قطار نيتنياهو المُسرَّع فوق قضبان صدئة

لم يحدث أن شهدت «إسرائيل» مثل هذه التظاهرات، ولا لجأت جماهيرها إلى الهتاف «ديمقراطية.. ديمقراطية»، ولا هتفت «ارحل.. ارحل»، ولا خشي خبراؤها العسكريون من خطر الانقلاب العسكري مع امتناع نصف الجنود الاحتياط عن الخدمة


رغم أننا لسنا في تلك اللحظة في ذروة الاحتجاجات (الماضية)، ولا ذروة الآثار (اللاحقة)؛ إلا أننا في وَضْع قد يُمكّننا من رؤية حالة الكيان الصهيوني من داخله، وما يمور فيه من صراعات، وما يتشقق فيه من تصدُّعات، لا سيما أن الاحتجاجات وإن خفَّت فهي لم تتوقف، والآثار وإن لم تتحقق كاملة؛ فإن إرهاصاتها تتوالى.

في ذروة الاحتجاجات التي اندلعت في الربيع الفائت؛ حيث شُوهِدَت تظاهرات داخل المعسكر الصهيوني المحتل لفلسطين، لم يسبق لها مثيل منذ أن أُعلن عن قيام «دولة إسرائيل» قبل 75 سنة، ولأول مرة نرى مئات الآلاف في ساحة رابين وشوارع تل أبيب، بما تراوح في بعض الأيام ما بين نصف مليون إلى مليون متظاهر صهيوني، وفقًا لتقديرات الأحزاب والشرطة «الإسرائيلية»، حينها -في تلك الذروة-، سمعنا أنباء عن تمرُّد «رمادي» لأعداد هائلة من جنود الاحتياط الصهاينة، ورفض مئات من الطيارين العسكريين التطوُّع (دون التكليفات)، ورفضًا صريحًا ومبطنًا للخدمة في جيش العدو «الإسرائيلي».

وفي تلك الذروة، ولم تزل، نسمع مصطلح «الانقلاب القضائي»، و«جيش بن غفير»، والتحذيرات من انهيار جيش الاحتلال، أو تفككه، أو بالأحرى ما يُسمَّى بـ«جيش الشعب»، وتحدث إقالة لوزير الحرب الصهيوني، ثم يتم العدول عنها، ثم تقديم مشروع قانون «الإصلاح القضائي»، ثم إقرار بند منه، وإرجاء بنود أخرى، وكذلك «قانون الخدمة العسكرية».

في الذروة، لمسنا قلقًا عميقًا لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على «الديمقراطية في إسرائيل»، وانزعاجًا في الداخل من تحوُّل «إسرائيل» إلى دولة ديكتاتورية حقيقية؛ فيما يتعلق بممارساتها مع أبنائها اليهود أنفسهم.

فأين تكمن المشكلة تحديدًا؟ ولماذا كل هذا القلق رغم الاستقرار النسبي للكيان الصهيوني، ودوام التفوق العسكري على دول المحيط العربي؟ وأيّ قلق على الاقتصاد «الإسرائيلي»، وهو لم يزل تحت تصنيف A+ العالي؟

جوهر المشكلة:

تبدو المشكلة مُعقَّدة كثيرًا داخل الكيان الصهيوني؛ فأصل المشكلة السياسية الداخلية، قديمٌ، وهو يتعلق بالنظام السياسي الحزبي، الذي أوقع الحكم الصهيوني كثيرًا في معضلة النظام البرلماني الذي لا يمنح سلطة قوية لرئيس الوزراء، ويقيد العمل السياسي بسبب الحاجة الدائمة لتشكيل حكومات ائتلافية تجمع ما بين متناقضات، أو تخضع لإملاءات واشتراطات أحزاب صغيرة مؤثرة في تحقيق التفوق النسبي في الكنيست، ويُلْزِم الأحزاب الكبرى بتشكيل وزاراتها وفق محاصصات وزارية لا تحقق لها انسجامًا، ولا تجعلها تُقدِّم المصالح العليا فوق كل اعتبار حزبي ضيِّق.

آلت الأحوال السياسية في الأخير إلى وجود رئيس حكومة متَّهم بالفساد، لا يجد خلاصه إلا في أمرين؛ هم: الاستمرار كرئيس للوزراء يتمتَّع بالحصانة، وتحصين قراراته، وتقوية وضعه السياسي، بإقرار الكنيست قانونًا يُحصِّن منصب رئيس الحكومة بحيث لا يتم عزله إلا في ظروف معقَّدة جدًّا. ومِن ثَم إرضاء الأحزاب اليمينية التي قادته إلى العودة إلى رئاسة الحكومة.

ليس الأمر بالطبع بهذه البساطة، فكل ما ترتب على تلك الأزمة ليس نتاج الطموح الشخصي لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو المتشبِّث بالسلطة حتى آخر رمق، لكن دون ذلك أسباب أخرى بنوية سياسية واجتماعية ودينية للكيان الصهيوني بكل مكوناته وتشعُّباته، ولربما كانت طموحات نتنياهو هي القطرة التي أفاضت الكأس، وأبانت عن هشاشة الوضع الداخلي الصهيوني بعد ثلاثة أرباع القرن من قيام دولة الكيان الصهيوني.

وترتب على تلك الرغبات التي تجمعها أهداف التحالف الحاكم؛ ثلاث قضايا مثيرة للجدل:

1- قانون «الإصلاح القضائي» الذي يصرّ التحالف الحاكم بزعامة نتنياهو على إقراره كاملًا بعد أن مرَّر أكثر بنوده جدلًا ومعارضةً، في شهر يوليو المنصرم، ويشمل الحد من بند «المعقولية»، الذي يمكن للقضاء من خلاله إلغاء قرارات الحكومة، كما أنه سيعطي الحكومة صلاحية أوسع في تعيين القضاة. ويصر معارضوه على إعادة النظر فيه، وفي غيره من «الإصلاح» الذي ينعتونه بـ«الانقلاب»، وفي وقف هذا التغول السلطوي على السلطة القضائية، والذي سيحوّل «إسرائيل» إلى «دولة ديكتاتورية» على اليهود أنفسهم.

2- قانون «الخدمة الإلزامية»، والذي يدفع به نتنياهو ثمن دعم الأحزاب الدينية له في «الإصلاح القضائي» بمنح طائفة الحريديم المتدينة حقوقًا بالتوسع في ذريعة التفرغ لدراسة التوراة للامتناع عن أداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وبالتالي يتحول الجيش الصهيوني من «جيش الشعب» إلى «الجيش المهني» أو الوظيفي أو «الارتزاقي»؛ بحيث يخلو تدريجيًّا من تعبيره عن خدمة «الدين والوطن» إلى العمل المهني المرتبط بالرواتب، والتي بطبيعتها تبدو متدنية قياسًا بالعمل «المدني»، وعليه فسيضم الجيش تلقائيًّا أبناء الضواحي والفقراء، وسيخلو تدريجيًّا من التوظيف الديني للصراعات، وهذا سيُضْعِف الجيش عددًا وروحًا. القانون جاء ضمن الاتفاقيات الائتلافية بين نتنياهو وحزب «يهودوت هتوارة» يَعِد بالإعفاء الكامل من الخدمة الإلزامية في الجيش الصهيوني، كما تم الوعد بأن القانون سيكون مُحصَّنًا من المراجعة القضائية.

3- إنشاء قوات «حرس وطني» بقيادة وزير «الأمن القومي» بن غفير؛ إذ وافقت حكومة نتنياهو في أبريل الماضي على إنشائها مبدئيًّا، في مقابل موافقة حزب بن غفير على «الإصلاح القضائي»، ومِنْ ثَمَّ وافقت حكومة العدو على تخفيض شامل بنسبة 1,5٪ في ميزانيات جميع وزاراتها من أجل توفير مليار شيكل إضافي لإنشاء هذا الحرس الوطني.

الانتقادات «الإسرائيلية» الداخلية لتلك القضايا:

1- قانون «الإصلاح القضائي»:

يعتبره المعارضون «انقلابًا» على الديمقراطية، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، ويُحذِّرون من تحوُّل «إسرائيل» إلى الديكتاتورية، كما يُبْدُون قلقًا من تأثير ذلك على الاقتصاد «الإسرائيلي»، وبحسب معهد «السياسات والاستراتيجيات» (IPS)؛ فإن «الانقلاب القانوني يُعمِّق الانقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، وقد يُحوِّل إسرائيل من ديمقراطية مزدهرة إلى دولة ذات خصائص نظام ديكتاتوري واقتصاد متعثر، وبهذه الخطورة يجب الانتباه إلى توسع الاحتجاجات وانضمام العديد من القطاعات، والتصريحات عن عدم الرغبة في أداء خدمة الاحتياط، وزيادة نطاق إخراج الأموال خارج الدولة، وخفض الاستثمارات الأجنبية، واحتمال إلحاق الضرر بالتصنيف الائتماني لإسرائيل، في الوقت نفسه الذي تُواجِه فيه خطوات الحكومة معارضة وانتقادات حادة مِن قِبَل أصدقاء الولايات المتحدة وإسرائيل في أوروبا والعالم العربي».

وفي السياق نفسه، قال رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق نفتالي بينيت: «علينا إنقاذ دولة إسرائيل، لا أقل، يجب ألا يكون هناك إراقة دماء. إسرائيل في خطر أكبر من أيّ وقت مضى منذ حرب يوم الغفران [حرب 1973]؛ خطر أمني، خطر دبلوماسي، خطر اقتصادي، خطر الانهيار».

2- قانون «الخدمة الإلزامية»:

 سيؤدّي هذا التمييز الذي تتطلع إليه طائفة الحريديم المتدينة -والتي يستند إليها نتنياهو في تحقيق غالبية في الكنيست- إلى تحويل الجيش الصهيوني إلى جيش مرتزق، وإلى مزيد من تقسيم الكيان الصهيوني وجيشه، وقد صرَّح الرئيس السابق رؤوفين ريفلين بالفعل في يونيو 2015م بأن «العمليات الديموغرافية والثقافية تُعيد تشكيل وجه المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة، من مجتمع يتألف من أغلبية (صهيوني) وأقلية واضحين، إلى مجتمع يتكون من أربعة قطاعات رئيسة أو «أسباط» التي تقترب من بعضها البعض في الحجم؛ وهم: علمانيون، وقوميون، متدينون وحريديم، وعرب».

3- إنشاء «الحرس الوطني»

 التابع مباشرةً للإرهابي المتطرف بن غفير، يعني تلقائيًّا تسليم الحريديم المتطرفين قوة موازية للشرطة، يمكن أن تُمثِّل خطرًا على القوى الأمنية النظامية، ولهذا يقول موشي كرادي القائد السابق للشرطة الصهيونية: إن «وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قد يستخدم الحرس الوطني المقترح لتنفيذ انقلاب ضد الحكومة.. إن نتنياهو يجب أن يكون حَذِرًا من إعطاء هذه السلطة للنائب اليميني المتطرف؛ لأنه سيستخدمها ضده يومًا ما»؛ وفق ما ذكرته صحيفة ذا تايمز أوف إسرائيل.

الانتقادات الدولية لـ«الانقلاب القضائي»:

دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن، رئيس الوزراء الصهيوني إلى إعادة النظر في خطة «الإصلاح القضائي».

وحذرت دوائر أمريكية رسمية عديدة من تحوُّل «إسرائيل» إلى «دولة ديكتاتورية».

وحذَّر الرئيس الفرنسي ماكرون، نتنياهو من أنه إذا استمرت خطة إجراء الإصلاحات القانونية كما هي فستعتبر فرنسا أن «إسرائيل قد انفصلت عن مفهوم الديمقراطية».

 وأعربت ألمانيا على لسان رئيسها شتاينماير ووزير خارجيتها باربوك عن قلقها بشأن الخطوات الرامية إلى تغيير وجه النظام القضائي.

كما ناقشها البرلمان الأوروبي مُحذِّرًا من حذو الكيان الصهيوني حذو بولندا والمجر في هذا الخصوص، والابتعاد تدريجيًّا عن الديمقراطية.

وهذا قد يأخذه البعض في إطار التصريحات الظرفية الشكلية العابرة، غير أن مسألة الديمقراطية في الكيان الصهيوني لا يَنظر إليها الغرب من منطلق أخلاقي، وإنما ينبعث القلق من خطورة الديكتاتورية في «إسرائيل» على بِنْيتها السياسية، وقُدرتها على مناهضة المحيط العربي، وحدود الدعم الذي يمكن لحكومات تلك الدول تقديمه للكيان الصهيوني؛ باعتباره «واحة الديمقراطية» في «صحراء ديكتاتورية الشرق الأوسط»، مثلما يُسوّق للكيان الصهيوني، ويمنح «شرعية الاحتلال» للكيان الصهيوني، ولهذا؛ فإنه -على سبيل المثال- قد انبرى أكثر من 1400 أكاديمي يهودي ونصراني ومسلم في جامعات العالم للتوقيع على عريضة ما زالت أعداد مُوقِّعيها تتزايد حتى كتابة تلك السطور، تقرن ما بين الاحتلال وخطة «الإصلاح القضائي»، وتجعل من الأخيرة وسيلة لترسيخ الديكتاتورية والقمع والاحتلال معًا.

مستقبل «إسرائيل» وتحدياتها الخطيرة مع تلك الملفات:

هناك زوايا متعددة تعكس المخاوف التي تعتري مفكري الكيان الصهيوني وخبراءه جراء هذه الإجراءات، والتي باتت تُهدِّد بقاء «إسرائيل» ذاتها؛ فللقلق «الإسرائيلي» أُسُسه التي تبدو لأول وهلة مُبالَغًا فيها، لكنْ عند التدقيق يستشعر المراقب أن لها وجاهة بالفعل؛ لما تُمثِّله من حيثيات مقنعة.

فعلى سبيل المثال:

- ليس الصراع داخل الكيان الصهيوني وخارجه متعلقًا بقوانين صِيغَت لإرضاء حلفاء في ائتلاف حكومي، أو مقايضة فيما بين أركانه فحسب، وإنما يبدو الأمر أوسع بكثير من هذا، ويصل مداه للخارج في الاتجاهين؛ ففي قلب الخلاف يبدو الاشتباك الفكري العالمي الآن ما بين اليمين المتطرف، واليسار المتطرف، بكلّ ما يحمله ذلك الصراع من اختلافات جوهرية سياسية واجتماعية، يدخل فيها -على سبيل المثال- قضايا تتعلق بالأسرة وبقائها أو تفكيكها، الشذوذ، الإجهاض.. إلخ، برغم ما تبدو عليه المعركة في الكيان الصهيوني من مسائل تتعلق بالقضاء والجيش والأمن، ونحو ذلك، وكلما اشتد الصراع زادت الفجوة؛ فنحن بالتالي إزاء صراع بين الحريديم والعلمانيين، في كل المناحي، وسيصل شررها إلى تكوين الجيش الصهيوني نفسه، وقبله دواليب الحكم الرئيسة.

- الانقسام فيما يُسمَّى بالمجتمع الإسرائيلي آخِذٌ في التزايد، والشُّقَّة تتَّسع باطراد، وهناك خطر داهم يتهدد هذا «المجتمع»؛ فطائفة الحريديم التي تكسب أرضًا كل يوم، تكسبها ليس بسبب المنضمين إليها فحسب؛ بل لأن معدلات الإنجاب تصل بين أسرها لنحو 7%، فيما لا تجاوز الأُسَر العلمانية نسبة 1,5% في معدلات الإنجاب، وهذا يجعل الكيان ذاهبًا باتجاه اكتساح الأحزاب الدينية يومًا ما. وإذ هي قد وصلت الآن إلى مستوًى يُؤهِّلها لأن تفرض شروطًا يجعلها ترفض حتى قضاء شبابها ساعة واحدة في الخدمة المدنية عِوَضًا عن إعفائهم من التجنيد الإجباري لتفرُّغهم لدراسة التوراة، مثلما اقترحت بعض الأحزاب اليسارية ذلك؛ خروجًا من الأزمة في الجيش الصهيوني؛ فإن هذه الأحزاب سيكون لها سلطة أكبر فيما يأتي من قادم الأيام تُمكِّنها من فرض إرادتها على الجيش دون أن تكون مُتحمّلة لأعباء الخدمة فيه! كيف يتصور ذلك؟ سيُفضي ذلك بكل تأكيد إلى اتساع الهوة بين أفراد هذا الجيش.

هذا المعدل في الإنجاب إلام يُفْضِي أيضًا؟ مزيد من الانسحابات من الجيش، وبالتالي تحوُّل الجيش الصهيوني من «جيش الشعب» كما يقال إلى «جيش الارتزاق»؛ لتعويض النقص فيه، وبالتالي ضياع روحه القتالية، واقتصاره على العاطلين عن العمل، والمُهمّشين، بما يبعده عن كونه جيشًا عقائديًّا، ويحرمه من رافد الاحتياط الآخِذ في التضاؤل في كيانٍ لا يُمثِّل في محيطه الإقليمي أكثر من 2% من تعداد السكان العرب.

يقول عضو الكنيست ورئيس أركان جيش العدو السابق غادي إيزنكوت: «إذا تم تمرير قانون دراسة التوراة الأساسي أو قانون تجاوز التجنيد الإجباري، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قاتلة للجيش الإسرائيلي باعتباره جيش الشعب» [موقع «واللا» الصهيوني - 10 أغسطس 2023م].

- لم يحدث أن شهدت «إسرائيل» مثل هذه التظاهرات، ولا لجأت جماهيرها إلى الهتاف «ديمقراطية.. ديمقراطية»، ولا هتفت «ارحل.. ارحل»، ولا خشي خبراؤها العسكريون من خطر الانقلاب العسكري مع امتناع نصف الجنود الاحتياط عن الخدمة، ولا دفعت أحداث كتلك مسؤولين عسكريين رفيعي المستوي كوزير الحرب الصهيوني السابق بيني غانتس عن الإعراب عن خشيته من اندلاع «حرب أهلية» في «إسرائيل»، فبحسب تغريدة له فإن «خطر حدوث حرب أهلية يتزايد. هذه ليست نبوءات نابعة عن غضب، هذا كلام واقعي، أنا أعيش داخل شعبي وأرى كيف نتفكك».

- وبوسع أيّ مراقب أن يلحظ الكم الهائل للمنشورات الصادرة عن مراكز الأبحاث الصهيونية، والمقالات التحليلية المعمقة العبرية التي تُحذِّر كثيرًا من خطر تفكك الجيش، وفي مجملها تتحدث عن ترهُّل هذا الجيش، وتأثُّره بصورة سلبية مباشرة بالاحتجاجات، وحالات الرفض للخدمة في الاحتياط، وفي أسلحة مهمة كالسلاح الجوي والمكاتب السيبرانية.

فعلى إثر إعلان المئات من جنود الاحتياط الإضافيين عن تعليق خدمتهم التطوعية، معظمهم من سلاح الجو، ظهر قلق حقيقي لدى العدو من حدوث ضرر كبير في كفاءة السلاح، وآخرون من نظام العمليات الخاصة، ووحدات السايبر (الوحدة 8200)، بالإضافة إلى مجموعات كبيرة من الأطباء والأخصائيين النفسيين في الاحتياط.

ونضح هذا القلق في العديد من التحليلات الصحفية، ومنها ما عَنْوَنَتْ له معاريف (27 مارس الماضي 2023م) بـ«رفض الخدمة هو المسمار الأخير في نعش إسرائيل»؛ حيث لخَّص تلك المخاطر التي تُواجه جيش الاحتلال الصهيوني، والتي منها ما يتعلق بالأحداث الأخيرة، ومنها ما تُعدّ تلك الأحداث مجرد عاكسة لضوئه الأحمر.

تختتم معاريف تحليلها بالقول: «إن عملية رفض الخدمة تُلْحِق ضررًا خطيرًا بنسيج العلاقات الدقيق الذي تم بناؤه لسنوات عديدة داخل الوحدات، بالتماسك، وزمالة السلاح، وأخوة المقاتلين، والإيمان بصواب الطريق، دون تمييز في الدين أو العرق أو الجنس، ودون تمييز بين اليمين واليسار والمتدينين والعلمانيين، ستكون هذه ضربة قاتلة لدوافع المقاتلين ولروحهم القتالية، في أعماق الوحدات نفسها، من هذا الانهيار، إذا ما اشتد، لن يكون هناك سبيل للعودة، وسيكون ذلك نهاية الجيش».

وزادت بكثير من الشواهد على هشاشة هذا الجيش؛ فسلاح الجو قد أنشئ بفلسفة مواجهة الطيارون لنظرائهم في الجو، لكنَّ الحرب القادمة ستدمّر القواعد والطائرات في مرابضها، هكذا توقعت الصحيفة، مع بروز فعالية الصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة في أيدي المقاومين والجيوش على حد سواء «لقد دفن قادة سلاح الجو في السنوات الأخيرة رؤوسهم في الرمال، ولم يدركوا أن قواعد الجنود ستصبح هدفًا استراتيجيًّا لصواريخ العدو والطائرات بدون طيار، في الحرب متعددة الساحات القادمة، وبالتالي لم يجهزوا القواعد للحرب التي تغيرت كليًّا من أولها إلى آخرها».

ثم إن الجيش البرّي نفسه قد تقلَّص بدعوى أن «إسرائيل» لن تُواجه حروبًا مُوسَّعة من «الجيران»، وإنما عمليات مقاومة، «وتقليص الجيش وفقًا لفهمهم (جيش صغير تقني وفتاك)، والنتيجة هي أن الجيش البري مهترئ تمامًا، وجيش الاحتياط غير مُدرَّب، ولم يستوعب أسلحة جديدة، وفقد ثقته في القيادة العليا الجيش الإسرائيلي، وبثلاث كلمات أصبح (غير صالح للحرب)».

 ثم يزداد تقلُّصه مع الإجراءات الجديدة، ثم يزداد هشاشة مع تحوُّله إلى «جيش مهني» مرتزق يخلو من أصحاب العقيدة المتفرِّغين للدراسة!، ثم يزداد الجيش هشاشةً باعتماده على مصانع مدنية لتزويده بالسلاح والذخائر، وهي التي تقلّصت قدراتها بنسبة 60%.

*    *    *

 

في الربيع الفائت، عندما أحسَّ نتنياهو أنه على وشك الرحيل، وشعر حلفاؤه أن معركتهم توشك أن تصبح خاسرةً أمام مئات الآلاف من المحتجّين، استخدموا أولًا مدافع المياه لرشّ المتظاهرين بسائل كريه الرائحة جدًّا، وهو ينشر رائحة لا يمكن وَصْفها، تُسبِّب الغثيان وتلتصق بالملابس لأيام، بدأ الجيش الصهيوني باستخدامها ضد الفلسطينيين وحدهم منذ العام 2012م في مظاهرات الجدار الفاصل.

تُحذِّر هآرتس في تقرير لها بعنوان «الاحتلال يتسرب إلى داخل إسرائيل.. رشّ موادّ كريهة الرائحة هو البداية فقط» [31 يوليو 2023م]، فتتوقع أن بعد السائل الكريه ستكون القنابل المسيلة للدموع، ثم الرصاص المطاطي، ثم الحي؛ فيقتل «الإسرائيليون» أنفسهم بأدوات الاحتلال التي تختم هآرتس بالقول: «هذه الممارسات النتنة التي يقوم بها الاحتلال تميل إلى التسرب إلى داخل إسرائيل ببطء حتى الآن».

دعونا نزيد على هآرتس أو نزايد عليها بالقول: إن نتنياهو وحلفاءه حينما أخفقت كل جهودهم السلمية لوقف الاحتجاجات في الربيع لجأوا إلى حيلة عبد الناصر لكَبْح المطالب الديمقراطية: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».. الطريف أن أكثر حكومة «إسرائيلية» يمينية متطرفة على الإطلاق، مثلما يصفها الداخل والخارج، لجأت إلى عدوها اللدود؛ فاستمطرت صواريخ حماس على تل أبيب حينها بافتعال جريمة اقتحام مريعة للمسجد الأقصى المبارك. لم يَحْتَج نتنياهو لخراطيم المياه لوقف المظاهرات، فالمتظاهرون انتقلوا تلقائيًّا للملاجئ!

بَيْد أن تلك الحيلة لن تصمد طويلًا؛ فالشقوق تتسع، والديمقراطية تبتعد، ولا غرو لدى اليمين في أن يصبح كيانهم استبداديًّا، ولا حتى حلفاؤه في الخارج، لكنَّ أصعب ما سيواجهونه هو تراجع كبير في الاقتصاد وفرار المستثمرين عندئذ، ما لم يتم التوصل لحل ناجع.. حلّ أخير سيتشبث به اليمين الحاكم لدفع رواتب مرتزقة جيشه فيما بعد، هو البحث مجددًا في ملفّات التطبيع؛ علَّها تَجْلب له شيئًا من الرخاء!

أعلى