«حريَّــة الإبـداع» كلمـة حــقّ يُراد بها باطل.. الشَّاعـرة الإسلامية نوال مهني لـ«البيان»:

أصدرت عددًا كبيرًا من المُؤلَّفات والروائع الأدبية، مثل: دواوين (نبع الوجدان، أغاريد الربيع، ذات مرة، فيض الأشجان)، ولها بعض المسرحيات، مثل: (الفارس والأميرة، الجميلة والعرّاف)،


 

هذا اللقاء مع شاعرة مصر، أوْ شاعرة الوادي كما يُلقّبونها، وهي كاتبة ومُعِدّة برامج إذاعية وتلفزيونية، وعضو اتحاد كُتاب مصر، وعضو رابطة الأدب الحديث وجماعة أبوللو الجديدة، ورئيسة لجنة الأديبات برابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة.

أصدرت عددًا كبيرًا من المُؤلَّفات والروائع الأدبية، مثل: دواوين (نبع الوجدان، أغاريد الربيع، ذات مرة، فيض الأشجان)، ولها بعض المسرحيات، مثل: (الفارس والأميرة، الجميلة والعرّاف)، وقدمت للأطفال (سلسلة رحلات ابن بطوطة، وسلسلة أصل الحكاية، وديوان أغاني الطفولة، وغيرها من الأعمال الإبداعية الأخرى...

إنها الكاتبة والأديبة الشاعرة (نوال مهني)، التي التقيناها؛ لاستلهام رأيها في بعض القضايا الأدبية المعاصرة، مثل: أهمية الأدب والفن في عصر التكنولوجيا والمخترعات الحديثة، ومكانة المرأة في عالم الإبداع، وسبب تأخر المرأة عن الرجل في هذا الميدان، ووجهة نظرها في دعوى تفوُّق الرواية على الشعر، وموقفها من الشعر الحر أوْ ما يسمَّى بقصيدة النثر، ورأيها في فوضى المؤتمرات والمهرجانات الأدبية والثقافية، إلى غير ذلك من التساؤلات.. وإلى التفاصيل:   

البيان: قلت لها في البداية: باعتبارك شاعرةً مبدعةً... ما هو مفهوم الشِّعر عندك؟ وماذا يُمثّل الشعر لك في رحلتكِ مع الحياة؟

قالت: في الحقيقة، لدينا عشرات التعريفات التي أوردها القدماء والمحدثون عن الشعر، وإنْ كنتُ أحسبها جميعًا غير جامعة مانعة –كما يقول المناطقة–، ولستُ أزعم أنني سأقدّم تعريفًا للشعر بحيث أقول هذا هو التعريف الجامع. فالشعر هو تعبير عن مشاعر البشر في صورة فنية مبدعة، يحيطها الخيال بجناحيه، ويرفرف عليها الحلم، ويزينها الجمال، وتضمها قوالب فنية خاصة استحسنها الناس وتعارفوا عليها. ومِن هنا فإنَّ الشعر أوْ القدرة على الإبداع الفني، والتعبير الراقي؛ اختصَّ اللهُ -تعالى- به فريقًا أوْ بعضًا من عباده دون غيرهم.       ونحن الشعراء، لا نظن أنَّ الإنسان منَّا يكون إنسانًا سعيدًا بدون المشاعر، فلولاها ما استطعنا أن نبدع فنًّا أصيلًا؛ لأنَّ جميع الفنون تنتمي إلى عالم الوجدان؛ وذلك لأنَّ المبدع ينتقل إلى عوالم بعيدة، ويرنو إلى آفاق جديدة فوق عالمه الواقعي.. أيْ باستطاعة المبدع أن يصيغ عالمًا خاصًّا به.    

البيان: هل نحن فعلًا- في حاجة إلى الآداب والفنون؟ وماذا يمكن أن يحدث لو أنَّ هذا الجانب غير موجود في حياتنا؟

لا شك أنَّ للشعر وسائر الفنون الراقية دورًا مهمًّا في سعادة البشر، فهو يمنحنا الحلم الجميل والأمل الباسم، وحتى إذا لم يتحقق هذا الحلم أو ذلك الأمل في الواقع؛ فيكفينا أننا سعدنا بهما زمنًا وعُمرًا جميلًا.

ولا أظن أن أحدًا من الناس يُنكر ذلك الدور الكبير الذي يلعبه الفن في حياتنا؛ فالفن هو الذي يُوقِظ فينا الأحاسيس الجيَّاشة، التي لولاها لأصبحت الحياة جافَّة عقيمة مُجدبة، فالإنسان بعقله يستطيع أن يفكر ويقرر ويبني الحضارات ويسنّ القوانين، لكنَّ كل هذا لا يُشعره بالسعادة في الحياة، فهذا الشعور هو وظيفة الوجدان. وإذا كان ديكارت يقول: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، فأنا كأديبة وشاعرة يمكنني أن أقول: «أنا أشعر.. إذن أنا أعيش»! لأنه بدون هذه المشاعر والأحاسيس الوجدانية لا يعيش الفرد كإنسان، وإنْ كان بمقدوره أن يحيا ككائن حي فقط.  

 

وأنا كشاعرة، أزعم أنَّ الشعر يُعطيني فرصة لتفريغ الانفعالات، التي لو كبَتَها الإنسان لكانت كفيلة بأن تُدمِّره، كما أنَّ الشعر له أثر بالغ في التأسّي به على الهموم والمِحَن والأزمات، كذلك من الشِّعر نستمد الحِكَم، ونستخلص الدروس والعِبَر.

البيان: بصفتك شاعرةً، كيف تنظرين إلى مكانة المرأة أو إلى مسيرة بنات جنسك في عالَم الإبداع، وفي الشِّعر على وجه الخصوص؟  

أعتقد أنَّ هناك علاقةً وطيدةً بين المرأة والإبداع؛ فالمرأة عنصر مُهِمّ في العملية الإبداعية؛ لأنها تحتل محاور ثلاثة رئيسة، فهي إمَّا (مُلهِمَة) لعقل الفنان وقلبه، ممَّا جعله يفيض في تصويرها شعرًا أو نثرًا أو رسمًا. أوْ أنها (مُتذوّقة)، والتذوق هو جزء من الإبداع ، فلوْ لم يكن المُتلقِّي يملك حسًّا أدبيًّا مُرهفًا وقدرًا من الوعي الفني والثقافي؛ لَمَا استطاع أن يحسّ أو يفهم العمل الإبداعي. أوْ أنها (مبدعة)، وقد برزت المرأة كمبدعة في جميع المجالات، فهي الشاعرة والكاتبة والقاصَّة والرَّسّامة.. وقد تألقت أسماء كثيرة لنساءٍ شهِد لهنَّ المجتمع بالبراعة، ففي مجال الشعر رأينا المرأة العربية في عصورها المختلفة قطعت شوطًا كبيرًا في هذا المجال، مثل الخنساء التي بلغت منزلة الريادة الشعرية في عصرها... ثمَّ تتابعت الشاعرات بعد ذلك حتى أصبحن علامةً مميزة في أدبنا العربي، وقد أصبح للمرأة في عصرنا هذا حضور قوي وفعّال في سائر المنتديات الأدبية، فضلًا عن مشاركتهن على صفحات الجرائد والمجلات.    

البيان: مع تقديرنا لرأيك هذا، لكنَّ المُلاحَظ أن المرأة لم تكن مُبرّزة في هذا المجال.. فقد تأخرت المرأةُ كثيرًا عن الرجل في ميدان الشعر؟

نعم، أنا أتفق على أن عدد المبدعات أقلّ بكثير من عدد المبدعين في هذا المجال بالذات، وليس هذا مرجعه إلى قصور في طبيعتها، وإنما يرجع إلى عوامل اجتماعية فُرِضت عليها لا تَغيب عن عاقل، وهنا يحضرني رأي الأستاذ عباس العقاد حين قال: «الاستعداد للشّعر نادر، وهو بين النساء أندر»!

فالمرأة عندنا مُحاطَة بقيود صارمة، بعضها موروث، وبعضها بحُكْم ظروفها الاجتماعية، وأغلب هذه القيود من صُنع الرجل، فالرقابة على المرأة تتعدى حدود الرقابة على تصرُّفاتها إلى الرقابة على فِكْرها وخيالها، أيْ منعها حتى من التعبير عن أفكارها ومشاعرها، لدرجة محاولة تفسير كلّ ما تكتبه لغير صالحها، بل والبحث بين السطور عن أدلة اتهام ضدها!

والمرأة لا تملك من أمر نفسها ما يملك الرجل، فهي مُثقلة بأعباء بيتها وأبنائها، وقلَّما تستطع الفكاك من هذه المسؤولية لمتابعة شؤون إبداعها، كما أنها لا تملك حرية التحرك والمشاركة في المنتديات والمؤتمرات الأدبية والثقافية، الذي من شأنه أن يُحفِّزها على الاستمرار والتواصل مع غيرها من المبدعين ومع الحياة الثقافية عامة.  

ومع كل هذا؛ فإنَّ ما حققته المرأة من مكاسب أو ما قطعته مؤخرًا في مجال الإبداع يُعدّ مؤشرًا حسنًا، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار عنصر الزمن، فالمرأة حديثة عهد نسبيًّا بالتعليم والعمل والخروج لشؤون الحياة والطموح لتحقيق ذاتها وإظهار مواهبها.

وإنني أدعو المرأة التي تأنس في نفسها موهبة إبداعية أن تُنمِّيها وتدافع عنها وتتعهدها بالرعاية حتى تورق وتزدهر وتثمر، وحينئذ سوف يشهد لها التاريخ بما هي أهل له. 

البيان: أشيع في السنوات الأخيرة مقولة: «الرواية ديوان العرب» فما صحة هذا الرأي؟ وهل فعلًا تخلّى الشِّعر عن مكانته السامقة التي تربَّع عليها طيلة القرون الماضية؟

هذه المقولة صدرت عن واحد من نُقّاد الحداثة، وهي مقولة تنطوي على مغالطة كبيرة، فاللقب الذي ارتبط بالشعر ارتباطًا تاريخيًّا وثيقًا، لا يمكن سَلْبه بهذه البساطة.. وليس هذا معناه أننا ضد الرواية أو غيرها من الفنون، بل ينبغي أن تتكامل جميع الفنون كفروع لشجرة الإبداع الإنساني من أجل الارتقاء بالأذواق وتهذيب المشاعر وتغذية الوجدان وترسيخ القِيَم وجذب الإنسان إلى منابع الحياة حتى لا تجفّ المشاعر بداخله. 

وإذا كان الشعر قد تراجع بعض الشيء في العقود الأخيرة، بسبب تدهور مستوى اللغة العربية، وظهور حركات تخريبية في الشعر العربي باسم الحداثة والتطوير والتجديد.. هذا في الوقت الذي راجت فيه القصة والرواية من خلال التمثيليات والأفلام في السينما والتلفزيون بما لهما من جاذبية خاصة وسعة انتشار؛ إلاَّ أن هذا كله لم ولن يستطع أن ينال من فن العربية الأول «الشِّعر» الذي قال فيه أبو فراس الحمداني: «الشعر ديوان العرب أبدًا وعنوان الأدب»!

فالشعر هو عنوان الأدب العربي كله، وهو فن العربية الخالد، وهو القول البليغ الساحر الذي يسبي الألباب ويستميل القلوب، كما أنه هو الفن الذي يمتلك من المزايا التي لا تمتلكها الفنون الأخرى كلها، فمثلًا لا نجد أحدًا يستشهد بسطر من الرواية في المواقف الحياتية المختلفة كما هو الحال مع البيت الشعري، كذلك لا تمتلك الرواية الموسيقى الموجودة في الشعر، وبذلك لا يمكن تلحين الرواية وغناؤها كما نفعل مع القصيدة، ولا تمتلك الرواية عنصر التكثيف الشديد في المعاني مثل البيت الشعري الذي قد يتسع أحيانًا لعدة قضايا... ففي بيتٍ واحد استطاع أمير الشعراء –أحمد شوقي- الشاعر أن يجمع مبادئ الإسلام الأساسية، إذْ يقول:

الدينُ يُسرٌ والخلافة بيعةٌ            والأمر شورى، والحقوق قضاءُ

فالشعر وعاء عميق متنوع يحوي القصيدة والموشّحة والأنشودة والملحمة والقصيدة الدرامية التي تحوي بداخلها القصة، بل إنَّ بيت الشعر الواحد يحوي من الحِكَم والعِبَر والفكاهة والمثل... فهل بعد هذا كله يجرؤ أحد أن يتطاول على فنّ العربية الأول؟!

البيان: برأيك، لماذا فشل ما أُطُلِقَ عليه بـ«قصيدة النثر» رغم ما أُتيح لأصحابها من قوًى مادية وفسحة كبيرة من الزمن؟

دائمًا البقاء للأصلح، والناموس الإلهي ينص على ذلك: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [سورة الرعد: ١٧]؛ فهؤلاء –دعاة الشعر الحر- أوْ ما أسموه بقصيدة النثر، راحوا يهدمون كل القواعد والأعراف الأدبية التي رسخت في وجدان الأمة عبر ستة عشر قرنًا من الزمان. فالشعر شِعر، والنثر نثر، ولم يقل أحد بخلاف ذلك سوى دعاة التغريب وعديمي الموهبة، ممَّن زعموا أوْ توهموا بأنهم شعراء، وهم لا يفهمون ما يكتبون. ولعلَّ من الآثار السلبية التي ترتبت على هذه الدعوى الخادعة هو انصراف الناس عن الشعر، وتفشّي الرموز المبهمة واللوغاريتمات والألغاز في الشعر، فضلًا عن سريان موجة الانحلال والإباحية، والسخرية من المعتقدات والمقدسات الدينية في أشعار الحداثيين بصورة مقززة وكريهة جدًّا.   

البيان: مِن وجهة نظرك، ماذا تُمثّل «حرية الإبداع» للكاتب والأديب؟

حرية الإبداع ضرورة للمبدع حتى لا يُقيّد خياله أو تُكبَّل أفكاره، ولكن ما مدى استخدام هذه الحرية؟ وهل هي مُطلَقة أم لها ضوابط؟ إن حرية الإبداع عند الحداثيين ودعاة التحرر كلمة حق يُراد بها باطل... ففي اعتقادي أنه لا يمكن أن توجد حرية مطلقة؛ لأنها بذلك ستصبح فوضى مطلقة، فكل مجتمع له قوانين وأعراف تحكمه، ولا يجوز تخطّيها أو تجاوزها بحال من الأحوال.

ولا بدَّ أن يعلم الأديبُ أو المبدع أنه صاحب قضية، وصاحب رسالة تجاه نفسه ومجتمعه، ولا بدَّ أن يكون قدوة لأُمته بما وهبه الله من موهبة وحباه من قدرة على التعبير والابتكار، لكي يقود مجتمعه إلى الأفضل والأقوم، لا أن يجرّهم إلى مواطن الفتن وبُؤَر الرذيلة، أو يُلقي بهم في التهلكة.

إننا لا نطلب من الكاتب أو الأديب أو المبدع أن يكتب لنا رغمًا عنه، ولا نطلب أن يكتب لنا في موضوعات بعينها، لكننا نريد منه أن يصلح ولا يُفْسد، أن يبني ولا يهدم، أن يرشد إلى الفضائل ويكفّ عن الرذائل، ويدعو إلى الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

البيان: ما هو تفسيرك لظاهرة فشل أغلب المؤتمرات الأدبية والثقافية التي تُقام في العالَم العربي في السنوات الأخيرة؟!

- هذا شيء طبيعي جدًّا؛ لأنَّ غالبية هذه المؤتمرات تنعقد دون أن يكون وراءها هدف محدد أو غاية معروفة، فلا توجد قضية معينة تدور حولها محاور ذاك المؤتمر، ولا عدالة أو موضوعية في اختيار الأسماء التي تُمثّل المؤتمر، إنما يتم اختيار أسماء معينة تتماهى مع رؤية ذلك التيار القائم على تنظيم المؤتمر أو المهرجان إيَّاه، ولا يسمح هؤلاء لأحد ممَّن يُخالفهم الرأي بالمشاركة؛ حتى لا يُفسِد عليهم عرسهم الثقافي، فبعض المؤتمرات تستبعد ذوي الرؤية الإسلامية أو الرؤية الأصيلة، وبعضها تَستبعد الأصوات النسائية، وهكذا... فتأتي النتيجة طبيعية، وهي الفشل الذريع الذي لا يخطئها أبدًا!

البيان:  أخيرًا، لوْ لم تكن الأديبة الإسلامية «نوال مهني» شاعرةً.. فماذا تود أن تكوني؟!

  أصدقك القول بأنني منذ سنين طرحتُ هذا السؤال على نفسي مرات ومرات.. وأجبتُ بلا أدنى تردد: أنني لو لمْ أكن شاعرة، لتمنيتُ أن أكون شاعرة.. ثمَّ شاعرة أيضًا، بل أُفضِّل أن أكون شاعرةً على أن أكون وزيرة أوْ أميرة أو حتى رئيسة وزراء... وما زلتُ مُصِرَّة على ذلك الاختيار.

البيان: لماذا كل هذا الإصرار على مزاولة هذه الحرفة بالذات؟

  لأنني أؤمن برسالة الأدب في الحياة، وأؤمن كذلك برسالة الشِّعر ودوره  في تغيير المجتمع إلى الأفضل، فهو يُحفِّز الهِمَم، ويُنقّي النفوس ويُزكيها من خلال ترسيخ القِيَم النبيلة العليا، ويساعد على نشر المعاني السامية والعواطف الرقيقة، فهو يدعو إليها، ويحث عليها ويبرز مزاياها، ويشرح فضائلها... ومن هنا يمكن أن نفهم بعض مرامي الحديث النبوي الشريف: «إنَّ من البيان لسحرًا، وإنَّ من الشّعر لحكمة».

أعلى