منذ مجيء أردوغان وحزبه للحكم في أواخر 2002م، سارت استراتيجية أردوغان داخليًّا في ثلاثة مسارات متوازية؛ تحقيق إنجازات اقتصادية وخدماتية، تغيير تدريجي وبطيء للعلمانية المتوحشة، إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة.
هل يمكن لمأساة الزلزال الذي وقع في الأسابيع الماضية في كلٍّ من تركيا وسوريا أن
تُغيِّر معادلة الحكم في الداخل التركي؟
فهذا الهاجس لا يزال يُقلق صانعي القرار ليس في المحيط المحلي أو الإقليمي فحسب، بل
يتعداه إلى الوضع العالمي، متأثرًا ومؤثرًا في التوتر والتنافس الحاصل الآن في
النظام الدولي.
ولذلك يَعتبر كثير من المراقبين أن أول سؤال ينبغي طرحه ويتعلق بالنتائج المترتبة
على حدوث الزلزال، هو: ما مدى تأثيره على المشهد الانتخابي القادم في تركيا،
والمقرر في مايو المقبل؟
لقد ظل حزب العدالة والتنمية التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان مسيطرين ومتربعين على
سدة الحكم منذ ديسمبر 2002م، وحتى الآن، أي منذ أكثر من عشرين عامًا، وفي كل
استحقاق انتخابي سواء كانت انتخابات برلمانية أو رئاسية، فإنه طيلة هذه السنوات
يكون الفوز دائمًا إما من نصيب هذا الحزب منفردًا، أو متحالفًا مع الحزب القومي
التركي.
ولوضع تصوُّر لقراءة تأثير تداعيات الزلزال على المشهد القادم في تركيا، ينبغي
تفكيك الحالة السياسية التركية الحالية، والتي تكونت خلال العشرين عامًا الماضية،
وهي الفترة التي شهدت حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان.
تركيا خلال عشرين عامًا... نقلة استراتيجية
لكي نقيس التغيير الذي أحدثه حزب العدالة في مكانة تركيا الإقليمية والدولية، لا بد
من الرجوع إلى لحظة سقوط الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين؛ لنعرف الوضع
الذي كانت عليه الدولة التركية قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم.
ففي نوفمبر من عام 1918م بعد هزيمة المحور الألماني العثماني دخلت القوات الفرنسية
العاصمة التركية إستانبول، وفي اليوم التالي دخلت القوات البريطانية، وبعدها بثلاثة
أشهر دخلت القوات الإيطالية أيضًا، ليكتمل الاحتلال الغربي الرسمي للدولة
العثمانية، ومِن ثَم تفكيكها، بينما استمرت مقاومة الأتراك للاحتلال.
وفي عام 1923م تم توقيع معاهدة لوزان، والتي بمقتضاها سمح الغرب بإعلان جمهورية
تركية في هضبة الأناضول وفق شروط خاصة، وتم إسناد رئاستها لأحد زعماء المقاومة
التركية، وهو مصطفى كمال أتاتورك، الذي أنشأ جمهورية علمانية عاصمتها أنقرة وليس
إستانبول. وفي ظل حكم الحزب الواحد حزب الشعب، الذي استمر عقودًا من الزمن؛ حاول
أتاتورك محو المؤسسات العثمانية والرموز الثقافية، فعلى سبيل المثال، تم تغيير
الأبجدية العثمانية من العربية إلى اللاتينية، ومنع الحجاب، وأدخل إلى البلاد
القوانين الغربية.
وهنا عرف الناس أن الشروط الخاصة التي على ضوئها أعلن الغرب انسحابه من إستانبول،
وسمح بتشكيل الجمهورية التركية، هي موافقة الأتراك القوميين من جماعة أتاتورك على
شطب الإسلام من الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا.
ولكنَّ التوحُّش الذي قام به أتاتورك وخلفاؤه في تطبيق العلمانية وفرضها على الشعب
التركي، لا يبدو أنه كان مفروضًا على تلك المجموعة مرغمين من الغرب من أجل تحرير
أرضهم فقط، بل ذلك الأسلوب في التطبيق يوحي بأن ممارساتهم تلك كانوا يطبقونها عن
أيديولوجية واقتناع بفكرة أنه لا بد من اقتلاع الإسلام من نفوس الأتراك.
بالإضافة إلى المحاولات الشرسة للتغريب وفرض العلمانية بين أفراد الشعب التركي؛ فإن
التبعية السياسية للغرب والتي سار عليها أتاتورك ومن جاء من بعده، أدَّت إلى تخلّي
تركيا عن دورها الاستراتيجي العالمي المُؤثِّر وتحوُّلها إلى مجرد حديقة خلفية
للغرب.
يبين رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي:
«إنه
في عصر الجمهورية في أعقاب سقوط الدولة العثمانية تبنَّت تركيا استراتيجية ذات
بُعْدَيْن حتى يتم القبول بها على الساحة الدولية، مستلهمةً مبدأ أتاتورك القائل:
سلام في الوطن، وسلام في العالم.
البُعْد الأول يركز على الدفاع عن الحدود القومية بدلاً من الاستراتيجية ذات البُعد
الدولي.
أما البُعْد الآخر فملخّصه أن تكون تركيا جزءًا من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة
أو مُعارِضَة له».
وأدَّى هذا الوضع إلى وجود نُخبة سياسية تظن بأن الوحدة السياسية الداخلية، والحفاظ
على الحدود، تتم عن طريق تصفية الهوية السياسية العثمانية ومؤسساتها، والتي كانت
تستمدها من الإسلام.
فتركيا في نظر
«أوغلو»
هي المجتمع الوحيد الذي شهد قطيعة تاريخية كاملة من ناحية الهوية والثقافة
والمؤسسات التي يستند إليها النظام السياسي، وهذا ما قامت به النخبة السياسية عندما
أظهرت رغبتها في الالتحاق بحضارة الغرب بعد أن خسرت المواجهة التي دخلتها مع هذه
الحضارة. وهذه النُّخبة فشلت في تحقيق منزلة عالية لتركيا بين الدّول تناسب مكانتها
التاريخية، في نفس الوقت التي تجاهلتها الحضارة التي أرادت الالتحاق بها؛ مما أدَّى
إلى تفعيل البنية التحتية السيكولوجية في نفوس الجماهير التركية، والتي دعمت
الاتجاه الذي يدعو إلى العودة التاريخية.
ويؤكد أوغلو على أن تركيا في عصر الدولة العثمانية، نظرت إلى دورها كجسر بين الشرق
والغرب نظرة واثقة في النفس؛ من خلال النظر إلى التنوع الموجود بين المناطق
المختلفة والمتداخلة على أنها ميزة تغني الدولة وتقويها ولا تُضعفها، أما بعد ذلك
فقد نظرت إلى دورها بسيكولوجية تفتقر إلى الثقة واحترام الذات وبرغماتية سطحية؛
فدخلت العصر الحديث وهي تعاني أزمة هوية قاسية وصراعات سياسية داخلية ناجمة عن تلك
الأزمات.
كان لا بد من الاستطراد في هذا التوضيح؛ لإدراك حجم التَّغيُّر الضَّخْم الذي
أحدثته العلمانية في تركيا، خاصةً من النواحي النفسية أو الاستراتيجية، والذي أدَّى
إلى ردّ الفعل التالي؛ فقد ظهرت التيارات السياسية التركية التي حاول البعض منها
التعبير بطرق مختلفة عن عدم رضاها عمَّا آلت إليه تركيا؛ فقد ظهرت العثمانية
الجديدة التي مثَّلها في مرحلة لاحقة
«تورجوت
أوزال»،
وهناك التيار الإسلامي الذي مثَّله حزب الرفاه، ولكن ظلت حركة التغريب التي مثَّلها
حزب الشعب -وهو الحامل والمدافع عن ميراث أتاتورك- تحاول الحفاظ على مكتسباتها.
ماذا فعل أردوغان وحزبه؟
منذ مجيء أردوغان وحزبه للحكم في أواخر 2002م، سارت استراتيجية أردوغان داخليًّا في
ثلاثة مسارات متوازية؛ تحقيق إنجازات اقتصادية وخدماتية، تغيير تدريجي وبطيء
للعلمانية المتوحشة، إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة.
وتزامنت تلك الاستراتيجية في الداخل مع استراتيجية خارجية تهدف إلى تغيير وضع تركيا
من مجرد حديقة خلفية للغرب، إلى محاولة الصعود في سُلّم النظام الدولي وفق قواعد
مُتدرّجة.
فما مدى نجاح تلك الاستراتيجيات؟
- أما في الملف الاقتصادي فقبل استلام حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في نهاية
2002م، مرَّت تركيا بواحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية، وذلك بعد انهيار الليرة
التركية بنسبة 100% وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية؛ حيث وصل إلى 70%، وأفلست
على إثرها نصف البنوك التركية، ووصلت معدلات البطالة لمستويات خرافية، ولكن وفي
خلال ثماني سنوات فقط من تولّي حزب العدالة والتنمية شؤون الحكم في تركيا، ووفقًا
لتقارير صندوق النقد الدولي، كانت تركيا واحدة من أسرع الاقتصادات نموًّا في عامي
2010 و2011م، فقد سجَّل الناتج المحلي الإجمالي لتركيا ارتفاعًا هائلاً، الأمر الذي
جعلها واحدةً من أسرع الاقتصادات نموًّا بين دول مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديًّا
في العالم في حينها.
وازداد مستوى دخل الفرد ما يقارب ثلاثة أضعاف، فبينما كان دخل الفرد السنوي لا
يتجاوز 3500 دولار عام 2002م؛ تجاوز خلال عشر سنوات عشرة آلاف دولار.
فاحتلت تركيا المرتبة السابعة عشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم، وسادس أكبر
اقتصاد في أوروبا، وارتفع النّاتج القومي الإجمالي من 230 مليار دولار في العام
2002م، إلى 820 مليار دولار خلال العام 2013م، كما ازدادت قيمة الصّادرات التركية
من 36 مليار دولار إلى 158 مليار دولار. أي ما يزيد على الأربعة أضعاف، وذلك في
الوقت الذي تراجعت فيه نِسْبَة الدَّيْن العامّ مقارنةً بالدّخل القومي من 74 إلى
36%.
واستطاعت تركيا ولأول مرة منذ أكثر من 50 عامًا سداد كافة ديونها لصندوق النقد
الدولي، بل وتحوَّلت إلى إحدى الدول الداعمة للصندوق.
ولكن في السبع سنوات الأخيرة بدأت مؤشرات الاقتصاد في التدهور نتيجة عوامل كثيرة،
على رأسها العامل السياسي، حينما اتخذت حكومة العدالة موقفًا مغايرًا لبعض القوى
الإقليمية، خاصةً ما يتعلّق بالربيع العربي، في نفس الوقت الذي بدأت فيه مواقف
أردوغان أكثر استقلالية في رفض التبعية الغربية، محاولاً نقل تركيا استراتيجيًّا من
خانة صفر مشكلات التي صاغها أحمد داوود أوغلو، إلى درجة التشابك مع المشكلات
الإقليمية وإيجاد موطئ قدم للنفوذ التركي المتنامي.
هنا حاولت بعض الأطراف قصقصة أجنحة حكومة حزب العدالة والضغط عليها عبر الاقتصاد.
وبالإضافة إلى تعرُّض نظام حزب العدالة والتنمية لحصار اقتصادي غير معلن داخليًّا
وخارجيًّا منذ سنوات، فإن جائحة كورونا جعلت الضغوط تزداد على الاقتصاد التركي،
فزاد التضخم وانخفضت قيمة العملة، وشهدت البلاد موجات تسونامي ضربت أسعار السلع
الأساسية والطاقة، بالإضافة إلى أسعار المنازل والإيجارات، بأكثر من الضعف
والضعفَين، الأمر الذي تسبّب في أزمات اجتماعية وشكّل ضغوطًا على المواطنين.
- إنهاء الدور السياسي للجيش التركي، لكن يبدو أن أبرز النجاحات التي استطاع
أردوغان أن يُحقّقها، وقدَّم فيها خدمة كبيرة للدولة التركية، هي وقف تدخل الجيش في
السياسة، وقصر التنافس السياسي على صندوق الانتخابات، بدون تدخُّل قيادات الجيش،
الذين قاموا بعدة انقلابات بدءًا من ستينيات القرن الماضي حتى عام 2016م، وكانوا
سببًا رئيسيًّا في تدهور المكانة الاستراتيجية للدولة التركية وتقزيمها بين الأمم،
فضلاً عن الفساد السياسي والاقتصادي الذي حلَّ بالداخل التركي.
لقد كانت المشكلة الأساسية أمام الحزب تتمثل في أنه كلما اقترب أو شارك حزب ذو ميول
إسلامية في الحكم؛ فإن الجيش يتحرَّك بانقلاب أو شبه انقلاب ليزيح الحزب -ذا الميول
الإسلامية- عن دائرة الحكم، فكيف يستطيع هذا الحزب تخطّي هذه الإشكالية؟ أو بمعنى
آخر كيف اختلفت استراتيجية حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان عن تجربة حزب
الرفاه ثم حزب الفضيلة المنبثق عنه في التعامل مع الشأن الداخلي التركي؟
كلمة السر في إنجازات حزب العدالة تنبع دائمًا من النمط التدريجي الذي اتَّبعه حزب
العدالة في جميع استراتيجياته، وهذا ما فعله لإخراج الجيش التركي من السياسة، فتم
انتزاع صلاحيات الجيش في المسائل الأمنية، وتم تقليص عدد العسكر داخل مجلس الأمن
القومي إلى خمسة مقابل تسعة مدنيين مع جعل قراراته غير ملزمة، كما جرى استخدام ورقة
مفاوضات الالتحاق بالاتحاد الأوروبي الذي يُلْزِم دُوَله بمعايير مدنية الدولة،
وغيرها من الإجراءات التي حَيَّدت الجيش في انحيازه للعلمانية، وجعلته جيشًا
محترفًا يتفرغ للمهمات العسكرية الخارجية التي تُكلّفه بها القيادة السياسية.
- أما في ملف الدِّين؛ فلم يرفع حزب العدالة شعارات الدين والإسلام في بداية حكمه؛
حيث ركَّز على تفكيك مبادئ العلمانية المتوحشة إلى علمانية متصالحة مع الدين، ثم مع
عام 2015م بدأ بعدها الحزب يركّز على البُعد الديني وعودة الهوية الأصيلة للشعب
التركي، ثم تضاعفت هذه الجرأة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016م.
كانت أهم الإجراءات التي اتخذها حزب العدالة، تفعيل دور المساجد عبر أنشطة دينية
وثقافية متنوعة تُغطّي أيام السنة، وزيادة مساحة المواد الدينية بالمدارس التركية،
وإقامة مصليات للتلاميذ والطلبة داخل المدراس والجامعات، ومنها العناية الكبيرة
بمدارس الأئمة والخطباء والمرشدين، وتشجيع الطلاب على الإقبال عليها وعلى التعلم
فيها.
كما تم رفع الحظر عن الحجاب، والسماح بظهوره في البرلمان والحكومة وشاشات الإعلام
والجامعات والمحاكم، ثم مؤسسة الشرطة والجيش وباقي المؤسسات الحكومية، وعمدت
الحكومة إلى إقامة المصليات وقاعة الصلاة بالثكنات العسكرية ومراكز الشرطة وتدريب
رجال الأمن على السُّبُل المثلى في التعامل مع المواطنين، ... وغيرها من الإجراءات
التي شجَّعت على عودة الدين إلى الحياة الاجتماعية والسياسية في تركيا.
كذلك نجح حزب العدالة في توسيع تحالفاته السياسية، فضمَّ إلى هذا التحالف حزب
الحركة القومية التركي بزعامة دولت بهجلي، والحزب مُؤسَّس على الهوية التركية
القومية؛ حيث جرى تأسيسه عام 1969م وترأسه ألب أرسلان توركيش.
ويُعرف الحزب بمواقفه المتشددة من كل ما يُعتَبر أنه يمسّ الهوية التركية والبُعْد
القومي، ولذلك فهو على طول الخطّ ضد عملية السلام مع الأكراد، ولكنَّ الحزب لا
يَرفض الهوية الإسلامية باعتبارها مكونًا أصيلاً في الثقافة التركية.
وهناك مفاوضات يُجريها حزب العدالة ليضمّ إلى صفوفه حزب الدعوة الحرة الذي يُعرَف
اختصارًا في اللغة التركية بحزب الهدى، وهو حزب كردي إسلامي التَّوجُّه، يؤكّد على
أنه منفتح على جميع الأعراق المكوّنة للنسيج التركي، وشارك الحزب في الانتخابات
البلدية بتركيا عام 2014م، وحصل على 7,8% من الأصوات، وفي الانتخابات الرئاسية
السابقة دعم الحزب وكتلته التصويتية الكردية أردوغان وحزبه.
ويصف يوسف كابلان، الكاتب بصحيفة
«يني
شفق»
التركية اليومية، المؤيدة لأردوغان، هذا الحزب بأنه مصدر فخر للمسلمين، ويمثّل صمام
أمان في المنطقة.
ولكن في مواجهة أردوغان وحزبه تحالفت أحزاب المعارضة بأطيافها المختلفة حتى
الإسلامية منها، في تحالف أطلق عليه أحزاب
«الطاولة
السداسية».
في مواجهة تحالف حزب العدالة
الطاولة السداسية، أو تحالف الأمة؛ هو تحالف سياسي يضم 6 أحزاب تركية معارضة من
خلفيات مختلفة ومتنوعة، وهي: الشعب الجمهوري والجيد و«الرفاه
والتقدم»
والمستقبل والسعادة والديمقراطي، تأسس في فبراير 2022م لخوض انتخابات 2023م، في
مواجهة ما يُعرَف بتحالف الجمهور الذي يضم حزبي العدالة والتنمية الحاكم بزعامة رجب
طيب أردوغان، وحليفه حزب الحركة القومية التركية، بزعامة دولت بهجلي.
ويتشكل تحالف الطاولة السداسية من ثلاثة تيارات فكرية وسياسية متباينة، وهمّها
الوحيد هو إسقاط حكومة حزب العدالة.
أقوى هذه التيارات، هو التيار التغريبي العلماني، الذي يمثله حزب الشعب الجمهوري
الذي أسَّسه مصطفى كمال أتاتورك وتزعمه في عام 1923م، حتى قبل أن يعلن قيام
الجمهورية التركية. ويرأسه الآن كمال كليجدار أوغلو، وهو ينتمي إلى الطائفة العلوية
في تركيا، وأجمعت المعارضة على ترشيحه في مواجهة أردوغان.
هذا الحزب يَعتبر نفسه ممثلاً للأفكار العلمانية التي أتى بها كمال أتاتورك، وقد
سميت تلك الأفكار بالكمالية، ويعني بها العلمانية المتوحشة، والتي ترفض الإسلام
وتحارب أيّ مظاهر له سواء في السياسة أو في المجتمع، ولكن عقب الانقلاب الفاشل في
2016م، وعد رئيسه كمال كليجدار أوغلو باحتضان كافة شرائح المجتمع مهما كانت أفكارهم
وتوجهاتهم، ووجه علنًا اعتذارًا رسميًّا باسم حزبه للشريحة المُحافِظة وللمحجبات
على أخطاء الماضي، طالبًا منهم السماح.
ومع ذلك ظلّ الجدال في الداخل التركي، هل تراجع الحزب تكتيكيًّا لاجتذاب الشريحة
المتدينة في المجتمع التركي؟ أم أنه يوجد تحوّل فكري بالفعل؟ ولكنَّ تراجع الحزب عن
تلك العلمانية المتوحشة ليس له دلالة إلا أنه أكبر دليل على نجاح جهود حزب العدالة
والتنمية طيلة العشرين عامًا الماضية في تغيير توجهات المجتمع التركي؛ سواء على
صعيد الحالة الشعبية أو الحزبية.
أما التيار الثاني، فهو تيار قومي، ويمثله حزب الجيد وأسَّسته ميرال أكشنار بعد
انشقاقها من حزب الحركة القومية سنة 2017م، ولا يُعرَف مدى تأثير هذا الحزب في
الشارع التركي؛ حيث لم يُختَبر بعدُ في أيّ انتخابات، بالرغم من أنه يضم في صفوفه
خمسة نواب في البرلمان التركي منشقين عن التيار القومي وحزب الشعب.
أما التيار الثالث في تحالف الأمة فهو تيار إسلامي، ويضم أحزابًا لا تختلف في
فِكْرها عن حزب العدالة، ولكنها اختلفت معه في الاستراتيجيات أو لأمور شخصية بينها
وبين أردوغان، فمنها حزب السعادة، وهو حزب سياسي تركي إسلامي، انبثق عام 2001م عن
حزب الفضيلة الإسلامي الذي حلته السلطات التركية، وهو يسير على منهج زعيمه التاريخي
نجم الدين أربكان، وقد فشل في دخول البرلمان بمعظم الانتخابات التي خاضها، ولم
يتمكن من كسر هذه القاعدة إلا عام 2018م.
أما الحزب الإسلامي الثاني فهو حزب المستقبل بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود
أوغلو، وقد أسَّسه الرجل عام 2019م، بعد أن كان المُنظِّر الأيديولوجي لحزب
العدالة، وواضع استراتيجياته في الصعود بكتابه الشهير
«العمق
الاستراتيجي»،
وقد غادَر الحزب بعد اتهامه لأردوغان بالديكتاتورية، وبالانحراف عن المبادئ التي
تمَّ تأسيس الحزب عليها.
ولم يتم اختبار شعبية هذا الحزب ولا ثِقَله في الشارع التركي بعدُ؛ حيث ستكون
الانتخابات القادمة هي العامل الحاسم في ذلك الأمر.
والحزب الثالث هو حزب الديمقراطية والتقدم، والذَّي أسَّسه نائب رئيس الوزراء
السابق علي باباجان عام 2020م، وهو أيضًا منشق عن حزب العدالة بعد أن كان وزيرًا
للخارجية ووزيرًا للاقتصاد وكبير المفاوضين في محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد
الأوروبي، وبرنامجه المعلن لا يوجد فيه شيء ينبئ عن أيديولوجيته، بل يتضمَّن شعارات
عامة مثل أنه سيعمل على تعزيز حكم القانون، وحرية الصحافة، والنظام البرلماني،
وحقوق المرأة، والانتقال إلى جيش محترف، وحلّ المشكلة الكردية، وحلّ مشكلة
اللاجئين. ولا يُعرف بعدُ حجم شعبيته فلم يُختبر في أيّ انتخابات بعدُ.
الزلزال
رصدت وكالة الأنباء الألمانية آخر تحديث لخسائر تركيا من الزلزال، الذي خلَّف وراءه
أرقامًا مرعبة؛ فهناك ما لا يقل عن 50 ألف قتيل، و214 ألف مبنى منهار أو آيل
للسقوط، وإحدى عشرة مدينة مُدمّرة بالكامل في تركيا وحدها، بينما تضرَّر حوالي 14
مليون شخص، أي سدس سكان البلاد.
بينما تتوقع ممثلة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تركيا لويزا فينتون، بأن
تتجاوز خسائر الزلازل التي ضربت جنوبي تركيا 100 مليار دولار.
فإذا كانت هذه الخسائر في المجال الإنساني، فما هي تداعياته على السياسة في تركيا؟
هناك روايتان للاستغلال السياسي للحدث؛ فالأولى تقولها المعارضة، ومفادها أن
الحكومة تقاعست وأهملت وتسبَّبت في الكارثة؛ وعليها أن تدفع الثمن في صندوق
الانتخابات.
بينما الرواية للثانية ترددها الحكومة من أن الزلزال أكبر من قدرة أيّ حكومة أو
دولة على مواجهته، ولذلك فإن هناك عدة عوامل ينبغي اختبارها:
أولها: هو عامل الإهمال الحكومي، فإذا كان وقوع الزلزال من الأعمال التي لا يستطيع
أحد من البشر أن يتسبّب في حدوثها؛ فمن الطبيعي ألا تتحمَّل أيّ حكومة مسؤولية
حدوثه، ولكن الذي تتحمَّله هو حجم الخسائر، خاصةً إذا كانت ناجمةً عن إهمال أو
تقاعس في مراقبة تطبيق الاشتراطات الخاصة للمباني في أراضٍ معروف عنها أنها داخلة
في الحزام التاريخي للزلازل.
لذلك فإن الأسباب التي تم الكشف عنها للدمار الهائل جراء استخدام مواد غير صالحة من
جانب المقاولين، أوجدت جوًّا من عدم الثقة تجاه النظام التركي الحاكم من حيث عدم
التصدي للفساد، ولذلك سارعت الحكومة إلى توقيف قرابة 200 مقاول في المناطق التي
ضربها الزلزال.
ثاني هذه العوامل هو أعمال الإغاثة التي صاحَبت الزلزال؛ فالمعارضة تتَّهم الحكومة
بأن إجراءات الإغاثة لم تكن على النحو المطلوب، وتحدَّث الرئيس التركي نفسه عن حصول
إرباك وتأخُّر في اليومين الأولين، ولكن لا يستطيع أحد إنكار وصول عدد من الوزراء
يتقدمهم نائب الرئيس فؤاد أوكتاي للمنطقة منذ الساعات الأولى للزلزال لإدارة وتنسيق
عمليات الإنقاذ، في مشهد مختلف تمامًا عن أداء الدولة بعد زلزال 1999م، وقبل وصول
حزب العدالة للحكم.
العامل الاقتصادي هو بلا شك مطروح بشدة، فاذا كان الاقتصاد التركي يعاني بشدة من
قبل الزلزال، فإنه بلا شك سيتضاعف حجم الأعباء الناجمة عن خسائر الزلزال والتي
تُقدّرها الأمم المتحدة بـ100 مليار، وتقدّرها الحكومة ب 1000 مليار، ولكنَّ تداعي
كثير من الدول، وخاصةً الخليجية، إلى تقديم مساعدات عينية وأموال على شكل ودائع تم
إيداعها في الاحتياطي التركي، فإن ذلك يصبّ في مصلحة الحكومة.
التنافس داخل صفوف المعارضة، يعتبر عاملاً مُصاحبًا للزلزال، فبالرغم من تداعياته
فإن اجتماع الطاولة السداسية كاد أن ينهار، بعد خلاف بين أقطابه حول شخص كمال
كليجدار، ويستغله حزب العدالة في الترويج بأنَّ المعارضة ليست على مستوى الحدث.
الخلاصة، أن القدرة السياسية لأطراف الصراع في علم السياسة تعتمد على مدى قدرة أي
طرف فيه على تحويل الأزمات إلى فرصة، لا الاستسلام لتكون فيها هزيمته.
ومن هنا نتساءل: أي الأطراف السياسية المتصارعة في تركيا ستستثمر هذا الزلزال ليكون
فرصة وليس هزيمة لها؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.