• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صراع حول الهيمنة الأمريكية

ويرى آخرون أن الهيمنة هي السيطرة على الدول الأقل قوة في النظام الدولي. بينما يُعرِّف البعض الهيمنة بأنها خليط من الإكراه والإقناع


هل ما يجري الآن في العالم يمكن اعتباره نهاية للعصر الأمريكي؟

كثير من الخبراء والمحللين يَعتبرون أن تحدّي بعض الدول للهيمنة الأمريكية ومزاحمتها اقتصاديًّا وعسكريًّا وجغرافيًّا، هو كَسْر لهذه الهيمنة.

وإذا كانت هذه الدول المتحدّية هي في الأصل قوى كبرى، فما بال الدول الأقل شأنًا والأقل استحواذًا على مؤهلات القوى الكبرى، والتي أصبحت ترفض الانصياع للتوجهات والأوامر الأمريكية.

حتى المفكرين في الداخل الأمريكي باتوا يشعرون بخطورة هذا الأمر؛ فأحد أكبر الاستراتيجيين في العالم وهو هنري كيسنجر يقول في إحدى محاضراته: «نحن -الولايات المتحدة- على شفير حرب مع روسيا والصين بشأن أمور كان لنا نصيب من أسباب نشأتها، وقد فَعلنا ذلك من غير تصوُّر عن عاقبة ذلك، ولا رؤية لما يُفترض أن تؤول إليه الأمور».

وهنا يُطرح التساؤل: هل جدير بنا أن نُعِدّ أنفسنا لمرحلة ما بعد نزول أمريكا عن قمة النظام العالمي؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب تحديد معايير الهيمنة في النظام الدولي، وخصائص التفرُّد والسيطرة على قمة هذا النظام، وبعد ذلك نحاول تطبيق تلك المعايير على الوضع الأمريكي الحالي؛ لكي نختبر هل فعلاً أمريكا قد نزلت عن القمة؟ أم هي على وشك النزول؟ أم أنها لازالت تتربّع على تلك القمة؟

معايير الهيمنة

اختلف خبراء العلاقات الدولية في وضع تعريف جامع شامل لمفهوم الهيمنة في العلاقات بين الدول، فعرّف بعضهم الهيمنة على أنها تفوُّق دولة عظمى في النظام الدولي؛ بحيث تضع هذه الدولة الأنماط والسلوك والقواعد التي تتَّبعها الدول الأخرى في هذا النظام.

ويُعرِّف عالِم السياسة روبرت كوهين الهيمنة على أنها «التفوق في الموارد المادية، وأن القوى المهيمنة لا بد أن تسيطر على كلٍّ من: المواد الخام ورأس المال والأسواق، ولا بد أن تحوز القوة المهيمنة على مميزات تنافسية في إنتاج بضائع عالية القيمة».

ويرى آخرون أن الهيمنة هي السيطرة على الدول الأقل قوة في النظام الدولي. بينما يُعرِّف البعض الهيمنة بأنها خليط من الإكراه والإقناع، والذي يُمكِّن دولة أو مجموعة من الفاعلين من وضع القواعد المُنظِّمة للتفاعلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مكانًا وزمانًا.

ويُلاحَظ أن هناك خلطًا لدى البعض بين مصطلحي الهيمنة والإمبراطورية، فالهيمنة لا بد فيها من تغيير سياسات الدول الأخرى في سبيل تحقيق أهداف الدولة المُهيمِنة، ويتم من خلالها ممارسة القوة بسياسات أكثر تعقيدًا من السلوك الإمبراطوري التوسعي؛ والذي يتضمَّن سيطرة مباشرة ورسمية، بينما الهيمنة تَستبعد مواقف الإدارة الرسمية والمباشرة على الحكومات الأجنبية؛ وبذلك يختلف مفهوم الهيمنة عن كافة أشكال الانتداب أو الاحتلال، وغيرها.

بناءً على ما سبق يمكن اعتبار أنَّ معايير اعتبار قوة أو دولة ذات هيمنة على النظام دولي تتلخص في عدة شروط؛ من أهمها:

أن تمتلك عنصري القوة الأخطر؛ وهما القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، فكلّ من القوة الاقتصادية والعسكرية يجب أن يتفوقا بمراحل على أيّ منافِس في العالم.

أن يكون لها الرغبة والقدرة على صُنْع ووضع معظم القواعد التي تَحكم السياسة العالمية والعلاقات الاقتصادية، بما فيها معظم المؤسسات الدولية.

أن يكون لها أيديولوجية ومنظومة فكرية تريد نَشْرها وفَرْضها على الدول والنظام الدولي.

حقيقة القوة العسكرية الأمريكية وفعاليتها

في آخر تصنيف لموقع غلوبال فاير باور، العسكري المتخصِّص والصادر في يناير من هذا العام ذكَر أنه لازالت الولايات المتحدة تحتلّ المركز الأول ترتيب دول العالم من حيث القوة العسكرية. ويعتمد تصنيف غلوبال فاير باور على مؤشر يستند إلى 50 عاملاً، وذلك اعتمادًا على حجم القوة العسكرية المعلنة، التي يمكن لكل دولة في العالم أن تستخدمها في الحرب البرية، أو البحرية، أو الجوية، باستخدام الأسلحة التقليدية، مع العلم بأن القدرات النووية غير مشمولة في التقييم.

وتتضمَّن هذه القوة العسكرية الذخيرة والعتاد والأسلحة الثقيلة، أو الإمكانيات المالية والقدرات اللوجستية والجغرافية لـ 140 دولة.

وتتضح حجم القوة العسكرية الأمريكية، عند مقارنتها بالقوة العسكرية لكل من الدولتين التي تليها في الترتيب العسكري؛ وهما: روسيا والصين.

فالجيش الأمريكي يحوز على 2085 مقاتلة، 715 طائرة هجومية، وأكثر من 6000 طائرة مروحية، و6289 دبابة، و39 ألف مركبة مدرعة، و91 مدمرة، و20 حاملة طائرات، و66 غواصة.

بينما يمتلك الجيش الروسي، أكثر من 4140 طائرة حربية بينها 789 مقاتلة، و742 طائرة هجومية، 1540 مروحية عسكرية، منها 538 مروحية هجومية.

ويحوز الجيش الروسي على 13 ألف دبابة؛ حيث يتفوق هنا بشكل كبير على نظيره الأمريكي، كما تمتلك روسيا أكثر من 27 ألف مدرعة، ومن حيث عدد المدافع يمتلك الجيش الروسي أكثر من 6540 مدفعًا ذاتي الحركة، وقرابة 4465 مدفعًا ميدانيًّا، و3860 راجمة صواريخ، في تفوق واضح على الولايات المتحدة أيضًا في هذا الجانب.

ومن حيث القوة البحرية يتكون الأسطول الروسي من 603 قِطَع بحرية؛ منها حاملة طائرات وحيدة، وهنا تتفوق الولايات المتحدة بقوة في هذا الجانب، كما يمتلك الجيش الروسي 64 غواصة، و11 فرقاطة و48 كاسحة ألغام.

أما الجيش الصيني فيمتلك أكثر من 3260 طائرة حربية، بينها 1200 مقاتلة، و371 طائرة هجومية، كما يمتلك 902 مروحية عسكرية، منها 327 مروحية هجومية.

وعلى صعيد الدبابات يمتلك الجيش الصيني 3205 دبابات، وأكثر من 35 ألف مدرعة، ومن حيث عدد المدافع يمتلك الجيش الصيني أكثر من 1970 مدفعًا ذاتي الحركة، وقرابة 1234 مدفعًا ميدانيًّا، و2250 راجمة صواريخ.

ومن حيث القوة البحرية يتكون الأسطول الصيني من 777 قطعة بحرية، منها حاملتان للطائرات، و79 غواصة، و50 مدمرة، و46 فرقاطة، و36 كاسحة ألغام.

وعلى صعيد القوة النووية يُعتقد أن جيش الولايات المتحدة يمتلك 3750 سلاحًا نوويًّا، في تقدم واضح وكبير على نظيره الصيني الذي يمتلك قرابة 350 سلاحًا نوويًّا، ولكن روسيا تمتلك العدد الأكثر من الأسلحة النووية في يومنا هذا، بـ6370 سلاحًا نوويًّا وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام.

أما من حيث عدد القوات، ففي حين يبلغ تعداد الجنود في الجيش الأمريكي مليون و400 ألف عسكري، 860 ألف جندي احتياط، يبلغ تعداد جنود الجيش الروسي في الخدمة 3.569 مليون جندي، إضافة إلى 2 مليون جندي في قوات الاحتياط، أما الصين فيبلغ تعداد جنود الجيش الصيني في الخدمة 3 ملايين و355 ألف جندي، إضافةً إلى 510 آلاف جندي في قوات الاحتياط.

ولكن حجم الانفاق العسكري يؤكد لنا مدى التفوق العسكري الأمريكي عالميًّا، ففي حين تصل ميزانية الدفاع الأمريكية إلى 750 مليار دولار، بينما الروسية 42 مليار دولار، والصينية 178 مليار دولار، وهذا الإنفاق هو الأكثر من إنفاق سبع دول مجتمعة من التي تليها مباشرةً في الترتيب العالمي العسكري.

وتجيب مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية في تقريرٍ لها نُشِرَ العام الماضي عن تساؤل: كيف تُصنَّف الولايات المتحدة على أنها أكبر قوة عسكرية في العالم؟ فتقول: إنها بالتأكيد ليست بالقوى البشرية؛ لأن هذا اللقب يخصُّ الصين، التي لديها 2.19 مليون جندي نشط، مقارنة بـ1.4 مليون جندي أمريكي.. وإنما الجواب يكمن في التكنولوجيا المتفوقة لدينا، وحجم الإنفاق العسكري.

هذا التصدر الأمريكي بدأ في أعقاب نهاية الحرب الثانية، واستمر حتى يومنا هذا.

ولكن في حين تم وصف الجيش الأمريكي في كثير من الأحيان مِن قِبَل مُحلِّلي الدفاع والمؤرخين العسكريين ورؤساء الولايات المتحدة على أنها القوة المسلحة الأكثر فتكًا في التاريخ، فإنَّ بعض مراكز الأبحاث الأمريكية تُشكِّك في فعالية تلك القوة، فمنذ شهرين وصف تقرير صادر عن مركز هيرتيدج فاونديشن اليميني، المحافظ الجيش الأمريكي بأنه ضعيفٌ، مُبرِّرًا ذلك بأن القوة العسكرية الأمريكية الحالية مُعرَّضة لخطرٍ كبيرٍ، يتمثل في عدم قدرتها على تلبية متطلبات صراع إقليمي واحد كبير. وربما لن تكون القوة قادرة على فِعْل المزيد، وهي بالتأكيد غير مُجهَّزة للتعامل مع نزاعين متزامنين.

وحسب التقرير: فقد ازدادت احتمالية اندلاع قتال على جبهتين، مع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتزايد شراسة الصين في المحيط الهادئ، معتبرًا أنه في المجمل، لا يمكن تصنيف الموقف العسكري للولايات المتحدة إلا على أنه ضعيف.

وقبل صدور هذا التقرير صدر عن مركز راند ومركز كارنيجي تقارير مشابهة تثبت التراجع العسكري الأمريكي، ويُلاحظ أن هذه التقارير تكثَّفت في السنوات الأخيرة في أعقاب وصول ترامب للحكم، ولكن إدارة بايدن الديمقراطية كان لها مسلك آخر إزاء هذا التراجع العسكري.

الاقتصاد الأمريكي

هيمنت الولايات المتحدة على العالم اقتصاديًّا عبر ثلاث أدوات، وبقاء هذه الأدوات يعني بقاء واستمرار هيمنة أمريكا الاقتصادية:

أول هذه الأدوات هي هيمنة العملة الأمريكية، وهي الدولار الأمريكي على نُظُم المدفوعات الدولية، وعلى الاحتياطيات النقدية العالمية، وعلى أسعار الصرف والقِيَم المُتبادَلة للعملات، ومن خلال ربط التجارة العالمية بالدولار.

ويكفي أن 40% من سوق الأسهم العالمية ما يزال مُقوَّمًا بالدولار الأمريكي، وهناك 39 دولة في العالم تعتمد الدولار عملة تعامل داخلية، كما أن هناك 32 دولة أخرى تربط عملتها المحلية بالدولار الأمريكي. وقد بلغ حجم التجارة العالمية عام 2021م ما يساوي 28.5 تريليون دولار، منها 88% تتم بالدولار، كما تقدر نسبة الاحتياطيات النقدية العالمية المرتبطة بالدولار الأمريكي 62%، ويأتي بعده اليورو الأوروبي بنسبة 21%0

ويسيطر الدولار الأمريكي على ما نسبته 40% من مجموع المدفوعات العالمية، وفي المقابل لا تزيد حصة اليوان الصيني عن 3.2% من تلك المدفوعات، رغم ما تَملكه الصين من فوائض مالية ضخمة، ورغم امتلاكها أكبر احتياطي نقدي في العالم.

أما الأداة الثانية للهيمنة الاقتصادية الأمريكية فهي الهيمنة على النظام المصرفي العالمي، وذلك من خلال نُظُم الائتمان ونُظُم الإقراض، مما جعل البنك الاحتياطي الأمريكي يُؤثِّر في العالم بقراراته وسياساته النقدية، كذلك السيطرة على نظام سويفت للتحويلات المالية، والذي يربط بين 11 ألف بنك ومؤسسة مالية حول العالم منتشرة في 200 دولة.

وهذا ما نفَّذته أمريكا بالفعل عندما طردت إيران من هذا النظام عام 2012م حتى عام 2016م، مما أدَّى إلى خسائر مالية ضخمة قُدِّرت بنحو 30% من تجاراتها الخارجية، ثم عادت الولايات المتحدة وطَبَّقت هذه السياسة ضد روسيا عام 2014م، بعد احتلالها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وكذلك عام 2022م، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

ويكفي أن نعرف أن البنوك غير الأمريكية في العالم كان لديها 27 تريليون دولار من الالتزامات الدولية مُقوَّمة بالعملات الأجنبية حتى عام 2021م، من بينها 18 تريليون دولار أمريكي، ففي مارس 2022م، كان كل ما تملكه البنوك المركزية في العالم نحو 6.8 تريليون (ألف مليار) دولار أمريكي، فيما كان ما تمتلكه من اليوان الصيني لا يزيد قيمته على 221 مليار دولار.

والأداة الثالثة للهيمنة الاقتصادية الأمريكية هي السيطرة على مؤسسات العمل الاقتصادي والمالي الدولي، وأهمها: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للتعمير والتنمية ومؤسسات التمويل التابعة له، وبنك التسويات الدولية، وأخيرًا منظمة التجارة العالمية.

لذلك عندما يتم تصنيف دول العالم اقتصاديًّا، والذي يتم على أساس معيار الناتج القومي؛ فلا تزال أمريكا تتصدّر دول العالم بناتج قومي يبلغ (22.9 تريليون دولار) نحو 25% من الناتج الاقتصادي العالمي في 2021م، أما الصين فتحتل المركز الثاني من حيث الناتج القومي، والذي بلغ نحو 17 تريليون دولار في 2021م، وإن مثَّلت الصين أكبر دولة مُصنِّعة في العالم.

الرغبة في الهيمنة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظل الهاجس الذي يسيطر على صانع الاستراتيجية الأمريكية، هو كيف تحافظ أمريكا على هيمنتها العالمية، وقد مارست استراتيجيات متعددة للحفاظ على تلك الهيمنة، كان من أبرزها: تفكيك القوة المنافسة لها؛ وهي الاتحاد السوفييتي باستراتيجية الاحتواء، الذي انهار عام 1990م، فيما أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق على هذا السقوط «نصر بلا حرب».

ولكنَّ المُتابِع للسياسات الأمريكية في السنوات الأخيرة يُلاحِظ أنَّ هناك ما بات يُمثِّل تراجعًا في الرغبة الأمريكية في الهيمنة على العالم؛ فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رفع طوال فترة رئاسته وقبلها أثناء دعايته الانتخابية شعار «أمريكا أولاً»، وترجم سياسته بإعلان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي، ومن اتفاقية باريس للمناخ التي وقَّعها سلفه أوباما، وهدَّد بعدم تنفيذ الولايات المتحدة تعهدها بالدفاع عن دول حلف شمال الأطلنطي، كما طالب بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية التي تجمع بلاده مع كلٍّ من المكسيك وكندا. كلّ هذه المؤشرات جعلت أحد حلفاء الولايات المتحدة وهي المستشارة الألمانية ميركل تتحدث عن أن أوروبا لم يَعُد بوُسْعها الاعتماد على الزعامة الأمريكية.

وهذا ما اتَّخذه الديمقراطيون ذريعةً لهم في الدعاية المضادة لترامب، الذي عمل على تقويض الزعامة الأمريكية في العالم، وكان أحد العوامل المؤثرة في إسقاطه.

الحرب الأوكرانية وتجديد الهيمنة الأمريكية

يُعدّ الغزو الروسي لأوكرانيا مؤشرًا مهمًّا على وَضْع الهيمنة الأمريكية العالمية.

ففي أعقاب وصول الإدارة الديمقراطية إلى سُدَّة الرئاسة في البيت الأبيض الأمريكي؛ شرعت في تنفيذ ما خطَّطت له لإعادة الهيبة الأمريكية وهيمنتها العالمية والتي تضررت صورتها في العقود السابقة؛ خاصةً أثناء فترة رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب.

في وثيقة الأمن القومي التي أعلنها البيت الأبيض في أعقاب تولي إدارة بايدن الرئاسة؛ تم ذِكْر الصين وروسيا باعتبارهما يُشكِّلان أكبر تَحدٍّ للزعامة الأمريكية، وان كانت الوثيقة قد ركَّزت على الصين باعتبارها التحدِّي الأكبر ثم يليها روسيا، ولذلك تم البدء بتحجيم الطرف الأقل خطورة وهو روسيا، وسلَّطت الوثيقة الضوء على مساعي روسيا لبسط نفوذها العالمي. وذهبت إلى اعتبار أن الدور الذي تلعبه روسيا هو دور مُزَعْزِع للاستقرار على المستوى الدولي، بما يقوِّض القوة الأمريكية، ويعمل على الحدِّ من قدرتها على الدفاع عن نفسها ومصالحها.

ولذلك فإن المتتبِّع لسيناريو ما جرى من غزو روسيا لأوكرانيا، يلاحظ أنه تم الإعداد له جيدًا من استدراج للدب الروسي في هذا المستنقع ليتم كسر مخالبه وطموحاته في الهيمنة.

ولقد تمَّ اختيار أوكرانيا بعناية، فهي محور جيوبوليتيكي مُهِمّ وحَرِج في الجغرافيا الاستراتيجية، والمصالح الجيوبوليتيكية لأمريكا في أوروبا وآسيا كما وصفه المُنَظِّر والسياسي الأمريكي الراحل زبغنيو بريجينسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الذي صدر عام 1997م.

وقد حدَّد بريجنيسكي في هذا الكتاب الذي صدر من 25 عامًا، خمسة لاعبين جيوسـتراتيجيين رئيسيين، وخمس دول محورية جيوبوليتيكية في الخريطة السياسية الجديدة لأوراسيا.

فاللاعبون الجيوستراتيجيون الرئيسيون هم: فرنسا، وألمانيا، وروسيا؛ والصين، والهند.

وبالنسبة للمحاور الثابتة الجيوبوليتيكية المهمة إلى حدٍّ حَرِج فهي: أوكرانيـا، وأذربيجان، وكوريا الجنوبية؛ وتركيا، وإيران.

ولقد سار على خطى بريجنيسكي الديمقراطيون حتى من قبل وصول إدارة بايدن للرئاسة.

فأثناء إدارة ترامب، صرَّح السيناتور الديمقراطي البارز آدم شيف خلال جلسة مساءلة الرئيس الأمريكي السابق ترامب في الثالث من فبراير عام 2020م، أي قبل الغزو الروسي بسنتين، قائلاً: نحن ندعم أوكرانيا وشعبها ليحاربوا روسيا هناك بالنيابة عنا، بدلاً من أن نحاربها هنا.

ثم جاءت نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند خلال جلسة استماع في الكونغرس في شهر مارس من هذا العام؛ أي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا بأسبوعين، لتقول فيها: إنَّ الولايات المتحدة ستسعى إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في أوكرانيا.

وأضافت نولاند: إن واشنطن وحلفاءها يُمِدُّون أوكرانيا بأسلحة تساعد على مواجهة الغزو الروسي، وبعدها في حديثٍ لقناة الجزيرة القطرية أكَّدت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي على هذا المعنى حين قالت: «إن النهاية الوحيدة المناسبة لهذه الحرب هي هزيمة القوات الروسية، فالتحالف الذي بَنيناه ضد روسيا عبر مختلف بقاع العالم بقي مُوحَّدًا»، مشيرة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يُواجه هزيمة استراتيجية بعد حرب وحشية شنَّها دون سببٍ.

معركة أوكرانيا في حقيقتها ليست فقط دولة غزت أراضي دولة أخرى، ولكنَّها صراع استراتيجي تُؤكّد فيه أمريكا صدارتها وهيمنتها العالمية، بينما تسعى روسيا لكسر ذلك الانفراد الأمريكي. وحتى الآن فإن الأمريكان يَخُوضون صراعهم بنجاحٍ خلاف معاركهم الفاشلة في العراق وأفغانستان وقبلها في فيتنام، وعلى ما يبدو فإن الولايات المتحدة على وشك تحقيق انتصارها وإثبات أنها لا زالت تتربع على القمة، ولم يَحِن الوقت بعدُ لانتهاء هذه الهيمنة، والتي هي آتيةٌ في يومٍ لا ريب فيه.

 


أعلى