وللأتراك أهداف من انخراطهم في التفاوض المباشر مع نظام بشار، ولو كانت مثيرة لحفيظة كثير من السوريين الغاضبين على الأرض، والذين ورثوا تركة ثقيلة جدًّا من المعاناة والألم والقهر.
ما بين الاندهاش والإحباط؛ يُتابع السوريون أنباء المباحثات المستمرة بين الحكومة
التركية ونظام بشار الأسد؛ فبعض ما يرشح عن تلك المفاوضات يمنح اللاجئين السوريين
في بعض الدول، خصوصًا تركيا، بصيص أمل، وبعضه يثير القلق، والانزعاج أحيانًا.
وفي الوسط يطغى أو يخبو الخطاب العاطفي الجماهيري، فكيف يستسيغ أردوغان أن يضع يده
في يد سفاح؛ كما ظل يقول نظامه على مدى سنوات الثورة الفائتة؟ أو هكذا يتردد في
مجالس السوريين وغير السوريين. وهكذا تصدح بها أصوات الجماهير الهادرة في إدلب،
وريف حلب
«المحررتين»:
«لن
نُصالح.. لن نصالح»،
أو تفيض بها وسائل تواصلهم في أوسمتها:
«سنُعيدها
سيرتها الأولى.. لن نُصالح.. نَفْنى ولا يحكمنا الأسد»..
تُسمع أصوات إطلاق الرصاص بين الفينة والأخرى لتحصد جنود ميليشيا بشار؛ رافضةً مبدأ
الجلوس مع القتلة.
أكثر ما يفجّر الغضب عند السوريين في
«المحرر»،
أو خارجه أن يقال: إن تلك المناطق ستعود لنظام بشار مرة أخرى، أو أن تفاهمًا سيزيد
من ضغط النظام عليهم. لا يعيش الناقمون في الوهم، فثمة ما صدر بالفعل من العاصمة
التركية يشير إلى ذلك صراحةً. أما
«الوسيط»
الروسي فأكثر إجرامًا في نظرهم من الأسد. هذا المشهد للقاءاتٍ ثلاثيةٍ تضمّ طرفين
وَالِغين في الدم السوري قادرٌ على إفاضة بحور من الاستفزاز والحنق عند ملايين
السوريين في المهجر أو
«المحرر»
أو المستضعفين الصامتين قهرًا في الداخل تحت حكم نظام بشار.
لكنَّ آخرين يُقدّرون أن ذلك محض تعاطٍ عاطفيّ، يتعذر أن يكون تعبيرًا عن الحلّ
النهائي، أو ما ترجوه أنقرة من تلك المفاوضات واللقاءات؛ فمُحَال -بنظرهم- أن تبعد
أنقرة هواجسها من
«دولة
إرهابية لقسد الكردية»
بممحاة ميليشياوية إيرانية أو روسية، أو حتى من النظام السوري الضعيف نفسه غير
القادر على الاستغناء عن أيٍّ منهما. ومُحال أيضًا -في تصوّرهم- أن تقامر الحكومة
التركية بسُمعتها كراعية للثورة السورية وأهلها في المنطقة والعالم الإسلامي
برُمّته من أجل تأمين حدودها بشكل لا يوفّر حقيقة هذا التأمين. وفي تقديرهم أن خطاب
أردوغان عن ثنائية الأنصار (الأتراك) والمهاجرين (اللاجئين السوريين) الماضي قد آل
إلى شرعنة التقارب مع
«قريش»
ذاتها!
بل إن ما تسرَّب من داخل أروقة المفاوضات يَشِي بأنَّ لأنقرة تصوُّرها الذي قد
يُرْضِي اللاجئين والسوريين جميعًا. وأول ما قد بدا جليًّا في ذلك هي تلك القنبلة
الدخانية التي فجَّرها مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية التركي (أي: مستشار
أردوغان بصفته الحزبية)؛ ياسين أقطاي الذي قال في مداخلة تليفزيونية ما نصه:
«يجب
إعطاء حلب لتركيا لتكون تحت سيطرتها، وبشكل أدقّ يجب أن تكون تحت سيطرة الجيش الحر؛
لأن حلب كانت واحدة من أكبر المدن الحضارية في العهد العثماني بعد إسطنبول، وكانت
حلب مرجعًا مُهمًّا للهجرة (...)، وأعتقد أن على تركيا أن تطالب بحلب؛ فحلب هي
الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يُوضَع على الطاولة».
واستدرك أقطاي
«أن
ذلك ينبغي أن يكون بشكل مؤقَّت ليسمح بعودة مليوني سوري طوعًا إلى حلب».
وعلى الرغم من أن قناة الميادين -القريبة من إيران- قد نقلت عن أقطاي قوله:
«إنه
ليس من الضرورة أن تتسلم تركيا حلب، وأنه يمكن أن تقوم الأمم المتحدة بهذه المهمة،
وأن ما قاله بشأن حلب هو موقف شخصي وتحليل سياسي لا علاقة لحزب العدالة والتنمية أو
الحكومة التركية به»؛
إلا أن هناك معلومات ذكرها فؤاد عليكو عضو ائتلاف قوى المعارضة السورية في حوار
أجرته معه صحيفة يني شفق التركية تفيد بأن
«طريقًا
طويلاً قد قُطِعَ من الناحيتين السياسية والعسكرية بشأن السماح لتركيا بالإشراف على
حماة وحلب وإدلب. على أن تبدأ عودة أكثر من 3 ملايين مدني من تركيا وأوروبا إلى
حلب؛ مع انسحاب قوات النظام والميلشيات الشيعية من المنطقة».
ولقد توالت منذئذ العديد من التلميحات من جهة الأتراك وحلفائهم السوريين في
«المعارضة
السورية».
الخطة تتلخّص في أن تشرف تركيا على محافظة حلب وإدلب وحماة (في الشمال الغربي
والوسط)، وتساهم بقوة في إعادة إعمارها، وإعادة حلب مركزًا صناعيًّا وتجاريًّا
فريدًا. مع سيطرة قسد -التي تتمتع بحماية أمريكية- على الحسكة والرقة وريف دير
الزور (في الشمال الشرقي)، وتهيمن على المناطق النفطية الغنية وبعض المميزات الأخرى
الكثيرة في الشرق السوري. بينما روسيا ونظام الأسد والميليشيات الإيرانية تسيطر على
دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص ودير الزور (الجنوب والغرب)، وتظل السلطة بيدها دون
نزاع أو مقاومة؛ أي أنه سيُصَار إلى تقسيم سوريا بين مناطق نفوذ متوازنة نوعًا ما.
هذا في نظر المتفائلين
«نسبيًّا»
ليس سيئًا كمرحلة ابتدائية؛ يُمكن أن يُبْنَى عليها في تحرير كامل سوريا، وهو يسمح
بهدنة وفُسحة للتمدُّد التدريجي، وعرقلة لعملية التغيير الديموغرافي التي نفَّذتها
روسيا وإيران والنظام السوري ضد سُنَّة سوريا، بما أدَّى لهجرة 14 مليون سوري، أكثر
من نصفهم إلى خارج الحدود السورية.
والعذر الواضح لتركيا، أنها عاجزة عن تنفيذ تهديدها ببدء حملة برية في الشمال
الشرقي من سوريا، في مناطق نفوذ قسد
«الكردية»،
والتي أطلقته أنقرة أكثر من مرة، فَقُوبِلَ بمعارضة شديدة من واشنطن وموسكو اللتين
لا بد للأتراك أن يحظوا بموافقة ضمنية من أيّهما للشروع في حملة كهذه وَفْق
تقديرهم؛ فالحملة لا تتمتَّع بغطاء أُممي يمنع معاقبة تركيا دوليًّا عبر مجلس
الأمن، والحملة قد تجد نفسها وجهًا لوجه مع الجنود الأمريكيين (الشركاء في الناتو)؛
إذا لم تعقد مع قيادتهم تفاهمًا واضحًا.
إذن لم يبقَ إلا التلويح بالعملية لإكساب المفاوض التركي عنصر قوة لا أكثر، ولم
يبقَ كذلك لدى المفاوض من أوراق أخرى سوى عجز النظام السوري عن بَسْط نفوذه خارج
حدوده الحالية، وعدم رغبته عمليًّا في السيطرة على أراضٍ تنبعث منها الثورة، وتشعل
الوميض الكامن في رماد مناطق نفوذ النظام نفسه. والروس منشغلون بمستنقع أوكرانيا
وتمرد فاغنر أو تمدُّدها المضطرب في كل من ليبيا ومالي وغيرهما، والإيرانيون يعانون
من ثورتهم الداخلية التي يُخْشَى تفجّرها بشكل غير محسوب.
وللأتراك أهداف من انخراطهم في التفاوض المباشر مع نظام بشار، ولو كانت مثيرة
لحفيظة كثير من السوريين الغاضبين على الأرض، والذين ورثوا تركة ثقيلة جدًّا من
المعاناة والألم والقهر.. ومن بين تلك الأهداف:
1- وقف عمليات قسد،
لا سيما قبل الانتخابات الرئاسية التي يمكن للمنظمات الإرهابية الكردية (الأرمينية
قيادةً) أن تؤثر فيها أمنيًّا، ويفيد هو بها بتحقيق نَصْر معنوي يقوده إلى النجاح
مجددًا.
2- إنهاء شَبح التقسيم (التركي)
نهائيًّا باستغلال هذه الفترة الرخوة لتحقيق مكاسب سياسية في الشمال والشرق
السوريين.
3- الالتفاف على
«الفيتو»
الأمريكي ضد عملية برية تركية ضد قسد؛
حيث لا يمكنه بالتأكيد إدارة ظهره للأمريكان سياسيًّا، ولا التعرض لاحتمال مواجهة
بعض وحداتهم المساندة لقسد في شمال وشرق سوريا.
4- سحب البساط من تحت أرجل علويي تركيا النافذين في حزب الشعب المعارض،
والذي يقدم عرضًا سخيًا لبشار؛ نقله حسن أكجول ومحمد غوزال منصور من حزب الشعب
الجمهوري إلى بشار عبر حزب البعث، فطبقًا لمعلوماتٍ كشفت عنها صحيفة تركية في تقرير
لها، ورد فيه أن المذكورين قد بعثا إليه برسالة جاء فيها أن
«أيام
أردوغان معدودة، يمكن لأيّ مقابلة أن تؤثر على مستقبل الانتخابات، في ظل حكمنا،
سيتم تلبية جميع مطالب الإدارة السورية، بما في ذلك التعويض، ونحن نتعهَّد بسحب
جميع القوات من الأراضي السورية بما في ذلك إدلب».
5- إيجاد حل واقعي لمشكلة ملايين اللاجئين السوريين في تركيا،
والذين تتَّخذ المعارضة التركية من وجودهم ذريعةً للنَّيْل من شعبية الرئيس التركي
وحزبه الحاكم.
تأجلت الحملة البرية أو أُلغيت، وانخرط الأتراك في مفاوضات مع السوريين عبر الوسيط
الروسي، وعَيْن رئيسهم على الانتخابات الرئاسية التي يترقّبها العالم كله بلا
مبالغة، ولديه مرونة كبيرة في تقديم تنازلات مُؤلمة من أجل استكمال مشواره الذي
يراه مصيريًّا لنهضة تركيا وعبورها القنطرة
«الاستعمارية»؛
فمن أجل النجاح في الانتخابات يمكن إبرام اتفاق مُؤقّت، أو ربما حرق الوقت في تفاوض
متعثر رغبةً في مناورة الأحزاب المعارضة التركية ريثما تُجرَى الانتخابات.
كلا الأمرين مفهوم؛ أن يتقبل السوريون الموقف التركي وبراغماتيته لاعتبار أن
«السياسة
فن الممكن»،
وهذا هو الممكن والمتاح، أو يرفضونه لاعتباره إدارة ظَهْر للثورة السورية، وحلًّا
يضمن بدرجة ما، الوحدة التركية، والحيلولة دون امتداد عدوى التمرد الكردية -التي
يقودها أرمن في واقع الأمر- إلى الداخل التركي، وأخذًا للمصالح التركية لا كأولوية،
وإنما كخيار وحيد يتجاهل مصالح
«المهاجرين
السوريين»،
وتبدو على ذلك الصورة واضحة تمامًا أمام السائرين في طريق الحل ودَفْع الظلم الغاشم
من نظام بشار. لكنَّ ثمة نقطة عمياء لا تظهر في المرايا الثلاث، وهي السياسة التي
قادت إلى هذا الحَيّز الضيق الذي انحشر فيه الحراك السوري الهادر ضد نظام بشار.
لقد كان معلومًا أن المؤامرة على السوريين كبيرة ومتنوعة، اتَّحد فيها الشرق
الروسي/الإيراني مع الغرب الأمريكي الأوروبي، و«إسرائيل»
وأدواتها، وكان عدد من اللاعبين في المنطقة ضد رغبة السوريين في التحرُّر من رِبْقة
الحكم العلوي الطائفي البغيض، ولم يكن المخلصون لهذه الرغبة على ذاك المستوى من
التحدّي، ما سمح بتفتيت المقاومة السورية وأضعف فصائلها، واستبقى فيها كثيرًا من
الغلاة المشبوهين، ونحَّى أهل الوسط والاعتدال، وجرَّدهم من قُدُرات المقاومة شيئًا
فشيئًا، وأفسح المجال لاختراقها وحَرْفها عن مسارها؛ فانتقل الضعف هذا إلى اللاعب
التركي نفسه؛ فلم يعد يملك هامشًا واسعًا للتحرك والمناورة، وافتقر إلى العديد من
الأوراق التي كان يملكها سابقًا.
صحيحٌ أنه كان يسير على خيط رفيع يتحسب فيه من تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية
والروسية، ولم تكن هذه الخطوط لتسمح له بأكثر مما فعَل، لكنْ كان عليه أن يُغيّر
قواعد اللعبة تلك، ويخرج من زاوية قسد أو إيران أو الجولاني على حدوده. كانت بعض
الخيارات متاحة قبل تدمير حلب وبعدها، غير أن أيًّا منها لم يُتَّخذ بشكل سليم، ما
أدَّى إلى هذه الأزمة الأخيرة التي بقي فيها هامش المناورة محدودًا جدًّا، وخيَّم
الإظلام على مسار المقاومة السورية؛ فآلت إلى حكومتين ضعيفتين في إدلب وريف حلب؛
إحداهما خاضعة للجولاني، والأخرى لساسة ضعفاء لا يكادون يملكون من أمرهم شيئًا.
ولم تكن حملة برية في الشمال السوري لتنجح حتى في تأمين الحدود التركية؛ ما دام
الجميع قد التزم بقواعد لعبة رُسِمَتْ في واشنطن وموسكو وتل أبيب. ولهذا لربما كانت
مفاوضات اقتسام النفوذ التي تقود إلى إعادة إعمار حلب لتُشكّل مركزًا مهمًّا غير
خاضع لنظام بشار مُرضية كثيرًا للبعض، ومُحقِّقة للحد الأدنى المطلوب عند آخرين من
السوريين.. لكن تُرَى إلى أيّ سند سيتكأ عليه الأتراك والسوريون للحصول على هذا
التنازل من الأطراف الأخرى المسيطِرة على معظم مناطق وثروات سوريا سوى التلويح
بحملة برّية يدرك الجميع أنها باتت بعيدة عن التصور، على الأقل في ظل المعطيات
الحالية، وخصوصًا أن أيًّا من الأطراف الفاعلة في سوريا لا تريد تغييرًا كبيرًا على
الوضع الحالي؟