12294 والنسائي ح3939.

[19] أخرجه مسلم ح1403.

[20] أخرجه البخاري ح5126.

[21] أخرجه مسلم ح1462.

[22] أخرجه أبو داود ح2134، والنسائي ح3943، والترمذي ح1140، وابن ماجه ح1971.

[23] أخرجه أحمد ح12267.

[24] أخرجه البخاري ح5225.

أعلى