كان المشهد العراقي قد امتلأ بكل أشكال الاضطراب والعنف وأعمال الاغتيال، قبل الانتخابات. وكان اللافت للنظر - تحديداً - أن كانت الصراعات متفجرة أساساً بين من قدموا أنفسهم ممثلين للشيعة في العملية السياسية، وبين بعضٍ من هؤلاء أنفسهم والحاضنة الشيعية
احتار المراقبون في تفسير دوافع قرار مقتدى الصدر بسحب أو استقالة نواب تياره من
البرلمان العراقي؛ وهو الفائز في الانتخابات بأعلى المقاعد والمؤهَّل لتشكيل
الحكومة العراقية. لم يُقْنِع الغالبية بما ذكر من أسباب الانسحاب مما وصف
بالانسداد السياسي، إذ ليس منطقياً أن يكون الصدر قد توقَّع أن يجد ترحيباً من خصوم
يصارعونه على المصالح في ظل الفساد المستشري (وهو صاحب شعار: شلع قلع)، أو أن يكون
على غير علم بالفوضى والاضطراب السائد في داخل تلك العملية وهو المشارك فيها منذ
وقت طويل ويعرف كيف تتشكل الوزارات وتوازنات وألاعيب ومساومات ومحاصصات مثل هذا
التشكيل، بل هو يعلم من هو صاحب القرار الفعلي في تحديد أو تعيين من يَشغل موقع
رئاسة الوزراء.
وزاد من عدم قناعة الغالبية، أن الصدر لم يطرح تغيير الأطر القانونية التي تمنح
خصومه القدرة على منعه من ترجمة مكسبه الانتخابي (الأول من نوعه) بدلاً من الانسحاب
تحت عنوان تعنت خصومه. وأنه لم يحشد جمهوره في الشوارع ويحاصر خصومه ويضغط عليهم،
وهو صاحب تجربة واسعة ومتكررة في المظاهرات والاعتصامات!
تندَّر بعض المراقبين بتلك الحالة السياسية الفريدة؛ إذ ينسحب الفائز في الانتخابات
من البرلمان، ويفتح الطريق للطرف المهزوم - أي الإطار التنسيقي للميليشيات شديدة
الولاء لإيران - لإعلان انتصاره وتولي السلطة بدلاً منه.
وتوجَّه آخرون في رحلة بحث مضنية لفك هذا اللغز والبحث عن الأسباب الحقيقية
والنتائج الفعلية، ولتبيان تأثير هذا القرار على العلاقات بين المجموعات السياسية
الشيعية، وعلى النفوذ والدور الإيراني. كما طرحت تساؤلات حادَّة حول مصير العملية
السياسية (وإذا ما كان عمرها الافتراضي قد انتهى) بعد أن تردَّدت الأخبار عن تحول
الصدر وتياره من المشاركة في العملية السياسية والانتخابات، إلى الصراع في الشارع،
حتى أن بعض المتابعين أطلق تحذيرات باحتمال حصول اقتتال (شيعي - شيعي).
وهي أسئلة تطرح طبيعة ردود أفعال ومواقف طرَفَي الاحتلال الأمريكي والإيراني من
احتمالات انهيار العملية السياسية التي جرى تشكيلها بعد الاحتلال، لتكون إطاراً
لتقاسم النفوذ والمصالح وإدارة العلاقات بين الطرفين سواء بشكل مباشر أو عبر
الوكلاء العراقيين.
حدود صراعات المجموعات السياسية الشيعية:
كان المشهد العراقي قد امتلأ بكل أشكال الاضطراب والعنف وأعمال الاغتيال، قبل
الانتخابات. وكان اللافت للنظر - تحديداً - أن كانت الصراعات متفجرة أساساً بين من
قدموا أنفسهم ممثلين للشيعة في العملية السياسية، وبين بعضٍ من هؤلاء أنفسهم
والحاضنة الشيعية. وفي كل ذلك كان واضحاً تمحور أسباب الصراع ودورانها حول النفوذ
والدور والوجود الإيراني في العراق.
وإذ انتهى الصراع في الشارع بصدور قرار بإجراء انتخابات مبكرة للبرلمان لتشكيل
حكومة جديدة؛ فقد تواصل المأزق بعد الانتخابات بين الطرف الفائز بأعلى تمثيل في
البرلمان وهو تيار الصدر، وبين الإطار التنسيقي الذي يضم الميليشيات الموالية
لإيران علناً وبشكل سافر.
وعقب مرور نحو 8 أشهر تعثرت خلالها محاولة الصدر تشكيل الحكومة بسبب مناطحة الإطار
التنسيقي للميليشيات إيرانية الولاء (وتكاثرت خلالها زيارات المسؤولين الإيرانيين)،
وفاجأ الصدر الجميع بالإعلان عن الانسحاب من البرلمان، فاتحاً الطريق لتحوُّل
الإطار التنسيقي إلى الكتلة الأكبر ومنحه حق تشكيل الحكومة، وفقاً لآليات المحاصصة
الطائفية المعمول بها في العملية السياسية.
وفي تفسير موقف الصدر قيل كثير من الكلام؛ فهناك من رأى أن الصدر انسحب ليواصل
الصراع في الشارع ضد الميليشيات الإيرانية، بعد أن أيقن ألَّا إمكانية لترجمة فوزه
الانتخابي. وهناك مَن وصف موقف الصدر بالمناورة الذكية، مؤكداً أنه وضع الإطار
التنسيقي في حقل ألغام. ففي حين سيضغط هو في الشارع، سيكون الإطار التنسيقي في موقع
المضطر لتقديم تنازلات للتيارات والقوى الأخرى في داخل العملية السياسية، بما يكشفه
أمام الجمهور الشيعي. وإن رَفَض الإطار التنسيقي تقديم التنازلات وفشل في تشكيل
الحكومة سيسقط جماهيرياً، وسيطرح السؤال حول أسباب تعويقه محاولة الصدر تشكيل
الحكومة.
غير أن مثل هذه التفسيرات لا تتلمس كل الحقائق في مواقف الصدر، وترفع من دوره إلى
حيث لا يذهب هو، ولا تتوفر على قراءة لدوره في داخل الإستراتيجية الإيرانية في
العراق.
والحاصل أن الصدر - في أول الأمر وآخره - يدور داخل إستراتيجية عمل إيران في
العراق، مثله مثل الإطار التنسيقي، والفارق بينهما يتعلق بطبيعة الدور الذي تشكَّل
من أجله ويقوم به، فإذ تعتمد إيران الصدرَ قوةً شعبيةً لها دورها - ويترتب على ذلك
مصالح خاصة لهذا التيار - فهي تعتمد الإطار التنسيقي بين الميليشيات قوةً عسكريةً
لها دورها ويترتب على ذلك مصالح خاصة لها هي أيضاً. وفي إدارة العلاقات بين
التيارين لا تمانع إيران من قدْرٍ من الاحتكاك وصراع المصالح بينهما، بل هي تحبِّذه
لضمان استمرار سيطرتها عليهما، وبشكل خاص لأن تلك المجموعات تحصل على ميزانيات
تمويلها من نشاطها داخل الأجهزة التنفيذية العراقية، وهو ما يزيد من احتمالات ميلها
للاستقلال في بعض القرارات.
وهذا النمط من إدارة إيران لمجموعاتها ليس متفرداً أو خاصاً بالعراق وحدَه، إذ هي
تعتمد الأطر نفسها لتنفيذ أهدافها في لبنان عبر ميليشيا نصر الله وميليشيا نبيه بري
وغيرهما، وفي سوريا عبر عدة ميليشيات لا ميليشيا واحدة.
ومن يراجع المواقف الفعلية للصدر لا يسجل له خروجاً واحداً على الخطط الإيرانية؛ بل
يجد أن كل خطواته وتحركاته تبدأ وتنتهي - إستراتيجياً - بما يحقق المصلحة
الإيرانية.
وإن كانت تمثل الميليشيات وإطارُها التنسيقي قوة الصدام العسكرية، فدور الصدر في
الإستراتيجية الإيرانية بمثابة حائط الصدِّ الخلفي عبر القوة الجماهيرية ووَفْقَ
أساليب الفوضى العامة المتحلقة حول شخصه، لكن وَفْقَ انضباط الميليشيات.
وقرار الصدر الأخير لم يكن إلا ترجمة لفكرة حائط الصدِّ لموجات الهجوم ضد إيران.
وملخص القرار هو: إعطاء التمثيل الأكبر للميليشيات الموالية علناً لإيران لا أكثر
ولا أقل، في مواجهة الهجوم الذي تعرضت له خلال أحداث ثورة تشرين ولمواجهة الضغط
الأمريكي المطالب والضاغط بتفكيكها. الصدر يضعها في السلطة وينسحب هو للوراء، ليظل
بديلاً جاهزاً دوماً لدى المخطِّط الإيراني.
ويمكن القول بأن إيران قدمت الصدر لخوض الانتخابات على أرضية الصراع مع الميليشيات،
لتصبَّ في جيبه كل نتائج ثورة تشرين، ليحولها من بعد إلى الجيب الإيراني.
وهذا الدور ليس جديداً؛ ففي بداية الاحتلال الأمريكي، وحين قويت المقاومة الوطنية
العراقية وباتت تهدد بقاء الاحتلال والسلطة التي منحها هو للشيعة الموالين لإيران،
خرج الصدر عن الموقف الإيراني المعلن بدعم الاحتلال والاستفادة من وجوده. أعلن
الصدر عن مقاومته للاحتلال خوفاً من انتصار المقاومة وبناء سلطة لا طائفية. وبعد أن
انتهى دوره هرب إلى إيران.
وقد حاول الصدر بعد اشتعال ثورة تشرين السيطرة على الحراك الشعبي المعادي لإيران
والميليشيات، لكنه فشل فالتف من خلال الانتخابات بتوجهه للجمهور الرافض لإيران بهدف
استيعابه، مستغلاً تصميم العملية السياسية لتكون عملية طائفية (يضطر فيها المواطن
للتصويت طائفياً)، وحين حصل على أغلبية الأصوات ترك كل شيء وفتح الباب لإطار
الميليشيات للسيطرة على البرلمان، تحت شعارات براقة طالما اشتهرت بها تحركاته.
ومثل تلك العمليات المعقدة لا تدار وَفْقَ آليات مبسطة، كما لا تجري وفق تفاهمات
بين الأطراف الشيعية في العراق، بل عبر إدارة إيران إستراتيجيةَ وجودِها ووَفْقَ
أساليب وآليات وعبر شراء وولاءات وارتباطات استخبارية وبناء زعامات وإشعال فتن...
إلخ.
وهنا يطرح التساؤل: ألَا يتسبب موقف الصدر بإنهاء ما تبقى من صدقية لدى بعض الجمهور
للعملية السياسية؟ وألَا يدفع ذلك الجمهور العام إلى قرار بعدم المشاركة في تلك
العملية من بعد؟ وأليس هذا كله في غير صالح الاحتلال؟
من يدير العملية السياسية؟
تحدثت بعض الآراء عـن أن الصـدر فجَّر العمليـة السياسية من داخلها، وأنه أنهى
بقايا الأمل لدى بعض المواطنين العراقيين في حل مشكلات البلاد على يد السلطة
القائمة، وأن المجموعات السياسية الشيعية ستذهب للاقتتال، لكن واقع الحال في العراق
والعملية السياسية يطرح آفاقاً أخرى.
فالعراق لم يشهد بناء نظام سياسي بَعْد، وقد كان الاحتلال الأمريكي واضحاً، حين
أطلق تسمية العملية السياسية على شكل الحكم بعد الاحتلال؛ أي أنها بوتقة تفاعلات
بين الموافقين على العمل السياسي سواء من التابعين للولايات المتحدة أم من التابعين
لإيران. وقد أظهرت التجارب المتكررة للانتخابات أن سلطتي الاحتلال هما من يعيد ضبط
تفاعلات تلك العملية وإعادة توجيهها لأداء مهمتها الأساسية في التغطية على وضع
الاحتلال القائم.
وقد تأكدت سطوة الاحتلال أو الاحتلالين الإيراني والأمريكي على مخارج العملية
السياسية في أكثر من مناسبة؛ إذ أظهروا أنهم أصحاب القرار في تحديد من يشغل المواقع
الأساسية، وقد كانت الأمور شديدة الفجاجة حين فاز إياد علاوي بالغالبية البرلمانية،
لكنَّ الاحتلالين توافقا على تعيين غيره، فتم إقصاؤه وخرج يقول للناس: اسألوا
إيران.
وما يجري من صراعات حادة في العملية السياسية في المرحلة الأخيرة، هو ناتج الصراع
بين الاحتلالين الأمريكي والإيراني (إضافة للصراع على النفوذ والثروات بين الفاعلين
بها) إذ لم ترَ إيران ضرورة لتشكيل الحكومة في العراق خلال الشهور الماضية لمنع
ترجمة تراجع ميليشياتها، وبسبب تقلب واضطراب الأوضاع الإقليمية. وهو ناتج في الأصل
عن سعي وخطة إيرانية واضحة المعالم منذ مدة، تسعى لعسكرة العملية السياسية وإضعاف
نصيب الولايات المتحدة في سلطة الاحتلال. لقد وقفت إيران خلف تشكيل الميليشيات
(الحشد) بعد قصص داعش، وحولتها من بعدُ إلى جماعات ذات غطاء سياسي ودفعت بها
للانتخابات للاستفادة من دورها في مواجهة داعش، للسيطرة على النفوذ الأكبر في
السلطة التنفيذية في العراق عبر عسكرة العملية السياسية وحماية النفوذ الإيراني
بالسلاح.
لكن الخطة الإيرانية ووجهت - وربما فوجئت - بأحداث ثورة تشرين التي طاردت تلك
الميليشيات تحديداً. هنا دفعت إيران بالصدر للواجهة خلال الانتخابات، وهي تعود الآن
إلى خطتها الأولى، بأن تتولى الميلشيات - تحت عنوان الإطار التنسيقي - تشكيل
الحكومة العراقية لمواجهة ما هو جارٍ وما هو قادم في الإقليم.
أما صدقية العملية السياسية، وحكايات تفجيرها من الداخل، فالتجربة تظهر أن إيران
والولايات لا تقيمان أي اعتبار لسمعة تلك العملية، ليس فقط لأنهما قوتا احتلال،
ولكن أيضا لأن النسبة التي تذهب للانتخابات وتشارك في تشكيل سلطة الاحتلال، هي نسبة
محدودة للغاية ولم تزد في الانتخابات السابقة على نحو 18 % من أصحاب الحق في
التصويت، ولأن الولايات المتحدة وإيران، هما من بنى تلك السلطة وقاما بفرضها على
العراق وهم من يقومون بحمايتها.
وواقع الحال أن الحادث من زعــزعات داخل العملية السياسية، هو جزء من أداء دورها؛
إذ لا مكــان فيــها للتــوافق الوطني أو للتوافق على المصالح الوطنية. لقد صممت -
ومثلها الدستور - لإعادة إنتــاج الهـويات الـطائفية والعــرقية ولـديمومة اشتعال
الأزمات والصراعات بين المكونات التي تنتمي لها على أساس اختلاف الهوية، واختلاف
الهوية هو شرط الانتماء للعملية السياسية. كما هي عملية تؤدي أفضل أدوارها حين تجعل
العراق دوماً على حــافة الاقتــتال الأهلي والتقسيم، حتى لا ينهض ويقوى مجتمعة
ويصبح قادراً على إنهاء الاحتلال.
لقد تأسست العملية السياسية على أسس عرقية وإثنية وطائفية - وبدقة أكثر: على تفكيك
المجتمع وغياب التمثيل على أساس الهوية الوطنية الجامعة - وعلى قاعدة تمثيلٍ
وأنصبةٍ لا ترتبط بالواقع ولا تتحدد ملامحها حتى وَفْقَ إحصاءات السكان (على بؤس
هذا الأساس) التي بُنيَت على أساس تغيير نسب السكان وَفْقَ ما حدَّده وفرضه المحتل،
إذ قرر حصول الشيعة على النصف +1 في السلطة، وعلى وضع السنة والكرد على قاعدة تساوي
الأنصبة بنسبة 20 % لكل منهما، وما تبقى يكون للأقليات.
وبما أنه لا حرية (للقرار الوطني) في بلد محتل، ولا مكان للصراع حول التوجهات
الكلية في بلد يُحكَم من خارجه، فلا يبقى من دور وأهمية للعملية السياسية سوى
للصراع الكراسي ولتحقيق المصالح الضيقة والصراع على النفوذ واستنزاف الثروات.
أما الصراع الشيعي - الشيعي واحتمالات أن يصل الخلاف بين المجموعات الشيعية حدَّ
الاقتتال الشامل، فإيران تحاول ضبطه وضبط إيقاع صراعاته، فإن أفلَت منها، فسيتدخل
المحتل الأمريكي باعتباره صاحب القرار في جعل الشيعة يحكمون العراق. وهو ما قاله
ونفَّذه الحاكم الأمريكي بريمر، ولا تزال الولايات المتحدة تحرسه من وقتها وحتى
الآن.