كلمات أخرى تحاصرني، يلقيها
الإحساس بالظلم في نفسي هنا في هذه الزنزانة اللعينة المظلمة الضيقة. رائحة أنتن
من جيفة أنضجتها شمس تموز، رائحة كريهة أشتمُّها مع كل هبة ريح، تصطدم بالباب
الحديدي المغلق.
للمرة العاشرة بعد الألف أتساءل عن سبب
وجودي في هذا السجن الانفرادي، وأستعرض تاريخ حياتي لحظة لحظة. لقد عانيت كثيراً
من أجل المجيء إلى هذه الولاية، فاتورة السفر كانت باهظة، حرمتُ أفراد أسرتي من
أجل ذلك من الغذاء واللباس والعيش الكريم؛ حمَّلتُهم ما لا يطاق من الديون. ودخلتُ
الولاية بطريق شرعي؛ لم أسرق مصرفاً أو بيتاً، لم أعمل جاسوساً لأية جهة كانت، لم
أشتم زعيماً أو وزيراً أو فرَّاشاً في دائرة البيطرة، لم أتنازع مع جار أو أتطاول
على سائق سيارة أجرة؛ فلماذا أنا هنا في هذا المكان الحقير المذِل؟
لا أذكر أنني أسأت لزميل أو زميلة في هذا
المصنع الذي أعمل فيه منذ أربع سنوات، لا أذكر أنني قُدْتُ سيارة بصورة مخالفة، أو
ضُبطتُّ سكراناً في شارع أو حانة، أو عاكست قاصراً أو عانساً أو امرأة متبرجة. ولا
أذكر أنني انتميت لحزب معارض أو مناوئ، أو عملت في الممنوعات.
أربع سنوات انقضت وأنا في هذه الولاية لم
أُحدِث ضجيجاً ولا نزاعاً ولا مشاجرة، ألم يكتشفوا بل ويتيقنوا أنني رجل مسالم نقي
السريرة؟
يا إلهي! رأسي يكاد ينفجر.
حينما اعتُقلت، كنت نائماً في فراشي،
استيقظت وقتها فزعاً على طرقات الباب! هدَّدني أحدهم بخلع الباب إن لم أفتحه
بنفسي، تردَّدت في البدء وذهب ظني لظاهرة تستشري هنا، ظاهرة السطو المسلح، ظاهرة
تنتهي في الغالب بجريمة قتل! تُرى هل سأكون ضحية عصابة مسلحة؟
ما أكثر العصابات المسلحة في هذه الولاية!
الظاهر أنهم أكثر من شخص وأحدهم يركل الباب بقوة!
لا بد من فعل شيء سأتصل بالشرطة فهي وحدها
من تحميني من هؤلاء القتلة، وحين رفعت سماعة الهاتف كان الباب قد سقط أرضاً،
واندفع نحوي بضعة عشر رجلاً مسلَّحاً!
صرخ أحدهم بي: انبطح أرضاً وجهُك للأسفل،
وذراعُك للخلف أيها الإرهابي! أنت موقوف.
ما الأمر؟ من أنتم؟
صه! كل كلمة تقولها تسجَّل ضدك.
كُبلَت رجلاي وذراعاي، وغطيت عيناي بشريط
أسود. ومنذ ذلك الحين وأنا أقبع في هذه الزنزانة النتنة.
أُخذتُ إلى التحقيق ثلاث مرات، وجِّهَت لي
خلالها أسئلة كثيرة، ومورست ضدي أنواع شتى من التعذيب النفسي والبدني، كنت واضحاً
وصريحاً في إجاباتي ولم أكذب، تحدثت بالتفصيل عن أسرتي في باكستان.
أجبت على جميع أسئلة المحقق حتى الشخصي جداً
منها، حاولت مراراً أن أستدرجه للبوح بحقيقة التهمة الموجَّهة إليَّ؛ إلا أنه لم
يفعل، كان يراوغ يلف، ويتنطع، ثمَّ أنهى حديثه قائلاً: سيزورك المحامي في وقت
قريب.
لقائي الأول بالمحامي لم يكن مجدياً؛ فلم
يخفف شيئاً من معاناتي، ولم ينقلني من سجني الانفرادي الكريه. والأهم من هذا أنه
لم يصرح لي بشيء عن التهمة أو التهم المسندة إليَّ.اكتفى هذه المرَّة بتوقيعي على
الوكالة التي تؤهله للدفاع عني.
وفي اللقاء الثاني كان المحامي ظريفاً دمثاً
رقيقاً، وبعد أن استمع طويلاً لحكايتي منذ أن خرجت من باكستان إلى ساعة اعتقالي
قال:
الظاهر أنك نسيت أمراً مهماً.
- عن أي أمر تتحدث؟
- عن حادثة كلب الحديقة.
قالها وهو يضع بين يدي صورة فوتوغرافية
مكبَّرة، أمعنت النظر في الصورة وانفجرت ضاحكاً ضحكة مدويَّة لم أستطع كتمها.
- أتضحك؟ ألا تعلم أن هذه الصورة دليل
إدانتك؟
قالها ثمَّ أخرج من جيب معطفه ورقة جريدة
حملتِ الصورة ذاتها وفي ذيلها تعليق: «الكلاب لا تخلو من الإرهاب».
- أهذا أنت أم لا؟
- بلى، أنا بلحمي وشحمي.
- والآخر الذي تعاركه، ألا تعرفه؟
- لا أرى أحداً غيري في الصورة سوى كلب. هل
الكلب هو المشتكي؟
- لا، بل سلطة حماية الحيوان، تعذيبه
إرهابه... ألم تقرأ بماذا عنون الكاتب الصورة؟
- بلى، لكن الأمر مختلف تماماً.
- وضِّح ما تقول؟ وسأمد لك يد العون ما
استطعت.
- الحقيقة - يا سيدي - أنني شاهدت هذا الكلب
في الحديقة وهو يمسك بثياب طفل انشغلتْ أمه في ما يبدو عنه.
- يقول الكاتب: إن الطفل كان يلاعب كلب
الأسرة حينما تدخَّلتَ أنت بالاعتداء عليه.
- هذا كذب، افتراء؛ الكلب - يا سيدي - ضال، ثم إن أم الطفل ذعرَت، وصرخت، واستغاثت لنجدة طفلها.
- ألم يبادر أحد لنجدتها؟
- لا، فقمت بذلك بنفسي، ثم إن الأم - واعتقد أنها نرويجية - شكرتني.
- هل تذكر شيئاً مما قالته؟
- أذكر أنها قالت: شكراً لك؛ لقد أنقذتَ ولدي. أنا وأبوه مدينان لك.
- هل سمعها أحد سواك؟
- لا أدري كنت في عجلة من أمري.
- هل أعطتك عنوان منزلها، أو رقم هاتفها؟
- لا.
- الصورة تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنك عاركت الكلب، كدت تخنقه.
- ضع نفسك مكاني يا سيدي! هل يمكن تخليص الطفل بأسلوب آخر؟
- ماذا تعني؟
- أعني: هل كان الكلب سيطلق سراح الطفل بمجرد كلمات استعطاف!
- لا بد من استجواب المرأة، وإلا فسيكون أمرك معقداً.
- وهل سأحاكَم على أمر كهذا؟
- بالطبع! نحن هنا نحترم العدالة.
- يا سيدي! أنا مسلم أطبق شريعة الإسلام على نفسي، وديننا الحنيف لا يسمح بإيذاء طير أو حيوان، ورسولنا الكريم حدثنا عن امرأة دخلت نار جهنم بسبب حبسها هرة. نحن أرأف الناس بخلق الله.
- سأقول هذا في مرافعتي، لكن هذا لا يعني براءتك! ستأخذ العدالة مجراها.
- العدالة! العدالة! أنت تتحدث عن العدالة يا سيدي، وحكومتكم وشعبكم يقدمان السلاح والعتاد والدعم المعنوي للصهاينة المحتلين لفلسطين! ألا ترى - يا سيدي - ما يفعله الصهاينة؛ يحرقون الأرض، يجتثون الأشجار، يقتلون الكبار والصغار، الحيوانات والطيور، يحاصرون ويمنعون الماء والغذاء والدواء عن أهل فلسطين؟ أتنسون هذا؟ وأنتم هنا تحاكمونني على عراكي كلباً ضالاً كاد يفتك بطفل بريء... أهذه عدالتكم؟
- الأمر يعود إليكم؛ لماذا لا تحاكمونهم، أو تتقدموا بعرائض ضدهم. أليس لديكم أظافر لتحكُّوا بها أجسادكم؟
بعد نحو شهرين من المحاكمة قضت المحكمة ببرائتي لكنها لم تجرِّم المصور المتعنصر رغم ثبوت الأدلة.