إذا ظُلم العبد مثلاً ولم ينصَف، أو شرد من مأواه وسكناه، أو تعرض لأي نوع من أنواع الأذى ولم يستطع الدفاع عن نفسه لسبب من الأسباب، حمد الله تعالى فزرع الأمل فيه من جديد، وكان ما أصابه من شر نفعاً له لا ضراً، وتحفيزاً له على تحمل مشاق الحياة،
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
جعله سبحانه نوراً وهدى لخلقه، فيه من الثمار المغذية للروح الشيء الكثير، من
الإحساس بالطمأنينة، والراحة النفسية والجسدية، ومن هذه الثمار مثلاً نجد ثمار
الحمد، الذي بدأ به الله سبحانه كتابه العزيز، فقال سبحانه في مطلع سورة الفاتحة:
{الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢]، والحمد كلمة إذا نطق
العبد بها بإخلاص شعر بالأمان يغمره، ويحيط به من جميع الجوانب، لأنها جامعة للثناء
كله، ومعبِّرة عن الإحساس والشعور به تجاه الله تعالى، يقول الإمام ابن عطية في
تفسيره:
«الحمد
معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من
الشكر»[1].
ومن ثمار هذه الكلمة، أنها هي غاية ما يمكن النطق به عند الإحساس بالنعم، فقد أخبر
القرآن الكريم أن أصحاب الجنة عندما يدخلونها ويريدون التعبير عن شكرهم لربهم الذي
هداهم يقولون: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْـحَزَنَ إنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، ويقول أيضاً: {وَقَالُوا
الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْـجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]،
فلو كان هناك كلمة أعمُّ منها لنطق بها هؤلاء، لأنهم في مقام يريدون التعبير عن
ثنائهم وشكرهم لله بأبلغ الكلام، لكن القرآن الكريم ذكر لهم في مثل هذا المقام
الجليل هذه الكلمة فقط، وهو ما يدل على عظمتها عند الله، ويكفي من ثمارها أن الله
أوجب على العبد النطق بها في بداية كل صلاة، إذ لا تُقبل صلاة بدونها، وفي الحديث
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن العبد إذا قال في صلاته:
«الحمد
لله رب العلمين، يقول الله عز وجل حمدني عبدي»[2]،
فالله تعالى يحب عبده الحامد، الذي يصفه بالكمال مع محبته وتعظيمه[3]؛
روى البخاري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«الحمد
لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات
والأرض»[4]،
يقول ابن حجر:
«ومعنى
ملء الميزان أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثواباً»[5]؛
فما أحلاها من كلمة جامعة، أنعم الله بها على عباده، فجعل ثمرتها تملأ ما بين
السماء والأرض، وتروي ظمأ العبد وتغذي روحه.
فإذا أضيفت هذه الكلمة لرب العلمين كما في آية الفاتحة مثلاً، شعر العبد بأمان
أكثر، وبراحة لا نظير لها، وأيقن أنه يعيش تحت كنف الرب الذي يعلم سرَّه وجهره،
ويُخضع له العالمين أجمعين، عالم الإنس، وعالم ما سوى الإنس من المخلوقات الأخرى
المرئية وغير المرئية، فالربوبية هنا مطلقة تشمل كل شيء في الكون سوى الله تعالى،
إذ كل شيء دال على الله، يقول الإمام الرازي في تفسيره للعالمين:
«كل
ما سوى الله تعالى... وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل
على وجود الله تعالى»[6]؛
فلذلك إذن كانت إضافة الربوبية للعالمين مشعرة المرء بالأمان التام في نفسه، ومثمرة
الإيمان بالله وحده لا شريك له في قلبه، فإذا ظُلم العبد مثلاً ولم ينصَف، أو شرد
من مأواه وسكناه، أو تعرض لأي نوع من أنواع الأذى ولم يستطع الدفاع عن نفسه لسبب من
الأسباب، حمد الله تعالى فزرع الأمل فيه من جديد، وكان ما أصابه من شر نفعاً له لا
ضراً، وتحفيزاً له على تحمل مشاق الحياة، فإذا نطق بالحمد أحس له حلاة، وعاش لم
يخشَ إلا الله تعالى، ولم يتضرع إلا إليه، فلم تنهزم نفسه ولم تفتر، أو تتقهقر كما
تتقهقر نفوس الجاهلين بهذه الكلمة العظيمة، لأن ثمار الحمد مغروسة في قلب الحامد
وفي وجدانه وإحساسه، يؤمن بثماره حلوة المذاق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«عجباً
لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان
خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له»[7]؛
فهو في جميع الحالات حامد ربه، طامع في مغفرته ورضوانه، وهذا الأمر جعله الله ثمرة
خاصة بالحامدين الشاكرين، يُذهب حزنهم، ويريح حياتهم.
[1] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للإمام ابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد
السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1422هـ: 1/66.
[2] المسند، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، إشراف د. عبد الله
بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ 2001 م: 16/25.
[3] شرح رياض الصالحين، ابن العثيمين، دار الوطن للنشر، الرياض، 1426هـ: 5/ 187.
[4] المسند، الإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث
العربي، بيروت: 1/ 203.
[5] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ،
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب: 11/ 208.
[6] مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2،
1420هـ: 1/198.
[7] المسند، الإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث
العربي، بيروت: 4/2295.