التمويل الأجنبي... أهدافه، وسائله، مواجهته

التمويل الأجنبي... أهدافه، وسائله، مواجهته


تمهيد: التمويل الأجنبي والصراع الحضاري:

تتعدد مداخل التعامل مع التمويل الأجنبي، وهذا التعدد له دلالته في تعدد الأبعاد المتعلقة بالموضوع. والأمر كله يصبُّ في أهمية هذا الموضوع. على أن البعد الرئيسي في موضوع التمويل الأجنبي هو المتعلق بالصراع الحضاري، أي الصراع بين هويات الأمم (الدينية والفكرية والثقافية). ومع محورية الصراع الحضاري في التمويل الأجنبي إلا أنه ليس العامل الوحيد؛ وإنما معه عوامل أخرى تتفاوت في درجة أهميتها.

أولاً: إشكالية الخفاء في التمويل الأجنبي:

الإشكالية مع التمويل الأجنبي هي الخفاء الذي يحيط به ويكتنفه. إننا على يقين تام أن التمويل الأجنبي موجود؛ موجود في أحداث معينة أو في توجهات فكرية معينة، وبالرغم من يقينية أنه موجود إلا أن الإمساك به قد يكون متعذراً، الإمساك به من خلال مستندات بحثية أو اعترافات من المشتغلين به أو المستفيدين منه، أو اعترافات من الدول المصدرة والموظفة له، وكذلك من آثارٍ (سلبية) ترتبت عليه. إشكالية الخفاء في التمويل الأجنبي صعَّبت دراسته مستندياً، وإحصائياً وأهدافاً، ومصدراً ومستقبلاً.

ثانيا: أهداف التمويل الأجنبي:

التمويل الأجنبي نوع من الحرب تشنه دولة ضد دولة أخرى، وأي حرب لها أهدافها. وأهداف حرب التمويل الأجنبي يمكن ذكر بعضها في ما يلي:

1 - أهداف دينية للتمويل الأجنبي:

التمويل الأجنبي لأهداف دينية قد يكون أقدم أهداف هذا التمويل، وهو أخطرها؛ إنه يستهدف أن يصيب المستهدَفين في دينهم. وتتعدد الوسائل لتحقيق هذا الهدف، منها: المساعدة المباشرة للمؤسسات الدينية التي هي على شاكلة دين المموِّل، ومنها إضعاف المعتقدات الدينية للمستهدَفين بالتمويل، وقد يصل الأمر إلى وقوع حرب عسكرية ضد المستهدَفين بالتمويل.

2 - أهداف حضارية للتمويل الأجنبي:

قد تستهدف الدول التي تقوم بالتمويل الأجنبي وترعاه تحقيقَ أهداف تتعلق بنشر حضارتها وقيمها الثقافية والاجتماعية. والدول المستهدَفة بهذا التمويل قد تكون دولاً ضعيفة بالنسبة للدولة التي ترعى التمويل الأجنبي وتقوم به، كما قد تكون دولة كبيرة تتصارع مع الدولة التي ترعى التمويل الأجنبي وتدفع له.

3 - أهداف سياسية للتمويل الأجنبي:

التمويل الأجنبي لأهدف دينية أو أهداف حضارية يحقق للدولة التي تقوم به وترعاه أهدافاً سياسية، وقد تكون هذه الأهداف السياسية مقصودة بذاتها. وتتمثل هذه الأهداف في جعل الدولة المستهدَفة بالتمويل الأجنبي تؤيد الدولة المموِّلة لهذا التمويل في مواقفها وصراعاتها السياسية على مستوى العالم.

4 - أهداف اقتصادية للتمويل الأجنبي:

تتمثل الأهداف الاقتصادية للتمويل الأجنبي في جعل اقتصاد الدولة المستهدَفة بالتمويل تابعاً للدولة المموِّلة تبعية صريحة أو ضمنية، كما قد يستهدف زرع مراكز خارجية لمحاباة التعامل مع اقتصاد الدولة الممولة.

5 - أهداف مذهبية للتمويل الأجنبي:

تتمثل هذه الأهداف في أن الدولة التي ترعى التمويل الأجنبي وتقوم به، تعمل على نشر مذهبها الاقتصادي. والصورة المشهورة لهذا النوع من الأهداف وجدت في الصراع بين الاتحاد السوفييتى (سابقاً) بنظامه الاشتراكي والولايات المتحدة الأمريكية بنظامها الرأسمالي. كما أن هذا النوع من الأهداف يوجد الآن عند الدول التي تعمل على فرض العولمة الرأسمالية على العالم.

ثالثاً: من وسائل التمويل الأجنبي:

للتمويل الأجنبي وسائله المتعددة، والأمانة العلمية تُلزِم أن أشير إلى أن التمويل الأجنبي يعمل عادة (أو غالباً) من خلال وسائل غير مرئية، لكن توجد وسائل مرئية، ومن هذه الوسائل المرئية:

1 - المؤسسات التعليمية:

(المدارس والمعاهد والجامعات): المؤسسات التعليمية واحدة من أخطر الوسائل لأنها تضرب الدولة المستهدَفة في مقتل من خلال المؤسسات التعليمية، ويتحقق ذلك بتخريج أجيال وراء أجيال من المتعلمين يؤمنون بثقافة الدولة التي تقوم بالتمويل؛ بل ويعملون على نشر قيمها الاجتماعية حتى ولو كانت على نقيض قيم الدولة المستهدَفة بالتمويل الأجنبي، وهي عادة ما تكون على هذا النحو.

2 - المنح التدريبية:

هذا النوع من التمويل الأجنبي يتكامل مع النوع الأول وهو المؤسسات التعليمية (مدارس ومعاهد وجامعات). والتمييز بين الوسيلتين من وسائل التمويل الأجنبي هو أن المؤسسات التعليمية تتم داخل الدولة المستهدَفة بالتمويل الأجنبي أما المنح التدريبية فإنها تتم خارج الدولة المستهدَفة بالتمويل الأجنبي. ومن خفاء التمويل الأجنبي في المنح التدريبية أنه قد لا يتم في الدولة الممولة للتمويل الأجنبي؛ وإنما قد يتم في دولة أخرى بارتباطات بين هذه الدولة والدولة الممولة للتمويل الأجنبي. وتُثبِت الأحداث الجارية اتساع الِمنَح التدريبية على أنها وسيلة من وسائل التمويل الأجنبي؛ بل إن الأحداث تثبت درجة خطورة عالية فيه. قد تكون الخطورة السياسية واضحة في المنح التدريبية، ولكن الخطورة الدينية والحضارية من حيث الارتباط بالدين، ومن حيث نزع القيم الحضارية الأصلية للمتدربين هي الأكثر خطورة في المدى البعيد.

من العناصر التي تزيد من خطورة المنح التدريبية: أن أجهزة الدولة المستهدفة بالتمويل الأجنبي لا تكون - غالباً - طرفاً في هذه العملية؛ وإنما يتم ذلك باتصال مباشر بين أجهزة الدولة الممولة للتمويل الأجنبي والأفراد في الدولة المستهدفة بالتمويل الأجنبي.

3 - منظمات المجتمع المدني:

الوسيلة الثالثة من حيث خطورتها في ما يتعلق بالتمويل الأجنبي هي منظمات المجتمع المدني. والخطورة في هذه المنظمات أن أهداف التمويل الأجنبي من خلالها قد تكون غير معلنة؛ أي أنها خافية. وتزيد الخطورة إذا عرفنا أن منظمات المجتمع المدني تتخفى في رداء حقوق الإنسان أو في رداء أهداف اجتماعية، وكل هذا ذو وجهين. على أن الأمانة العلمية تُلزِم بالإشارة إلى أنه ليست كل منظمات المجتمع المدني مخترقة بالتمويل الأجنبي، إن فيها منظمات وطنية وفي أعلى درجات الوطنية، بل إن فيها منظمات لمقاومة الاختراق الأجنبي من خلال التمويل أو من خلال غيره.

4 - أجهزة الإعلام:

لا يلزم بالضرورة أن يكون التمويل الأجنبي من خلال ضخ أموال في داخل الدولة المستهدَفة بهذا التمويل؛ وإنما يمكن أن يتم ذلك من خلال (ضخ) أفكار وقيم وعادات الدولة الممولة للتمويل الأجنبي ويمكن أن يتم ذلك من خلال وسائل كثيرة منها أجهزة الإعلام؛ وخاصة القنوات الفضائية التي اخترقت كل الحواجز.

5 - وسائل ثورة المعلوماتية:

الثورة المعلوماتية تعمل على جميع مجالات الحياة (الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية). وهذه الثورة لها وسائلها من خلال شبكة المعلومات الدولية. ومن خلال المواقع على هذه الشبكة يمكن الوصول إلى أفراد وقِطاعات عريضة داخل الدولة المستهدَفة بالتمويل الأجنبي.

من مكامن الخطر في وسائل الثورة المعلوماتية أنها لها جاذبيتها؛ حيث تمثِّل آخر أشكال التطور التقني، وبسبب ذلك فإن الكل يسعى بحرص على اكتساب معارف ومهارات عن وسائل الثورة المعلوماتية.

كذلك من مكامن الخطر في وسائل الثورة المعلوماتية أن الدولة لا تستيطع منعها أو السيطرة عليها.

رابعاً: من وسائل المواجهة الحقيقة والحاسمة للتمويل الأجنبي: ثقافة المقاومة:

مواجهة التمويل من حيث أهدافُه ومن حيث وسائلُه ومن حيث آثارُه، لها وسائلها المتعددة؛ وهي وسائل تعليمية وتربوية واقتصادية وسياسية وتمويلية. وسوف أعرض ما أعتبره وسيلة محورية لمواجهة التمويل الأجنبي وهي ما أسميه ثقافة المقاومة.

تعني ثقافة المقاومة أن يربَّى أفراد المجتمع على مقاومة الخطر الخارجي أيّاً كان شكله (دينياً أو عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً).

1- تتضمن هذه التربية أنه لا يمكن تحقيق أي نوع من التقدم أو الحفاظ على أي تقدم تم إنجازه إلا بتسليح أفراد المجتمع بثقافة تجعله يقاوم الخطر الخارجي أيّاً كانت الصورة التي يأخذها هذا الخطر: تدخُّل عسكري، أو تدخُّل سياسي، أو تدخُّل اقتصادي، أو تدخُّل ثقافي تربوي من خلال التمويل الأجنبي أو غيره.

2- يدخل في ثقافة المقاومة أن التسليم الجزئي للأجنبي - ولو جاء هذا التسليم بقبول غطاء خفي وهو التمويل الأجنبي لأهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تربوية - إنما هو نوع من هذه الأهداف سوف يؤدي - بالحتم - إلى قبول ما هو أسوأ حتى يصل الأمر إلى قبول التدخل العسكري.

3- يدخل في ثقافة المقاومة أيضاً التربية على أن الهروب من المواجهة لن ينجي الهارب ومن ثَمَّ لن ينجي وطنه.

4- يدخل في ثقافة المقاومة قبول التضحية، وتتدرج التضحية حتى تصل إلى التضحية بالنفس وتجيء تبعاً التضحية بالمال في صورة قبول تمويل أجنبي.

5- المؤسسات المسؤولة عن التربية على ثقافة المقاومة متعددة، تبدأ هذه المؤسسات بالأسرة وفيها المسجد، والمدرسة، والمؤسسة الإعلامية، بكل تنوعاتها، ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية. بل إن الفرد نفسه يصبح مسؤولاً عن تعليم نفسه ثقافة المقاومة وتدريب نفسه على ذلك.

6- للإسلام منهجة في ثقافة المقاومة. وأهم ما أستطيع تقديمه من عناصر هذه الثقافة يُجمَع في التالي:

تبدأ ثقافة المقاومة الإسلامية بالتربية العقيدية، وهذه التربية تجد كلَّ عناصرها في الفترة التي قضاها المسلمون في مكة المكرمة. التربية العقيدية مثَّلَت حجر الأساس في غرس ثقافة المقاومة عند المسلمين. أهم نتائج التربية العقيدية على ثقافة المقاومة للفترة التي عاشها المسلمون في مكة المكرمة أنها ربَّتهم على الصمود والثبات على الحق.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عناصر ثقافة المقاومة الإسلامية. ومن الخطأ أن يقتصر عمل ذلك على العمل الداخلي؛ وإنما يمتد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى المجالات الخارجية. فمثلاً: الذين أتيح لهم أن يكونوا مسيطرين على أجهزة الإعلام في عالمنا الإسلامي أو يعملون بها عليهم واجب أن يجهروا بالحق في وجه الخطر الخارجي في صورة تمويل أجنبي أو غيره؛ إن هذا الأمر هو تدعيم لثقافة المقاومة عند الأمة الإسلامية.

يربي الإسلام المسلم على التضحية ولو وصل الأمر إلى حدِّ التضحية بالنفس. يقول الله - سبحانه وتعالى -: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْـجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، هذه الأيه الكريمة تربي المسلم على التضحية بالنفس، والتربية على التضحية بالنفس أقوى أنواع التربية على ثقافة المقاومة، والتضحية بالنفس أعلى صور التضحية ويهون بجوارها التضحية بالتمويل الأجنبي.

كلمة خاتمة عن قيمة ثقافة المقاومة:

إذا لم تتعلم الأمة ثقافة المقاومة وتمارسها ممارسة كاملة فلن يؤمَّل تحقيق أي نوع من المقاومة سواء للتمويل الأجنبي أو لغيره.

أعلى