الفقه التطبيقي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه، أما بعد:
فالفقه هو الحُكْم على
تصرفات الإنسان وأحواله وحركاته، بالمنع أو الإباحة أو الإلزام؛ ولذا فهو يدخل في
جميع مناحي الحياة، ويتغلغل في كل مجالاتها ومسالكها التي قد تَعرِض للإنسان، ومن
هناك كانت طبيعة الفقه التغيُّر والتطوُّر؛ فهو يتغيَّر في أحكامه المرتبطة بالنظر
المصلحي المقاصدي بتغيُّر المصالح، وفي أحكامه المبنيَّة على العرف باختلاف
الأعراف، وفي أحكامه المتعلقة بالذرائع بمدى قوة إيصالها لما هي ذريعة له، وفي
أحكامه المتعلقة بالتوسل بها لغيرها لانفرادها في التوصيل لمقصودها وقوة التوسل
بها، مع تجدُّده بطروء نوازل وحوادث لا نص على حكمها، أو لم يذكر المتقدمون الموقف
منها، وهذا كله يجعل الفقه ليس بالقالب الجامد الذي يمكن تقديمه بالصورة نفسها في
كل حين وزمن. كما أن طبيعة الفقه خضوعُه للاجتهاد المتفاوت بين البشر بحسب قدراتهم
الذهنية، وقواه الفكرية ومَلَكاتهم الغريزية؛ ولذا يختلف الفقهاء في حكم بعض
المسائل، ثم يتضح لبعضهم ما يوجب رجوعه عما قرره سابقاً.
وقد سبق لنا أن تناولنا
هذا الأمر مفصَّلاً في مقال سابق[1]، والمقصود: أن الفقه ليس
كقواعد علوم اللغة العربية التي لا يتغير حالها وأحكامها، ولما ذكر بعض أهل العلم
أقسام العلوم جعل منها: علماً نضج وهو الأصول والنحو[2]، قاصداً بذلك استقرارها؛
مع أن علوم اللغة - وهي نقل مجرد لطريقة العرب في الكلام - يَعرِض لها التجديد في
التسميات والتعليلات؛ ولذا يختلف المتقدمون عن المتأخرين في تسمية بعض الأبواب
وطريقة عرضها، فضلاً عن الموقف المعاصر من تعليلات المتقدمين في الإضمار المجعول
علَّة لانتصاب بعض الأفعال مثلاً[3]. وهذا الأمر لم يكن
غائباً عن فهم سلف هذه الأمة، وفقهاء الصدر الأول ومَنْ بعدَهم، وما تجدُّد
المؤلفات وتطوُّر المذاهب إلا أحد أفراد ما نتناوله. لهذا كله فقد ظهرت دعوات
كثيرة لتجديد الفقه لكنها دعوات يكتنفها عدة تساؤلات عن منهج هذا التجديد،
وضوابطه، وسبب الدعوة أصلاً، وتوجه القائل بها بين كونه مغرضاً أو مسدداً. ومع ذلك
فيتفق المهتمُّون على ضرورة تقديم فقه واقعي مناسب للحاضر والمستقبل المتوقع، وأن
الفقه أصبح في كثير من دُور العلم ومؤسساته صنعة متون تُحفَظ دون أن يكون منهج
حياة متكامل، يتواصل معها ويحيا معها، ويتطوَّر بتطورها كما كان عند السلف الصالح،
رحمهم الله.
وهذا أمر لا يختص به
الفقه وحدَه، بل يعيب بعض الباحثين أن كثيراً من العلماء في شتى علوم الحياة
يُبدُون قدرة مشهودة على تجاهل كلٍّ من الحاضر والمستقبل ويملؤون عقول الطلاب
بثقافة الماضي، ويدرِّسونهم ما لا يفيدون منه شيئاً إذا تركوا الدراسة؛ فيدرسون ما
لا يحتاجونه في الواقع ولا يلبي حاجاتهم[4]. وفي هذه الورقـات
نتنـاول ما نتطلع لوجوده قائماً من خلال توطئة تبيِّن الحاجة إلى وجود هذا الفقه
ثم موجِّهات ومعالم لهذا المطلب.
التوطئة:
لم يغب عن فهم سلف الأمة
أن الأحوال إذا تغيرت قد يتغير معها الحكم الشرعي، فرافع بن خديج - رضي الله عنه -
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كراء الأراضي[5] –وهو تأجيرها – ولما سئل
عن استئجارها بالنقود قال: (أما بالذهب والورِق فلا بأس به، إنما كان الناس
يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وإقبال الجداول، وأشياء
من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك
زجر عنه، فأما شي معلوم مضمون فلا بأس به)[6].
فقد فهم - رضي الله عنه -
حصول الفرق باختلاف الحال. والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر قسمها بين
المسلمين[7]، فلما فتحت العراق في
عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قالوا لعمر: اقسمه بيننا فإنا افتتحناه عنوة.
قال: فأبى، وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم
في المياه. ولم يقسم بينهم[8]. (وقد ألزم عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - من طلق زوجته ثلاثاً «بكلمة واحدة» بالثلاث، مع أنه كان
واحدة وقال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنَّا أمضيناه
عليهم، فأمضاه عليهم)[9]، وعائشة - رضي الله عنها
- قالت: (لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنَّ المساجد،
كما مُنِعه نساء بني إسرائيل)[10].
وحُكي عن ابن أبي زيد
القيرواني - رحمه الله - أن حائطاً انهدم من داره، وكان يخاف على نفسه، فاتخذ
كلباً للحراسة وربطه في داره، فلما قيل له: إن مالكاً يكره ذلك، قال لو أدرك مالكٌ
زمننا لا تخذ أسداً ضارياً[11]!
قال القرافي: (إن إجراء
الأحكام التي مُدركها العوائد مع تغيُّر تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في
الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد؛ يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى
ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه
أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها
من غير استئناف اجتهاد. ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذا أُطلِق فيها
الثمن يُحمَل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقداً معيَّناً حملنا الإطلاق
عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول،
لانتقال العادة عنه. وكذلك الإطلاق في الوصايا والإيمان وجميع أبواب الفقه
المحمولة على العوائد؛ إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب. وكذلك
الدعاوى إذا كان القول قول من ادَّعى شيئاً لأنه العادة، ثم تغيرت العادة: لم يبق
القول لمدعيه بل انعكس الحال فيه. بل ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من
ذلك البلد إلى بلدٍ آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادة
بلدهم، ولم نعتبر عادة البلد الذي كنا فيه. وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته
مضادة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلا بعادة بلده دون عادة بلدنا)[12].
ومعلوم أن الفقهاء تختلف
فتاواهم، فقد يرجع العالم عن رأي رآه لموجب يقتضي ذلك، ومن ذلك المذهب القديم
والجديد للشافعي رحمه الله. وكذلك تختلف طُرُقهم في نطاق كل مذهب في ترتيب كتب
وأبواب ومسائل الفقه؛ فيكون للمذهب ترتيب متَّبَع في زمن ثم يعدل عنه لغيره. وفي
كتب الفقه مصطلحات لأشياء كانت دارجة في زمن مؤلِّفها ثم تلاشت ولم تعد موجودة أو
تغيَّر اسمها، فالقلانس والبرانس والساباط والشاذروان والدنيَّات والنوميات غير
مستعملة لدى أكثر المسلمين، والمقادير المذكورة في كتب الفقه لا تستعمل في الأسواق
غالباً. وفي المقابل فكثير مما يقع بين المسلمين أو يَنشُدون معرفة حكمه لا يوجد
له ذكر في بيت الفقه إما مطلقاً أو على وجه التعيين الظاهر.
ولا غرابة في ذلك فغالب
هذه الكتب صُنِّف من عصور سابقة، بل لعل أكثر الكتب الفقهية التعليمية المعتمَدة
في المذاهب الأربعة قد أُلِّفت منذ قرابة سبعة قرون، وهي موضوعة في الأصل لاختصار
المسائل الكثيرة في اللفظ القصير توصلاً لتسهيل حفظها؛ ولذا فهي لا تكاد تُفهَم
وحدَها فتحتاج الى شرح والشرح محتاج لحاشية، وهي مع ذلك كله خِلْو من الاستدلال؛
فلا فرق بين من تعلَّم منها ومن لم يتعلم؛ إذ لا إدراك لدليل المسألة وملحظِ الحكم
فيها وحكمتِه[13]، مع ما يورث حفظها
وتكرارها من ضعف في الـمَلَكة اللغوية والمقدرة على حسن البيان وجمال التعبير[14]. ثم بعد ذلك فالـمَلَكة
الحاصلة من التعليم إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي مَلَكة قاصرة عن الملكات
التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة[15].
كل هذا وغيره جعل تجديد
الفقه أو تقديم الفقه العملي من المسائل المطروحة، التي يتفاوت فيها وصف العلاج
وتحديد الأسلوب باختلاف منزع المتكلم ونيته. وسأحاول هنا تقديم موجِّهات لهذا
الفقه التطبيقي المنشود، وهذه الموجِّهات تنقسم إلى ما يتعلق بالقائم بهذا الفقه،
وإلى ما يتعلق بالموضوع نفسه.
موجهات الفقه
التطبيقي:
1 - طبيعة القائم بتقديم الفقه:
فأول مَعْلَم لهـذا الفقه
أن يقدِّمَه فقيه النفس، حَسَن القصد.
وفقاهة النفس: صفة راسخه
تُعِين الإنسان على سرعة البديهة ومعرفة الحكم، الدالة على تمام الحذق في الفقه.
قال ابن خلدون: (الحذق في
العلم والتفنن فيه، والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول مَلَكَة في الإحاطة بمبادئة
وقواعده والوقوف على مسائله، واسنتباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة، لم
يكن الحذق في ذلك الفن)[16]. وهو أمر يحتاج للمران
وكثرة المدارسة؛ ولذا قال - تعالى -: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن
كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}
[التوبة: 122]. قال ابن عاشور: (التفقُّه: تكلُّف الفقهاهة، ولما كان مصير الفقه
سجيَّة لا تحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك جاءت صيغة: التفعُّل.
وفي هذا إيماء إلى أن
فهـم الدين أمر دقيق المسلك، لا يحصل بسـهولة؛ ولـذا جزم العلمـاء أن الفقـه أفضـل
العلـوم)[17].
ويحتاج هذا إلى أن يكون
قد جمع الفقيه بين الدراسة النظرية والمشافهة مع الممارسة، ولذا قال الشاطبي:
(أنفع طرق أخذ العلم: المشافهة، لخاصَّة جعلها الله بين المعلم والمتعلم، يشهد بها
كلٌّ من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويرددها فلا
يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلِّم فهمها بغتة، وهذا من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ
يفتح للمتعلم منهم ما لا يفتح له دونهم ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في
ملازمة معلميهم، وقد كره مالك الكتابة، فقيل: ما نصنع؟ قال تحفظون وتفهمون حتى
تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة)[18]. وكما يحتاج إلى فقاهة
النفس بتمام الملكة والقدرة العلمية، فإن ذلك لا يتم إلا بصفاء النفس وحسن القصد
والاستعداد الروحي للقيام بذلك فإن العلم الشرعي نور يقذفه الله في قلوب عباده،
وقد قال الله - تعالى -: {يُؤْتِي الْـحِكْمَةَ
مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
[البقرة: 269]. وقال صلى الله عليه وسلم: «من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين»[19].
يقول ابن تيمية: (إذا كان
القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم...
فالمؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره ولا سيما في الفتن... وكلما قوي الإيمان في
القلب قوى انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من باطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف
الكشف... وإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقيناً
وظناً؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى)[20].
2 - موضوع الفقه التطبيقي:
المعْلَم الثاني أن هذا
الفقه لا بد أن يجمـع الفقه المحتاجَ إليه، المطبَّقَ في الواقع، فيحذف منه كل
مسألة لا تطبَّق واقعاً ولا يُعمَل بها. قال الشاطبي: (كل مسألة لا ينبغي عليها
عمل فالخوض فيها خوض في ما لم يدل على استحسانه دليل شرعي؛ وأعني بالعمل: عمل
القلب وعمل الجوارح المطلوب شرعاً.
والدليل على ذلك استقرار
الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يُعرِض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به. وعدم الاستحسان
فيه لوجوه، منها: أنه شُغْل عما يعني من أمر التكليف بما لا يعني. ومنها: أن الشرع
قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة؛ فما خرج عن ذلك قد يظن
أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة أن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق
بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم... ولم يكن
التفرق بينهم إلا بهذا السبب حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى
ما لا يعني)[21].
والمقصود أن يحذف من
(مدونة الفقه التطبيقي) كلَّ مسألة لا يُعمَل بها في الواقع أو المتوقع، وأن يجمع
فيه كلَّ مسألة واقعة أو متوقعة فلا ينفصل الفقه عن الواقع ولا يبتعد عن الحياة.
وهذا المعلم يندرج تحته عدة أمور، منها: أنه سيبعد عنه المسائل التي عُلِّل الحكم
فيها بعلل غير واقعية، فالفقهاء جعلوا السفر العارض للنزهة سبباً لسقوط الحضانة عن
المسافر أو لجعل الحضانة للأب بعلَّة كون السفر فيه مشقة، وخوف ضياع نسب المحضون
إذا سافر.
وهاتان العلتان معلوم عدم
واقعيتهما الآن وقد صار السفر متعة، وحفظت الأنساب بالوثائق الرسمية.
وكما عللوا لزوم كون
المحضون الذكر بعد سبع سنين عند والده نهاراً ولو اختار أمه؛ بعله أنه يتعلم
الصنعة منه، هكذا قالوا مع أن الواقع أن التعليم الآن في مؤسسات خاصَّة بها
غالباً.
فإذا أضيف لذلك كون باب
الحضانة في الجملة قد بُنِي على اختيار الأصلح للمحضون والنظر في ما من شأنه أن
يكون أرفق به كان إعادة النظر في تقرير مسائله أحد أدوار الفقيه التطبيقي.
ومنها: أنه سيلبي حاجات
المجتمع بإيراده للنوازل والحادثات المستجدة مبيناً حكمها ولو لم يذكر في الكتب
المتقدمة.
وهذا يعني أن يتناول واقع
المجتمع فلا يُغفِل منه مطلباً يحتاج لتقرير حكم إلا ويورد فيه المرفَقَ الشرعي
بحسب اجتهاده.
وهذا سيستدعي في الوقت
ذاته ألا توجد (مدونة واحدة) تكفي سائر المجتمعات لاختلاف عاداتها وطباعها، أو أن
يبين الحكم مفرعاً له على حسب ما يقع فيه من اختلاف واقعي مؤثر. وهذا أمر مهم؛
فربط الحكم بعادة معيَّنة أو طبيعة بلد خاص أو مصلحة مؤقته يستوجب معه التنبيه إلى
تفاوت ذلك واختلافه بتغير ما ربط به. قال القرافي: (وكثير من الفقهاء وجدوا الأئمة
الأُوَل قد أفتوا بفتاوى بناءً على عوائدَ لهم وسطروها في كتبهم بناء على عوائدهم،
ثم المتأخرون وجدوا تلك الفتاوى فأفتوا بها وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين
خارقين للإجماع، فإن القيام بالحكم المبني على مدرك بعد زوال مدركه خلاف
الإجماع... فتأمل ذلك يظهر لك ما عليه هؤلاء المتأخرون من الفتاوى الفاسدة)[22].
وفي دراسات حديثة تبين أن
العمليات المعرفية يمكن أن تتعدل لمجرد أن يعايش المرء ثقافة أخرى لفترة من الزمن،
وأن الثغرات البسيطة في التوجه الاجتماعي لها أثرها في الطريقة التي يفكر بها
المرء، وأن التحول الطارئ على الممارسات الاجتماعية من شأنه أن يؤدي إلى تحوُّل في
الأنماط القياسية للإدراك والفكر[23].
فدور الفقه أن يقدم حلاً
لمشكلات الواقع والمستقبل المتوقع بشكل يناسب صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فلا
تبقى مسألة في حيِّز الفراغ الفقهي، ولا يكون التطبيق الفقهي قاصراً أو مقتصراً
على زمان أو مكان دون سواه.
ومنها: أن يقدَّم هذا
الفقه بأسلوب عصري ولغة واضحة وبمعايير وحسابات تطبيقية سهلة لا تختص بأفراد من
الأمة. قال الشاطبي: (ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق يليق بالجمهور
[يقصد عـموم المسـلمين] ويكون له طريق لا يليق بالجمهور. فأما الأول: فهو المطلوب،
وعلى هذا وقع البيان في الشريعة، وقد بيَّن - عليه الصلاة والسلام - الصلاة والحج
بفعله وبقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور، وهي عادة العرب والشريعة
عربية، ولأن الأمة أميَّة فلا يليق بها من البيان إلا الأميُّ.
وعلى هذا النحو مرَّ
السلف الصالح في بث الشريعة... قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين[24].
وقال أيضاً: (هذه الشريعة
المباركة أميَّة... وينبني على ذلك قواعد، منها: أن تكون التكاليف الاعتقادية
والعملية مما يسع الأميَّ تعقُّلها ليسعه الدخول تحت حكمها)[25].
3 - مقصد الفقه التطبيقي:
الـمَعلَم الثالث من
معالم هذا الفقه المنشود تقديمه للأمة: أن يراعي المقصد الأعظم المطلوب من تفقُّه
الإنسان؛ وهو أنه يتعبد لله - تعالى - ويتقرب له - سبحانه - ممتثلاً أمره متطلباً
الزلفى لديه بأفعاله.
قال الشاطبي - رحمه الله
-: (كل علم شرعي فطلب الشرع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله
تعالى...)
والشرع إنما جاء بالتعبد،
وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام. قال - تعالى -: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، {وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وروح العلم هو العمل؛ وإلا
فالعلم غير منتفَع به فقد قال الله - تعالى -: {إنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر: 28]، وقال: {وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّـمَا
عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]. قال قتادة: يعني لذو عمل بما
علمناه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى
يُسأل عن أربع» ومنها: «عن علمه ماذا عمل فيه»... والأدلة على هذا المعنى أكثر من
أن تحصى، وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة إلى العمل، وكلُّ ما ورد في فضل العلم فإنما
هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به.
والعلم الذي مدح الله
ورسوله أهلَه هو الباعث على العمل[26].
وهذا المعلَم يندرج تحته
أمور كلها تتفرع عن معناه، منها: أن يراعي عند بيان حكم من الأحكام أن يذكر دليله
الشرعي؛ فما دام الغرض التعبُّد لله، فلا يتحقق ذلك إلا بظهور كونه محبوباً لله
فِعلُه أو تَركُه، وذلك يعرف بالدليل. وعلى هذا فالفقه التطبيقي فقه مستنبَط من
الأدلة الشرعية ويُعرَض مصحوباً بدليله الشرعي ليرتبط متلقيه بالمقصد الذي هو
التعبد لله تعالى، ولا يغفل عنه. والغفلة عن ذلك من أسباب إخلال المكلَّف ببعض
الأحكام، والبحث عن الرخص، والإتيان بالحيل.
ومنها: أن يربط الجزئي
منه بالكليِّ، والفرعي بالضابط العام ليستقيم فهمه ويعلم أنه شرع ربَّاني جاء
بمصالح العباد ونفعهم.
وقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم يبين ذلك لأصحابه؛ فعـن ابن عبـاس - رضي الله عنهما - قال: نهى النبي صلى
الله عليه وسلم أن تُزَوَّج المرأة على العمة والخالة، وقال: إنكم إذا فعلتم ذلك
قطعتم أرحامكم[27].
وعن جابر بن عبدالله -
رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعتَ من أخيك ثمراً
فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً؛ بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟»[28].
وفي رواية: أرأيت إذا منع
الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ فيكون بيان مقاصد التشريع، أو اندراج المسألة
تحت أصل كلِّي أدعى للفهم، وأسرع للقبول.
ومنها: أن لا يُغفِل
الجانب الروحاني في التشريع فالتشريع الإسلامي ما دام مقصوداً به التعبد لله -
تعالى - فلم لا يكون بيان الحكم الشرعي مرتبطاً بالتعبدية فيه. إن بث الروح في
الكتابات الفقهية تجعل القارئ لا يقف على شكل العبادة أو صفة المعاملة بل يتمثل
البعد الروحي فيها، والمعنى الذي تنشده النفس عند امتثالها؛ فمعاني الخشوع
والإخلاص والإحسان واستحضار النيات لا بد أن تكون حاضرة في المشهد الفقهي فلا
تُقْصَى كما هو واقع كثير من الكتابات.
ومنها: أن يعود الفقه كما
كان في الصدر الأول شاملاً مع الأحكام العملية للآداب والأخلاق، قبل أن تفرد بعلم
مستقل ولا شك أن في ذلك إحياءً للآداب الشرعية وربطاً لها مع الممارسات الحياتية
المذكورة في مدونات الفقه وهو يخدم تطبيقية الفقه ليقدم كل ما طلب من المكلف
تطبيقه.
وبعد، فلعل هذا المقال الوجيز يوضح الفكرة
ويبلغ المقصود منه! والله الموفق.
[1] بعنوان: (المفتي
وتغيُّر الأحكام).
[2]
مذكور في عدد من المؤلفات، منها: المنثور في القواعد للزركشي (1/6)، الأشباه
والنظائر لابن نجم, ص (277).
[3]
انظر: النحو الوافي لعباس حسن (1/8)، وتجديد النحو لشوقي ضيف، ص 4 .
[4]
المستقبلية، إدوارد كورنيش، ص 401.
[5]
صحيح مسلم (1548).
[6]
صحيح مسلم (1547)، وهذا لفظ لمتابعة الأولى.
[7]
صحيح البخاري (2334).
[8]
السنن الكبرى للبيهقي (6/318)، والأموال لأبي عبيد (1/120) وهو صحيح عنه، رضي الله
عنه.
[9]
تضمين من الطرق الحكمية لابن القيم ص 23، وذكر أيضاً أن بيع أمهات الأولاد واختيار
الأفراد في الحج خلاف لرأي أبي بكر رضي الله عنه.
[10]
صحيح البخاري (869)، صحيح مسلم (144)
(8) اختلاف الاجتهاد وتغيره، المرعشلي، ص
137.
[11]
اختلاف الاجتهاد وتغيره، المرعشلي، ص 137.
[12]
الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 218.
[13]
تاريخ التشريع الإسلامي ص 371، لمحمد الخفري. بتصرُّف.
[14]
أبجد العلوم صديق حسن خان (1 /206)، وانظر: المقدمة لابن خلدون، ص 668.
[15]
مقدمة ابن خلدون، ص 617.
[16]
المقدمة، ص 375.
[17]
التحرير والتنوير (11 /61).
[18]
الموافقات (1 / 96).
[19]
صحيح البخاري (8 / 149).
[20]
مجموع الفتاوى (20 / 43- 47) وكل كلامه عظيم في هذا الأمر يتعين مراجعته.
[21]
الموافقات (1/46).
[22]
الفروق (3 /162) و (3 / 288).
[23]
جغرافية الفكر، ريتشارد إي. نيست، عالم المعرفة العدد 312، ص 206.
[24]
الموافقات (1 /59).
[25]
الموافقات (2 /90).
[26]
الموافقات (1 / 62 – 69).
[27]
صحيح ابن حبان (9 / 426) وهو الصحيحين من حديث أبي هريرة بدون التعليل.
[28]
صحيح مسلم (1554).