حكم القرعة بين السابقين في المسابقات العلمية
إن الحاجة تدعو المشتغلين
بالفقه لأن يصرفوا النظر إلى حكم القرعة بين السابقين في المسابقات العلمية، وأن
يثمر الاشتغال بالفقه عن مراجعة هذه المسألة تمحيصاً وتحقيقاً، وتأصيلاً وتدقيقاً،
وأن يرسلوا واردهم فيدلي دلوه ليستقصي الأقوال في هذه المسألة، ولينظر أيها أزكى
قولاً يقوم على ساق الأدلة، ولا يغادرونها حتى ينجلي فيها وجه الصواب كما قال
الأول:
إذا
المشكلات تصـدين لي
كشفت حقــائقها بالنظر
فإن
برقت في مخيل الصـوا
ب عمياء لا يجتليها البـصر
مقنعة
بغيوب الأمـــور
وضعت عليها صحيح الفكر
ولا يمنعن المتكلم هيبة
هذه المسألة وفشوها أن ينعم الفكر، ويمعن النظر مرة تلو أخرى، فهذا الصحابي الحبر
عبد الله بن مسعود سئل عن امرأة تزوجها رجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى
مات، فاختلفوا إليه شهراً أو مرات، فقال: فإني أقول فيها إنّ لها صداقاً كصداق
نسائها لا وكس ولا شطط، وإن لها الميراث وعليها العدة، فإن يك صواباً فمن الله،
وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان[1].
فإذا تأمّلت الفترة التي
مكثها فقيه من فقهاء الصحابة لبحث هذه المسألة، زال عنك وعثاء مراجعة العلم، كما
تبيّن خطأ التسرع في الحكم على بعض المسائل التي لو وردت على عمر - رضي الله عنه -
لجمع لها فقهاء الصحابة، فكيف بالجراءة البالغة؟
وحديثي عن حكم القرعة بين
السابقين في باب المسابقات على سبيل العموم، حيث يأتي السابق في الرهان أولاً، ثم
بعده المصلي كما قال القائل:
إن
تبتدر غاية يوماً لمكرمة
تلق السوابق منا والمصلينا
ووجهتي تلقاء مسألة السحب
عن طريق القرعة لمعرفة المستحق للمال المشروط للسابقين في المسابقات العلمية على
سبيل التخصيص، فعسى ربي أن يهديني سواء السبيل، وأسأله أن أكون السابق في هذا من
المضمار، ومن أهل هذه الحلبة التي تعنى بمسائل الفقه.
شعب البحث
ونجعل حديثنا في هذه
المسألة على ثلاث شعب:
الأولى: مشروعية
المسابقات العلمية:
لقد ندب الشرع إلى
المسابقة التي تحث على الفروسية والشجاعة في حديث أبي هريرة مرفوعاً (لا سبق إلا
في خف أو حافر أو نصل)، أخرجه أحمد وأصحاب السنن.. والسبق بفتح السين والباء هو
المال الذي يخرجه أحد المتسابقين.
والمسابقات على ثلاثة
أنواع:
1 ما تجوز بعوض ودونه،
وهي ما وجد فيها لفظ الحديث ومعناه، فالمراد بالخف الإبل، والحافر الخيل، والنصل
السهم، واقتصر على الثلاثة الواردة مالك وأحمد، والفيل على الأصح والبغل والحمار
في أحد الوجهين عند الشافعية.
2 ما تجوز بلا عوض، وهي
ما يوجد فيها المعنى، وهو التمرين على الشجاعة دون اللفظ؛ كالعدو على الأقدام،
والرمي بالمقاليع والحجارة، والمصارعة، والسباحة، ففيه وجهان عند الشافعية والمنع
أظهر لخروجه عن اللفظ، وقال الحنفية إن معنى «لا سبق» أي كاملاً ونافعاً.
3 ما لا تجوز بعوض ولا
دونه كالتحريش بين البهائم والنرد.
وكما أن في مسابقة الإبل
والخيل والمناضلة تمريناً على الفروسية والشجاعة والتدرب على السنان، فكذلك
المسابقة العلمية فيها الحث على العلم ونشره والجهاد باللسان، وهي من النوع الثاني
الذي يوجد فيه معنى الحديث دون اللفظ، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز
المراهنة عليها وأخذ العوض؛ لأنه من الجهاد، ولقصة أبي بكر مع المشركين وفيها
إقامة الحجة والبرهان، قال ابن القيم في كتاب الفروسية: (المسابقة على حفظ القرآن
والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل هل تجوز بعوض؟ منعه
أصحاب مالك وأحمد والشافعي وجوّزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا، وحكاه ابن عبد البر عن
الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة)[2].
فقول الجمهور عدم مشروعية
إخراج المال من أحد المتسابقين إلا ما دل عليه الحديث لفظاً، أما إذا أخرجه أجنبي،
أي من غير المتسابقين، فيصح.
إذا أخرج
المال أجنبي
إذا أخرج العوض أجنبي كأن
قال شخص: من أصاب في الجواب على هذه المسائل فله ألف؛ صحَّ ذلك، وهذا من جنس
الجعالة، قال الفقيه العمراني في كتابه البيان (إذا كان المخرج للسبق هو السلطان
أو رجل من الرعية أو أحد المتسابقين فهو كالجعالة)[3].
وقال ابن القيم: (إذا قال
رجل لآخر ارم هذا السهم فإن أصبته فلك درهم أو أجب في هذه المسألة فإن أصبت فلك
كذا أو احفظ هذا الكتاب ولك كذا وكذا؛ صحَّ وكان جعالة محضة ليس من عقد السباق في
شيء وقد بذل مالاً في فعل له فيه غرض صحيح)[4].
والجعالة جائزة، وهي أن
يُجعل لمن عمل عملاً عوض معلوم، فشرطها كون المال معلوماً، وهذا واضح فيما ذكرنا
من قوله: من أصاب في هذه المسائل فله ألف، ويشكل على هذا الجهالة في المال كقوله
فله جائزة قيمة، فعلى القول بأنها جعالة فلا بد من العلم بالعوض، فلينتبه لهذا
المسترشدون فإنه تنبيه مهم، والحاصل هنا أمران، أولهما: أن المال من غير
المتسابقين جعالة محضة، والثاني: اشتراط العلم بالعوض.. وبالله التوفيق.
الثانية: إذا جاء
المتسابقون معاً
لو قال: من أصاب في جوابه
على هذه المسائل فله ألف فجاء المتسابقون معاً؛ فإنهم يستحقون المال الذي بذله
القائل، إذ إن كل سابق وفَّى بالشرط، وهل يشترك جميع السابقين في المال أم أن لكل
سابق المال المذكور؛ الصحيح الأول، قال الإمام النووي: (ولو قال كل من سبق فله
دينار فسبق ثلاثة قال الداركي لكل واحد منهم دينار. ولو قال من سبق فله دينار ومن
جاء ثانياً فله نصف دينار فسبق واحد ثم جاء ثلاثة معاً، ثم الباقون؛ فللسابق دينار
وللثلاثة نصف. وإن سبق واحد ثم جاء الباقون فله دينار ولهم نصف. وإن جاء الجميع
معاً فلا شيء لهم)[5].
فلو قال لعشرة: من سبق
منكم فله عشرة فسبق اثنان فلهما العشرة. وإن سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة،
قال ابن قدامة: (ويحتمل أن يكون لكل واحد من السابقين عشرة؛ لأن كل واحد منهم سابق
فيستحق الجعل بكماله)[6].
تنبيه:
فهذا وجهان؛ الأول منهما
اشتراك جميع السابقين في المال المشروط، وثانيهما لكل واحد منهم ما شرط (فعلى هذا
لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى جاء الثاني فله خمسة فسبق خمسة وصلى خمسة؛ فعلى
الوجه الأول للسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان، وللمصلين خمسة لكل واحد منهم
درهم؛ وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون، ولكل واحد من
المصلين خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون. ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله أن لا
يصح العقد على هذا الوجه لأنه يحتمل أن يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد منهم
درهم وتسع ويصلي واحد فيكون له خمسة فيكون للمصلي من الجعل أكثر مما للسابق فيفوت
المقصود)[7].
والذي يتحصل من هذه
الشعبة أنه لو قال رجل: من سبق فله كذا فسبق اثنان معاً؛ ففيه وجهان، أحدهما:
السبق المذكور بينهما وهو الصحيح، والثاني: لكل منهما سبق كامل لأنه سابق
بانفراده، فالحكم دائر بين هذين الأمرين وليس فيه استحقاق بعض السابقين دون بعض عن
طريق القرعة، فإنه من عمل الغالطين ممن لا يلوي على تحقيق هذا المقام.. والله
المستعان.
الثالثة: حكم القرعة
بين السابقين
وفي هذا المبحث أمران:
أحدهما مشروعية القرعة، وثانيهما: تحقيق المناط في حديثنا..
أما القرعة فقد دل عليها
القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: ٤٤]، وقال
تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْـمُدْحَضِينَ}
[الصافات: ١٤١]، وقد ثبتت في الأحاديث الصحيحة مثل حديث
أبي هريرة مرفوعاً (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن
يستهموا عليه لاستهموا) متفق عليه، وحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) متفق عليه، وحديث
عمران بن حصين (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزّأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق
أربعة وقال له قولاً شديداً) أخرجه مسلم، وحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم عرض على قوم اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم
يحلف) أخرجه البخاري.
والقرعة تُستعمل في أمور منها:
ـ تمييز الأملاك؛
كالإقراع بين العبيد إذا لم يف الثلث بهم، أو عند تعارض البيّنتين على قول، أو بين
الشركاء عند تعديل السهام في القسمة.
ـ تمييز المستحق في السفر
بالزوجات، أو عند اجتماع الأولياء في النكاح، وغسل الميت والصلاة عليه.
ـ حقوق الاختصاصات؛
كالتزاحم على الصف الأول، وفي إحياء الموات، ومقاعد الأسواق التي يباع فيها، وإلى
ذلك أشار السعدي في قوله: «تستعمل القرعة عند المبهم من الحقوق أو لدى التزاحم».
ويذكر الفقهاء أن القرعة
تستعمل أيضاً في باب المسابقة في موضعين؛ أحدهما في بيان البادئ بالرمي إذا تشاح
المتناضلان أقرع بينهما، وفي قول يبدأ مخرج المال، أو من يختاره الأجنبي؛ وثانيهما
عقد النضال بين حزبين إن تشاحا فيمن يبدأ من الرئيسين بالخيرة اقترعا، فمن خرجت له
القرعة اختار أولاً لأنه لا مرجح غير القرعة[8].
وقال ابن عبد السلام:
(وإنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعاً للضغائن والأحقاد، وللرضاء بما جرت به
الأقدار، وقضاه الملك الجبار، فمن ذلك الإقراع بين الخلفاء عند تساويهم في مقاصد
الخلافة، ومن ذلك الإقراع بين الأئمة عند تساويهم في مقاصد الإمامة...)[9].
واعلم أن حاصل المقام في
هذه المسألة أنه يشترط من يحتج بالقرعة في تعيين المستحق بعد تردد الحق في أعيان
لا سبيل إلى نفيه عنها، ولا إثباته في جميعها، فتدعو الحاجة إلى القرعة، وذكر
الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية ت 652 هـ (أن القرعة إنما تشرع عندنا إذا
امتنع الجمع من الأمرين)[10].
تحقيق المناط
أما تحقيق المناط في مسألتنا، فإن القرعة لا تشرع بين
السابقين في المسابقات العلمية التي يبذل المال فيها أجنبي، إذ إن الجميع استحق
المشروط؛ لأنها من باب الجعالة، وهذا ابن رجب الحنبلي جمع في كتاب القواعد الفقهية
مسائل القرعة في المذهب الحنبلي من أوله إلى آخره ولم يذكر مشروعيتها في هذا
المقام، وكذلك فعل الزركشي في كتابه المنثور في القواعد حين ضرب أمثلة القرعة[11].
فهؤلاء الفقهاء قد ضربوا
الذكر صفحاً عن القرعة بين السابقين، وكل من أفاض في الحديث عن القرعة وخاض في
مواطنها، فهل هذه المسألة ليست منها أم زاغت عنها الأبصار حيث لم يذكرها أحد؟
وهكذا، فلو جاء اثنان
معاً فالسبق بينهما، وفي وجه لكل منهما سبق كامل من غير قرعة في الوجهين، وقد جعل
الحافظ ابن رجب الحنبلي المعلق في مسألة السبق قابلاً للتعدد ويكون التعدد فيه
مقصوداً، فقال: (وقد يقال السبق إنما حصل من المجموع لا من كل فرد منهم أو كل فرد
منهم ليس بسابق للباقين بل هو سابق لمن تأخر عنه ومساو لمن جامعه، فالمتصف بالسبق
هو المجموع لا كل فرد منهم فلذلك استحقوا جعلاً واحداً، وهذا أظهر.
والنوع الثاني ما لا يكون
التعدد فيه مقصوداً كالإتيان بالخبر، فهل يشترك الآتون به في الاستحقاق أم يختص به
واحد منهم؟ ويميز بالقرعة فيه الخلاف الذي ذكره ابن أبي موسى، والذي نقله صالح عن
أحمد، أنه يعتق الجميع، ونقل حنبل أنه يعتق واحد منهم بالقرعة)[12].
فلا يتأتى إعمال القرعة
إذن بين السابقين، وهي نتيجة مبنية على مقدمتين صحيحتين؛ إحداهما أن الأجنبي إذا
بذل ماله في المسابقة العلمية فإن ذلك جعالة محضة، والثانية لو اشترك اثنان استحقا
المال كما هو مقرر في المختصرات، فضلاً عن المطولات في قوله: من رد عبدي فله كذا؛
قال النووي في المنهاج (ولو اشترك اثنان في رده اشتركا في الجعل)، وجاء في زاد
المستقنع (فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقتسمونه)[13].
:: مجلة البيان العدد 306 صفر 1434هـ،
ديسمبر2012م.
[1] أخرجه
أبو داود وهو صحيح، وتتمة الحديث «فقام ناس من أشجع فيهم
الجراح وأبو سنان فقالوا يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله قضاها فينا في بروع
بنت واشق وإن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت، قال ففرح عبد الله بن مسعود
فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله».
[2]
ص 136.
[3]
البيان في مذهب الشافعي للفقيه يحيى بن أبي الخير العمراني، ت 558 هـ، 7 / 427.
[4]
الفروسية ص 417.
[5]
المرجع السابق.
[6]
الشرح الكبير 11 / 139.
[7]
المرجع السابق.
[8]
المجموع للنووي 15 / 169، الحاوي الكبير
للماوردي 15 / 465، كشف القناع 4 / 58،
مطالب أولي النهى 3 / 713.
[9]
قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 77.
[10]
القواعد الفقهية للحافظ ابن رجب 1 / 390.
[11]
القواعد الفقهية 3 / 237، المنثور في القواعد
للزركشي 3 / 63.
[12]
القواعد الفقهية 1 / 423.
[13]
منهاج الطالبين ص 263، زاد المستقنع مع الشرح الممتع 10 / 83.