• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عمر بن عبدالعزيز ومظلمة أهل الأندلس

العملية الإصلاحية التي كُلِّف بها السمح وإن استهدفت الخير للإسلام ولقطاع عريض من مسلمي الأندلس حاضراً ومستقبلاً؛ لا بدَّ أن يكون لها خصوم ومعارضون وبخاصة من قِبل أصحاب المصلحة في إبقاء الأوضاع كما هي عليه دون تغيير


كان أمير الأندلس في خلافة عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) هو السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100 - ذي الحجة 102هـ)، وكانت حقبة ولايته من أحسن وأطيب الحقب التي شهدتها هذه الولاية القصيَّة في عهد الولاة (95 - 138هـ/ 714 - 755م).

لِـمَا تميزت به تلك المرحلة القصيرة التي لم تتعد سنتين وأربعة أشهر، من استقرار وأمن، ولِـما حَفَلت به من إصلاحات إدارية ومالية وعمرانية في الداخل، وجهاد وفتوحات في الخارج، وتحديداً في جنوب فرنسا[1]. فكان عند حسن ظن المسلمين في الأندلس خاصة، والمسلمين في كل مكان عامة؛ إذ كان فيه أمانة وديانة، وكان على جانب عظيم من القابلية الإدارية، والتنظيمية، والتنفيذية[2]. ورغم كل ذلك، لم تمر ولاية هذا الرجل الماجد، دون منغصات ومشاكل.

أولاً: سبب الخلاف بين السمح بن مالك وعرب الأندلس

كانت تلك المنغصات والمشاكل ناجمةً عن المهمة الإصلاحية التي كُلِّف بها السمح من قِبَل الخليفة عمر بن عبد العزيز، والتي تتمحور حول إعادة النظر في القطائع التي أقطعها الخليفة الوليد بن عبد الملك (86 - 96هـ) وموسى بن نصير فاتح الأندلس لكبار العرب الفاتحين في الأندلس دون أن يراعى فيها الاحتياط في القدر أو المساحة، وأيضاً تتمحور حول وجود أراضٍ شاسعة وضع بعض القادة الفاتحين العرب أيديهم عليها دون أن يكون لهم القدرة على استغلالها كلها؛ وذلك بإعادة تقسيم هذه القطائع على أكبر عدد ممكن من المسلمين، وبما يحقق العدالة بينهم، أو عدِّها وقفاً للأمة لضمان توفير مصدر دخل دائم لكل الداخلين إلى الأندلس ولمن جاء بعدهم للاستقرار فيها وحمايتها والجهاد فيما يليها. وذلك أسوة بما فعله هذا الخليفة في الشام وفي غيرها. فقد قرر عمر أن الأعراب الذين يهاجرون إلى الأمصار وينضمون إلى صفوف المقاتِلة يعامَلون مثلهم، ولهم حصة مساوية من الفيء كالمقاتِلة[3]؛ ذلك أن بعض جماعات المستقرين بالأندلس - وخاصة في المناطق التي لم تقسَّم من قِبَل موسى نصير - نجحت في المراحل المبكرة من الفتح في السيطرة على مناطق تصل في مساحتها إلى حدِّ إقليم واسع، مثل إقليم همدان الذي استحوذت عليه قبيلة همدان اليمانية، وإقليم بني أسد، وإقليم ربع اليمن، وإقليم اليمانيين... إلخ [4]. وكانت إعادة تقسيم الأرض المفتوحة - بحكم الضرورة، أو لظهور حقائق جديدة - من حق الإمام، حتى لو كانت القسمة الأولى قد تمَّت عن أمره هو ذاته، كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب مع أبناء قبيلة بجيلة، فقد جعل لهم ربع السواد وفاء للوعد الذي كان قد وعدهم به قبل خروجهم للجهاد إلى العراق، ولم يقسِّم لأحد سواهم، فأخذوا سنتين أو ثلاثاً، ثم إن عمر بعد ذلك استدعى جريراً البجلي، وقال له: «يا جرير! لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما جُعل لكم، فأرى الناس قد كثروا، فأرى أن تردَّه عليهم»، ففعل جرير ذلك، فأجازه عمر ثمانين ديناراً[5].

فهذه العملية الإصلاحية التي كُلِّف بها السمح وإن استهدفت الخير للإسلام ولقطاع عريض من مسلمي الأندلس حاضراً ومستقبلاً؛ لا بدَّ أن يكون لها خصوم ومعارضون وبخاصة من قِبل أصحاب المصلحة في إبقاء الأوضاع كما هي عليه دون تغيير؛ لِـما قد يكون في هذا التغيير من مساس بامتيازاتهم ومكاسبهم. وهذا ما حدث بالفعل؛ فعندما دخل السمح الأندلس سنة 100هـ كان يصحبه مئات من عرب إفريقية ولم يكونوا من الجند الفاتحين للأندلس الذين تقاسموا خير نواحيها فيما بينهم واستقروا فيها واختلطوا بأهلها وعُرفوا فيما بعد باسم (البلديين)، لأنهم صاروا يعدُّون أنفسهم أهل البلد وأصحابها، فطلب السمح من هؤلاء إشراك إخوانهم الذين وفدوا معه فيما غنموه من العقارات والأراضي الوفيرة بعد الفتح أو التي أقطعتها الدولة لهم وهي زائدة عن حاجتهم لتمكينهم من الاستقرار، ولكنهم أبَوا ذلك وعدُّوها ملكاً خالصاً لهم وعدُّوا ما يطلبه منهم هذا الوالي تعديّاً على حقوقهم وتراجعاً عن الوفاء بما قرره لهم خليفة سابق وأبدَوا معارضة لهذه السياسة الجديدة.

ثانياً: وَفْد عرب الأندلس في مجلس عمر بن عبد العزيز

ويبدو أن السمح بن مالك أمير الأندلس حاول إلزامهم بذلك وأشتدَّ عليهم ولم يلتفت إلى دعواهم وما قدموه من حجج وإثباتات. ولذلك اتفق عرب الأندلس الفاتحون والمستقرون فيها منذ الفتح من أصحاب تلك الأراضي أو الإقطاعات على اختيار طائفة من وجوه القوم من بينهم، وأوفدوهم بالنيابة عنهم إلى دمشق عاصمة الخلافة آنذاك لرفع شكايتهم إلى أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز. ومن المحتمل أنهم قد تراضوا والوالي على هذا وأحالوا المسألة إلى عمر بن عبد العزيز وهو الخليفة العادل القائم على شريعة الله للبت فيها حسماً للنزاع وقطعاً لدابر الفتنة والخلاف، وباعتبار هذا حلاً وسطاً يرضي الطرفين. «لأن مسألة توزيع الأرض المفتوحة ليست مجرد رؤية نصية؛ وإنما هي - علاوة على ذلك - وليدة اجتهادات تستند على المصلحة واختلاف الظروف والبيئات والتقاليد والأعراف الموروثة والمستجدة، وذلك يعدُّ جزءاً من نطاق عمل خليفة المسلمين والاجتهاد فيه يتم بمبادرة منه»[6].

وفعلاً سافر الوفد الأندلسي إلى دمشق دار الخلافة وقابلوا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وشكوا إليه ما أراده منهم عامله على الأندلس السمح بن مالك الخولاني من النزول عن بعض ما تحت أيديهم من أراضٍ وعقارات لمن دخلوا معه حديثاً إلى الأندلس، وشرحوا له صفة الأرض والعقارات التي بأيديهم وتحت تصرفهم، وأخبروه بما صنع القائد الفاتح موسى بن نصير قبل عودته إلى المشرق بعد استكمال الفتح من تقسيم أجزاء من البلاد الأندلسية المفتوحة، ومن ضمنها قسمة تلك الأرض عليهم بعد إخراج الخُمس منها، وما أقطعه لهم من الإقطاعات بحضور التابعين (حنش الصنعاني، وأبي عبد الرحمن الحبلي، وعلي بن رباح اللخمي) ثم إقرار الخليفة الوليد بن عبد الملك لذلك، وأبرزوا له سجلاته التي كان قد سجَّلها لهم والتي تتضمن إقطاعهم تلك الأراضي والعقارات وكانت هذه هي العادة المتبعة؛ أي أن يُعطي الإمام سجلات لأصحاب الإقطاعات حتى تكون حجة بأيديهم «ولم تكن الإقطاعات في عصر النبي صلى الله عليه وسلم  إلا كتابة».

وكان الوليد منح هذه الإقطاعات لهؤلاء العرب في مقابل البقاء والتوطن في الأندلس بشكل دائم وعدم مغادرتها إلى ديارهم والقيام بواجب الدفاع عنها وحمايتها والغزو بلا عطاء. أي أن هؤلاء العرب كانوا ممن عادوا إلى المشرق وأرادوا ترك الأندلس بعد الفتح؛ زهداً فيها لبعدها الشاسع عن أوطانهم وديارهم، واقتناعاً بما وقع في أيديهم من الغنائم المنقولة فاستمالهم الخليفة الوليد بن عبد الملك ورغَّبهم في البقاء فيها بإقطاعهم تلك الإقطاعات. هذه الأخيرة التي يريدهم الوالي الجديد السمح بن مالك الخولاني أن يتنازلوا عن بعضها للقادمين الجدد الذين وفدوا معه إلى الأندلس.

وقد عبَّر هؤلاء الوافدون من عرب الأندلس البلديِّين (الداخلين زمن الفتح) للخليفة عمر بن عبد العزيز عن رغبتهم ورغبة مَن خلفَهم من قومهم ومواليهم البربر في الرجوع إلى ديارهم وأوطانهم، وطلبوا إليه إدالتهم بالوافدين الجدد إلى الأندلس مع السمح بن مالك الخولاني. أي أنهم هددوه بتركها إذا كان استقرار الداخلين الجدد سيكون على حسابهم وعلى حساب غنائمهم وإقطاعاتهم... فبم أجابهم الخليفة عمر بن عبد العزيز يا تُرى؟ وكيف حسم هذه المشكلة؟

ثالثاً: معالجة عمر بن عبد العزيز لهذه المشكلة

ولقد أثارت هذه المشكلة اهتمام الخليفة عمر بن عبد العزيز وضاعفت من خشيته على مصير المسلمين في تلك الجزيرة النائية المعزولة عن بقية أقاليم دار الإسلام والمتصلة بالأعداء؛ فبحث عن أفضل السبل لمعالجتها لدرجة أنه فكَّر في إجلائهم منها قاطبة في بداية الأمر، إلا أنه لم يتعجل في اتخاذ القرار المتعلق بذلك واستخار الله في أمرهم فاستقر رأيه على أن بقاء المسلمين في الأندلس خير من إجلائهم منها؛ خصوصاً بعد أن طمأنه السمح بن مالك الخولاني على استقرار أمور المسلمين فيها وعلى أنهم قد تكاثروا فيها وانتشروا في أقطارها وصار من الصعب إجلاؤهم عنها؛ ولهذا وذاك فقد منع عمر بن عبد العزيز أولئك العرب الأندلسيين القدماء من الرجوع إلى ديارهم وطيَّب خواطرهم وأكرم وفادتهم، وعقد لهم وأشهد في عقدهم على إقرارهم في أموالهم على ما أقرَّهم عليه الخليفة الوليد بن عبد الملك، وعلى ما قسمه بينهم وأقطعهم أيِّاه القائد الفاتح موسى بن نصير، وأمضى لهم ذلك من أمره وسجَّل لهم بمثله، وكتب إلى السمح بن مالك الخولاني بالوقوف عند عهده وإمضاء ما أمر لهم به، فخفقت قلوب أعضاء الوفد فرحاً بذلك وشكروه مودِّعين مستأذنين وعادوا إلى منازلهم ومساكنهم وأهليهم وبقية إخوانهم في الأندلس راضين مسرورين ومبشرين أصحابهم ومن وراءهم بعدل الخليفة عمر بن عبد العزيز وبما لَقوه عنده من فضل وتكريم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى السمح بن مالك الخولاني أيضاً أن يُدخِل الجند الذين دخلوا معه الأندلس في الأخماس؛ أي يعطيهم من حصة الدولة وهي أراضي الخمس التي تم اقتطاعها من الأراضي التي فُتحت عنوة وعدَّت غنيمة للفاتحين وذلك ترضية لهم وخدمة للإسلام ولِـما يمثله بقاؤهـم خارج الديوان من توترٍ وقلق، وأوصاه أن لا يتعرض للمستقرين الأوائل وغنائمهم وإقطاعاتهم. وكان يهدف من خلال ذلك إلى أن يجعل العرب يتطلَّعون إلى الاستقرار في الأندلس بصورة دائمة؛ الأمر الذي يساعد على حمايتها والدفاع عنها ويؤدي إلى انتشار الإسلام وتجذير اللغة العربية فيها. أي أن عمر بن عبد العزيز حذا حذو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معالجته لأراضي أقصى بلاد فارس (الثغور الهندية). فقد وزَّع عمر بن الخطاب هذه الأراضي على فاتحيها من المسلمين وأقطعهم الإقطاعات تأليفاً لقلوبهم وتقوية لنفوسهم على سداد ثغرها، وكما فعل كلٌّ من معاوية وعبد الملك بن مروان لتوطين المسلمين في الثغور الساحلية الشامية. وعدَّ عمر بن عبد العزيز الأندلس ولايةً ثغرية فأقر الإقطاعات فيها[7] بأيدي الجنود الذين فتحوها بعد إخراج الخمس منها. كما أن معالجته لهذه المشكلة كانت أيضاً تقريراً لمبدأ يؤمن به: فقد قرر عمر أن الأعراب الذين يهاجرون إلى الأمصار وينضمون إلى صفوف المقاتِلة يعامَلون مثلهم ولهم حصة مساوية من الفيء كالمقاتلة.

هكذا عالج الخليفة عمر بن عبد العزيز هذه الإشكالية. وأصبح هذا الإجراء هو الطريقة المثلى لإسكان أية جماعة صغيرة أخرى من العرب تدخل فيما بعد إلى الأندلس[8]. وبعدها سرعان ما انقشعت تلك السحابة العابرة وعادت الأمور إلى مسارها الطبيعي.

رابعاً: الحكاية كما ترويها مصادر المؤرخين

هناك روايتان حول هذه الحكاية وردتا في كتاب رحلة الوزير في افتكاك الأسير لمؤلفه السفير محمد بن عبد الوهاب الغساني نقلاً عن تاريخ محمد بن مزين عن تاريخ محمد بن موسى الرازي (وكلاهما مفقودان للأسف). الرواية الأولى غير مسندة والرواية الثانية عن عبد الملك بن حبيب فقيه الأندلس الكبير المشهور.

نص الرواية الأولى:

قال محمد بن مزين نقلاً عن كتاب الرايات الذي ألَّفه محمد بن موسى الرازي: وقال بعض علماء السلف بأمر الأندلس: إن أكثرها إنما فتح صلحاً إلا الأقل من مواضع معروفة، وإنه لما هُزم لذريق لم يقف المسلمون بعد ذلك ببلد إلا أذعن أهله إلى الصلح؛ ولذلك بقي الروم فيها على أرضهم وأموالهم يبيعون ويُبتاع منهم، ولما وصل خبر فتحها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ووفد عليه موسى وجماعة من فاتحي الأندلس معه يستأذنونه في إخلائها والرحيل عنها إلى أوطانهم فقرَّبهم وأنسهم وأقطعهم الإقطاعات فيها وأقرَّهم على (أرضهم)، ولم يجعل لهم سبيلاً إلى الخروج منها ولا أوسعهم عذراً في إخلائها وردَّهم إليها وإلى جيرانهم بجوابه. فلما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخلافة زاد اعتناؤه بها وأنزلها من عمالة إفريقية وأفرد لها عاملاً، فبعث السمح بن مالك عاملاً فوردها في جند سوى جندها الأُوَل فأراد النزول معهم أي مع المسلمين الفاتحين في أموالهم ومشاركتهم فيما بين أيديهم فوفد لهم وفد على أمير المؤمنين عمر وشكوا إليه ذلك ورغِبوا إليه في الرجوع إلى بلادهم وإدالتهم بمن ورد معهم فمنعهم من ذلك وأنسهم وعقد لهم وأشهد في عقدهم على إقرارهم في أموالهم وأقطع الواردين مع إقطاعات غيرها، وقال: هذه الثغور الهندية لولا إقطاعات عمر بن الخطاب الجندَ فيها [أي ما منحه لهم من الأراضي] لم يسدها؛ فكيف بتلك الناحية؟ فإنا نستخير الله في إجلاء المسلمين عنها. ثم إنه لم ينفذ ذلك ليبلغ الكتاب أجله[9]. وقوله: «فإنا نستخير الله في إجلاء المسلمين عنها» يشعر بأن الاتجاه الأقوى كان هو الإجلاء ولكن لَـمَّا تبين له صعوبة تنفيذ هذه الفكرة بعد أن استقر المسلمون في الأندلس وانتشروا في أقطارها سمح لهم بالبقاء فيها واتخذ من التدابير ما يعزز أمنهم واستقرارهم[10].

نص الرواية الثانية:

قال عبد الملك بن حبيب: لما ولي على الأندلس السمح بن مالك الخولاني سنة مائة في خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، دخل معه الأندلس جيش من العرب فأرادوا النزول مع الأولين والمشاركة معهم في رباعهم وأموالهم، فشخصت منهم طائفة إلى عمر بن عبد العزيز وأخبروه بما صنع موسى بن نصير من قسم الأرض بعد إخراج الخمس وإقرار الوليد لهم على ذلك واستظهروا بسجلاته التي سجلها لهم، فأقرهم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على ما أقرهم عليه الوليد بن عبد الملك وعلى ما قسمه بينهم موسى بن نصير وأمضى لهم ذلك من أمره وسجل لهم بمثله، وكتب لهم إلى السمح بن مالك بالوقوف عند عهده وإمضاء ما أمر لهم به وانصرفوا إلى من تخلَّفوا مسرورين بما لقوه من فضله وعدله، وكتب إلى السمح أن يقطع الجند الذين دخلوا معه من الأخماس[11].

خامساً: رأي الدكتور حسين مؤنس

قال المؤرخ الدكتور حسين مؤنس في معرض تناوله لهذه القصة في كتابه (فجر الأندلس)[12]: وطبيعي أن هؤلاء الذين عادوا إلى المشرق وأرادوا ترك الأندلس (زمن الوليد) كانوا من العرب زهدوا في البلاد لبعدها عن أوطانهم فاستمالهم الوليد إلى البقاء بإقطاعهم الإقطاعات، وطبيعي كذلك أن هذه الإقطاعات الجديدة كانت من أرض الخمس التي تخص بيت المال، فلما كانت أيام عمر بن عبد العزيز وواليه السمح بن مالك على الأندلس أقبلت معه جماعة من العرب من وجوه إفريقية ولم يكن عددهم عظيماً لأن المراجع تحددهم بأربعمائة فقط، فأرادوا النزول معهم في أموالهم ومشاركتهم فيها بأيديهم فوفد لهم وفد على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز... إلخ.

ويستنتج حسين مؤنس من هذا النص ما يلي:

أن عرب الأندلس الذين كانوا قد استقروا بها قبل سنة (100هـ - 718م)، كانوا أحرص ما يكونون على ما أصابوا من أرض وأن مجرد تفكير السمح في إشراك أربعمائة فقط من العرب الجدد معهم في إقطاعاتهم كان كافياً لدفعهم إلى تقرير العودة إلى بلادهم وترك الأندلس جملة، وهذه ملاحظة هامه تلقي ضوءاً على طبيعة عرب الأندلس في ذلك الحين ومقدار حرصهم على هذا البلد الكبير.

 أن تفكير عمر بن عبد العزيز في إخلاء الأندلس كان راجعاً إلى شكوى هؤلاء العرب وتهديدهم بتركها.

أن هؤلاء العرب كانوا قد استقروا فيما استقروا فيه من أرض على اعتبار أنها إقطاعات لهم.

أن عمر بن عبد العزيز اضطر إلى إرضاء العرب الجدد بمنحهم إقطاعات جديدة من أرض الخمس.

أن هذا الإجراء كان كفيلاً بإقناع العرب بالبقاء في البلاد. أي أن أرض الخمس أخذت تتناقص شيئاً فشيئاً وتتحول إلى إقطاعات للعرب وسنرى أنها تتلاشى تماماً.

وبعد مناقشة مستفيضة لهذا الموضوع يخلص إلى القول: إذن فقد عدَّ عمر بن عبد العزيز أرض الأندلس ثغراً مثل الثغور الهندية التي أقطع عمر بن الخطاب أرضها لجندها وبناء على ذلك فقد أعطي العرب الأول سجلات بما وضعوا أيديهم عليه من أرض على أنها إقطاعات، بل أقطع جندَ السمح إقطاعات أخرى وأصبحت هذه قاعدة مقررة[13]. إذن فقد عدَّت أراضي الجنوب أرض عنوة وعدَّها من فتحوها غنيمة وتقاسموها بعد إخراج الخمس منها، وأيدت الدولة ذلك فسجل الوليد بن عبد الملك لمن استولى عليها من المسلمين وأعطاهم سجلات بذلك، ثم جاء عمر بن عبد العزيز فأيد ذلك الحكم وعدَّ ما استولى عليه المسلمون من الأرضين إقطاعات وساوى بينها وبين ما فتح المسلمون من أرض الهند فعدَّها ثغراً يجوز للإمام أن يقطع أرضها لمن فتحوها ومن يقومون على حمايتها؛ فإذا كانت في الشرق ثغور هندية ففي الغرب ثغور أندلسية[14]. أي أن نواحي الأندلس الجنوبية كانت تعدُّ ثغوراً أو ولايات حدود تقيم فيها (أجناد) تتصرف بجزء كبير من محصولها نظير ما تقوم به من خدمة عسكرية دائمة. أما أراضي الشمال مما فُتح صلحاً فقدعُدَّت أرض صلح تجري عليها أحكام الصلح التي عقدها المسلمون مع أهلها[15].

 

 


 


[1] حول هذا الموضوع انظر مقال: الأندلس في ولاية السمح بن مالك الخولاني، مجلة البيان، العدد 414، صفر 1443هـ/ سبتمبر 2021م على الرابط:

 https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=13646

[2] محمود خطاب: قادة فتح الأندلس (2/15 - 16).

[3] عبد العزىز الدوري: أوراق في التاريخ والحضارة، ص231.

[4] ذو النون طه: الفتح والاستقرار العربي في شمال إفريقية والأندلس، ص180 - 181.

[5] أبو عبيد: كتاب الأموال، ص139.

[6] الفضل شلق: الخراج والإقطاع والدولة، مقدمة مجلد في النظام الاقتصادي الإسلامي، ص39.

[7] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص298

[8] ذو النون طه: الفتح والاستقرار العربي في شمال إفريقية والأندلس، ص186.

[9] محمد بن عبد الوهاب الغساني: رحلة الوزير في افتكاك الأسير، ص140 - 141.

[10] حول هذا الموضوع انظر مقال: مشروع إجلاء المسلمين من الأندلس مجلة البيان العدد 405 جمادى الأولى 1442هـ/ ديسمبر2020م، على الرابط:

https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=13477

 

[11] محمد بن عبد الوهاب الغساني: رحلة الوزير في افتكاك الأسير، ص141.

[12] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص618.

[13] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص623.

[14] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص627.

[15] حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص636.


أعلى