• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بيوت القصب

لقد كانت سارة نعم المعين ونعم السند لزوجها، وصدق القائل: «وراء كل عظيم امرأة».


من خير ما تُستهلُّ به هذه السطور حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم  فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناءٌ فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»[1].

فهذا الحديث من أجلِّ ما ورد في فضائل الأزواج، فهو يتضمن بشارتها ببيت القصب في الجنة ثواباً لها على سيرتها الحسنة مع زوجها صلى الله عليه وسلم ، قال ابن حجر: «كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها... قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصـفتين أنه صلى الله عليه وسلم  لـمَّا دعـا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعاً، فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كلَّ نصب، وآنسته من كل وحشة، وهوَّنت عليه كل عسير، فناسب أنْ يكون منزلها الذي بشَّرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها»[2].

فتأمل عظيم هذا الثواب: هل أُعطيته لكونها ثرية غنية؟ أو لأنها بارعة الجمال؟ أو لكونها تسنمت أعلى المناصب الوظيفية؟ كلا! إنما أعطيت هذا الثواب لنجاحها في أنْ تكون زوجة صالحة لزوجها تسرُّه إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها وتسارع في هواه وتسكِّن خاطره وتزيل عن نفسه شعث الحياة ووحشتها.

عرى المودة:

قليلة تلك البيوت التي يثني الله على أهلها ونسائها بأعيانهم في كتاب الله؛ لمزيد فضل لا لانعدام الخير في الناس، ولذلك فإنَّ هذا الثناء الرباني يُعدُّ من مفاخر التاريخ الممتدة عبر الأزمان والعصور، ومن ذلك ما ثنَّاه القرآن الكريم من الحديث عن آل إبراهيم وأهل بيته، فقال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]. وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٣٣]. قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض»[3].

وإبراهيم عليه السلام ولد ببابل (العراق) وتزوج سارة، وكانت عاقراً لم تلد إلا وهي عجوز، وقد كانت مؤمنة صابرة مُحِبَّة، مع ما حباها الله من الجمال، وكان إبراهيم عليه السلام يحبها كثيراً ويحفظ لها ودَّها، قال السُّدي: «وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال، وكانت لا تعصي إبراهيم شيئاً؛ ولذلك أكرمها الله عز وجل»[4].

وقد تفشت عبادة الأصنام والكواكب آنذاك، وعمَّ الكفر أصقاع الأرض، قال ابن كثير: «وهكذا كان أهل حرَّان يعبدون الكواكب والأصنام، وكلُّ مَن على وجه الأرض كانوا كفاراً سوى إبراهيم الخليل وامرأته سارة وابن أخيه لوط عليهم السلام»[5].

وطوال مسيرته الزوجية ورحلاته الدعوية الشاقة؛ حظي إبراهيم عليه السلام بقلبٍ محبٍّ عطوفٍ، ذلكم قلب (سارة) عليها السلام، ولقد شهدته سارة وهو يدعو الناس في بابل العراق إلى توحيد الله بالعبادة والتعظيم ويناظرهم عليه، قال تعالى: {إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ 85 أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ 86 فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87]، شهدته وهم ينالون منه وينال منهم، ويغلبهم بحجته وبراهينه، ثم يغامر بنفسه فيعمد إلى أصنامهم التي يعظمونها فيكسرها، ثم يجتمعون على فكرة قتله، فيجمعون له الحطب ويوقدون ناراً عظيمة، فيُلقُونه فيها، فيَسْلم بإذن الله من الاحتراق والموت. والقرآن يحكي هذه الحادثة بإيجاز فيقول: {فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ 91 مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ 92 فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ 93 فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ 94 قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ 95وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ 96 قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْـجَحِيمِ 97فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات: 91 - 98]. وفي موضع آخر يقول جل شأنه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ 68 قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ 69 وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 - 70].

ثم يناظره ملك بابل (النمرود بن كنعان) على الربوبية؛ أيْ أنَّه كان يدَّعي الربوبية مع الألوهية، وكان ملكاً عظيماً، وعن مجاهد أنه كان أحد ملوك الدنيا[6]؛ أيْ أنه كان من الملوك القلائل الذين ملكوا الدنيا، فينتصب إبراهيم عليه السلام وحده للمناظرة مع الملك الطاغية، فيقيم حجته عليه ويغلبه بها، لكن الملك لم يؤمن بالله رغم وضوح الحجة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْـمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْـمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [البقرة: 258].

كل هذه الأحداث التي غشيتها المعاناة، وامتزجت بها بمرارة الأذى والهجر والجفاء، وكل هذه المعاناة التي يعيشها إبراهيم عليه السلام حدثت وسارة تعيش في كنفه، فيصيبها من لأواء حياته وشدتها بسببه ما يصيبها، فلا ضجر ولا صخب، ولا عوق ولا تثبيط، ولا تأفُّف من تلك الحياة التي عاشتها معه.

ثم يهاجر إبراهيم من بابل، بعد أنْ عرَّف أهلها على التوحيد وحذَّرهم من عبادة الأصنام، فتكون سارة معه كذلك، مفارقةً لقومها وما يعبدون، مختارةً لإبراهيم ودينه وطريقه على قومها، لا تلوي على شيء، فينزلان بلدة (حرَّان)، فيدعو الناس إلى عبادة الله وحده فتكون معه تؤنسه وتسكنه وتعينه، ثم يرحل إلى بلاد (بيت المقدس) حيث المكان الذي يتمكنون فيه من عبادة الله وحده دون أذى، ويتمكن هو من دعوة الناس إلى توحيد الله، فترضى سارة بما رضيه، وتقيم معه في كنفه وبيته صابرة راضية.

ثم يرتحل إبراهيم عليه السلام إلى مصر داعياً إلى عبادة الله وحده، وهو يعلم أنَّ فيها ملكاً جباراً وأنَّ هذه البلاد قد تكون شراً وخطراً عليه، وسارة معه، تقيم معه حيث يقيم، وتظعن حيث يظعن، لا تلوي على شيء، ولا تنأى عن مسير زوجها ومهامه الشاقة، فيُبتلَيان بطغيان الحاكم ابتلاء شديداً، فقد أراد الطاغية سارة عن نفسها، ذلك أنَّ المخبرين وصفوا له حسنها وجمالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإنَّ هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني. فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت الله فأُطلق، ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت فأُطلق، فدعا بعضَ حجَبَته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان. فأَخدَمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مهيا؟ قالت: ردَّ الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره، وأَخدَم هاجر»[7].

وفي هذا الابتلاء يتجلى عظيم إيمان سارة رضي الله عنها، ويتجلى صدقها مع زوجها وحفظها له في غيبته عنها أمام ذلك الملك الجبار، فتتقوى عرى الحب والمودة بينهما؛ فلا غرو أنْ يعظم الله لها الأجر والثواب في الدنيا والآخرة. إنها الزوج التي أحبها إبراهيم كأشد ما يحب الرجل زوجه، فلا ينتظر إلى فراغه من الصلاة ليسألها، بل يشير بيده سائلاً مستعجلاً سماع خبرها.

قِوَام البيت:

إذا كان الزوج قَوَّام البيت فإنَّ الزوجة قِوَام البيت وسكنه وبهجته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: ١٢]، وسيرة الزوجة في بيتها ومواقفها مع زوجها تعبِّران عن مقدار حصَّة البيت من السكن المشتمل على معاني الاستقرار والهدوء والطمأنينة والابتهاج، ومما يَحْسُن تأمُّله في هذا السياق حال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أول ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم  وقدِم من غار حراء مذعوراً خائفاً، قالت عائشة رضي الله عنها: «رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم  ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني. فزملوه، حتى ذهب عنه الروع، قال لخديجة: أيْ خديجة! ما لي؟ لقد خشيت على نفسي. فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلا! أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»[8]. فلله هذا الموقف الدافئ، الذي حوَّلت فيه خديجة خوف زوجها إلى أمان واضطرابه إلى سكون.

ولقد كانت سارة نعم المعين ونعم السند لزوجها، وصدق القائل: «وراء كل عظيم امرأة». فإنها بعد أنْ كبر سنها ولم تنجب ولداً لإبراهيم رأتْ أنْ تهب له هاجر يتسرى بها فيكون له منها ولد؛ حبّاً منها لزوجها ومسارعة في هواه وإعانة له على مقاصد البيت إضافة إلى سيرتها الحسنة معه وصبرها على معاناته، قال ابن إسحاق: «وكانت هاجر جارية ذات هيئة، فوهبتها سارة لإبراهيم، وقالت: إني أراها امرأة وضيئة فَخُذْها لعل الله يرزقك منها ولداً»[9]. لقد وهبته هاجر وهي ترى وضاءتها وجمالها وشبابها، فتتغلب على غيرتها إكراماً لزوجها وإحساناً إليه، وإدراكاً لما يترتب على ذلك من الفضل والثواب.

وقد كان إبراهيم عليه السلام مكرِماً للضيوف، وكانت سارة تخدمه في ذلك وتعينه، والقرآن يقص علينا طرفاً من ذلك، يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْـمُكْرَمِينَ 24 إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ 25 فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ 26 فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ 27فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24 - 28]. وفي موضع آخر يقول جل شأنه: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ 69 فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمِ لُوطٍ 70 وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 69 - 71]. قال السدي: «بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، فأقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلَّهم، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فذبحه، ثم شواه في الرضف، فهو الحنيذ حين شواه، وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ﴾ وهو جالس»[10].

فمن مجموع النصوص ندرك ما تحلَّت به سارة من الصبر مع زوجها وتفانيها في إسعاده وخدمته وتسكين خاطره، والله تعالى يؤدِّب نساء المؤمنين بأخبار خيرة النساء في العالم للاقتداء والتأسي.

عُرى المودة توجب على الزوجة أنْ تحتمل معاناة الطريق الذي يسير فيه زوجها، ليس طريق الدعوة والجهاد فقط، بل طريق الحياة والمعاش، أما التي تعبَّأ وجدانها بالضجر من فقر زوجها وقلة ذات اليد أو تفرش لسانها بالتأفف من انشغاله عنها بمصالح مهمة أو تسلُّ صوتها عليه لاختلافٍ في الطباع أو سوء في الخُلُق فإنها لا تستطيع أنْ تنشر السكينة في بيتها، ولا أنْ تكون سكناً لزوجها وأولادها، إنها تنقضُ عرى المودة فلا تفلح في أنْ تكون زوجة صالحة، وهذا ما حدا بإبراهيم عليه السلام أنْ يأمر ابنه إسماعيل أنْ يطلِّق امرأته لأجله! قال ابن عباس: «جاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بِشَـرٍّ؛ نحن في ضيق وشدة. فشكَتْ إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألَنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أنْ أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أنْ أفارقكِ، الحقي بأهلك. فطلقها، وتزوج أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة. وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء، قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أنْ تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنتِ العتبة، أمرني أنْ أمسكك»[11]. وفي رواية أبي جهم: «ويأمرك أنْ تثبت عتبة بابك فإنها صلاح المنزل»[12]. وعند قوله: «فإنها صلاح المنزل» ينبغي أنْ تقف المرأة نفسها لتتأمل عمق دلالات هذه الكلمة، وما يحويه صلاح المنزل من السكن والحفظ والصيانة والنماء والعون والضبط والرعاية، ثم تنظر في نفسها لترى أين موقعها من ذلك كله.

جمالات المعية:

في واقع الأمر فإنَّ كثيراً من آيات القرآن لا تعْمد إلى إخراج الزوجة عن سياق زوجها، مثل قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]. وقوله تعالى: {إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35]. وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِـحَيْنِ} [التحريم: 10]. وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: ١١]. وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص: ٩٢]. وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود: 71]. وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْـحَطَبِ} [المسد: ٤]. وقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 30]. وقوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]. وقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ} [يوسف: 25].

وهذه الآيات وغيرها تُذكَر فيها المرأة متصلة بزوجها، سواء كان ذلك بالإضافة إلى اسمه أو إلى الضمير المتصل العائد عليه، وهذا من بلاغة القرآن وبيان مراميه، فمن صالح القول أنْ تُذكَر المرأة بذاتها فتُسمى باسمها كما سمي الرجال بأسمائهم، ولكن أدب القرآن يهدينا بأسلوبه إلى معانٍ عميقة؛ جاءت بها الفطرة، وعليها تكوَّن الخلق، كاتصال المرأة بزوجها اتصالاً يمزجها به، فيصبح جزءاً من تعريفها كما أنها هي في الأصل جزء من خَلقه، منه ابتدأت وإليه تأوي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: ١]. فهذه الحقيقة - أعني خلق حواء من نفس آدم - تؤثِّر في المعاني والصفات، ليتم الاكتمال والسكن والاستقرار في حياة الناس، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} [الروم: 21].

ويترتب على هذا الاتصال معية المرأة لزوجها، المعية الفطرية التي لم ترَ المرأة فيها بأساً ولا عيباً في يوم من الأيام، إلا بعد هيمنة الثقافة الغربية الرأسمالية وما أفرزته من الفردانية والنسوية اللتين تسببتا في شقاء امرأة هذا العصر وهدم فطرتها وشرخ شخصيتها حين حرضتها على رفض المعية الزوجية. ورأينا من قبلُ زوجة موسى عليه السلام التي سار بها موسى في سفره من مدين إلى مصر، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29]. وهكذا النساء مع الرجال.

وهذه الفطرة - أعني معية المرأة لزوجها - مما جعلها الله تعالى بوابة لقوامة الرجال على النساء؛ أيْ أنَّ الله جل شأنه غرس في المرأة تطلُّعها إلى قوامة الرجل وتشوفها إلى سيادته وقبول أمره ونهيه والقدرة على العيش في كنفه وخبائه؛ لتستقر البيوت تحت قيادة واحدة ورأس واحد فينتظم أمر الأمة كلها بانتظام بيوتها. هذا هو نظام الحياة والخلق.

وحين أخبر الهدهد بما رأى في سبأ مما يُستنكر ويُستغرب ذكر للنبي سليمان عليه السلام ثلاثة أمور على وجه الاستنكار، حكاها القرآن في قوله تعالى: {إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ 23 وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل: 23 - 24]. فمما ذكره على وجه الإنكار ولاية المرأة على مملكة سبأ؛ إذ كيف يُعقل أنْ تقوم امرأة بأمر مملكة أو أنْ تدفع عنها! ولا عجب فإنَّ تلك الملِكة (بلقيس) حين قدمت على سليمان عليه السلام، ورأت وسمعت ما يدعوه إلى إسلامها، قالت: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: ٤٤]. فمع أنَّ أصل الإسلام هو نفي الواسطة بين العبد وربه إلا أنها ذكرت إسلامها بمعية سليمان، لا قصداً منها أنْ يكون سليمان واسطة بينها وبين الله تعالى، ولكنها فطرة المعية وتطلُّع المرأة لها. ولقد رأينا (سارة) رضي الله عنها كيف شاركت إبراهيم أفراحه وأتراحه، وهجرته ودعوته، ثم لا تقول: أُفٍّ! ولا ترغب عنه.

قوامة لا سُلطة:

والقوامة ولاية شرعية للرجال على نسائهم، شرعها الله تعالى لهدف مهم، وجعل لها شرطاً، وهيَّأ فطرَتَي الرجل والمرأة لها، فأصبحت القوامة بذلك إكسيراً لبناء المجتمعات القوية والعابدة لربها.

فأما هدف القوامة فهو تنظيم البيوت التي تتكون منها المجتمعات والأمم واستقرارها، وأطرها على الإسلام ومكارم الأخلاق. وأما شرطها فهو القدرة على توفير ما تحتاجه من السكنى والكسوة والطعام وما يلزم من المال تلبية لاحتياجات الحياة المهمة قدر المستطاع.

ثم إنَّ الله هيَّأ فطرة الرجل للعمل الشاق ومكابدة السوق والبحث عن الرزق والابتعاد عن البيت والجهاد في سبيل الله وكثرة الخطى في المصالح العامة، حتى هذه الغيرة الكامنة في الرجل جعلها الله باباً لحماية المرأة مما يسوؤها، وصيانة لها عن الانفلات الأخلاقي وما يسببه من اختلاط الأنساب وضياع النسل.

وهيَّأ الله سبحانه فطرة المرأة لهذه القوامة فحبب إليها أنْ تكون في معية الرجل، تأتمر بأمره وتسارع في هواه، وهذا أحد الأسباب التي لأجلها حرم الله تعالى اختلاط الرجال بالنساء؛ إذ تدفعها فطرتها إلى المعية التي لا تنبغي أنْ تُبذَل إلا للزوج أو لذي محرم. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. فمِن الرجل السيادة ومِن المرأة المعيَّة، ومن الرجل السكن المادي ومنها السكن النفسي، ومن الرجل بذل المال ومن المرأة بذل الخدمة، ومن الرجل غيرة تدفعه لحمايتها ومنها غيرة تدفعها إلى قربها منه، ومن الرجل تعبيد طريق الحياة للأولاد ومن المرأة تربيتها لهم، ومن الرجل رجولته ومن المرأة أنوثتها.

والقرآن يسميها قوامة، لما تحمله من معاني التسيُّد الممزوجة بالحفظ والنظر، ولا يسميها سلطة كما تفعل قواميس الحضارة الغربية فتقول «سلطة الرجل»، وفرقٌ بين الاسمين وما يحملانه من معانٍ ودلالات، قال ابن فارس: «السين واللام والطاء أصل واحد، وهو القوة والقهر، من ذلك السلاطة، من التسلط وهو القهر»[13]. وهذا مدعاة إلى تأمل الأسماء والمصطلحات التي أثبتتها النصوص الشريفة وما تدل عليه ومقارنتها بالأسماء والمصطلحات التي وضعها الناس وَفْقَ أهوائهم وأفكارهم.

وإنما تسمي قواميس الحضارة الغربية القوامة سلطة لتنفِّر النساء عن فطرة الزواج وجمال معيته؛ كما هي عادة المحرفين من المنافقين ومن أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. وإنما تفعل ذلك لتكرس في وجدان المرأة: الفردانية، وتنزع منها المعية الفطرية وما تقتضيه من الطاعة والصلاح والصيانة، وفي ذلك تقول أدريان: «إنَّ نظام الزوجية تم فرضه على النساء ترهيباً وترغيباً، كما أنَّ هوية النساء تُعدُّ مصدر قوة تم تحجيمها وتبديدها بعنف في ظل نظام الزوجية. الوضع يحتاج إلى إدراكٍ جريء للترويج السياسي والاقتصادي والثقافي للزواج... إدراكٍ نتجاوز به الحالات الفردية أو حالات المجموعات المختلفة إلى نوع من الرؤية المركبة المطلوبة لإزالة سلطة الرجال التي يلوحون بها في كل مكان في وجه النساء»[14]. وهكذا يتنادون اليوم بضرورة نقل المفهوم من القوامة إلى السلطة والقهر والعنف، لتنفير المجتمعات المسلمة من شريعة الله التي رفقت بالمرأة وارتقت بها ونظمت حياتها.

 

 


[1] أخرجه البخاري، حـ 3811.

[2] فتح الباري: 7/ 138.

[3] تفسير ابن كثير: 2/ 337.

[4] تاريخ الأمم والملوك: 1/ 150.

[5] البداية والنهاية: 1/ 209.

[6] معالم التنزيل: 1/ 273.

[7] أخرجه البخاري، حـ 3362.

[8] أخرجه البخاري، حـ 4942.

[9] تاريخ الأمم والملوك: 1/ 151.

[10] تفسير الطبري: 12/ 473.

[11] أخرجه البخاري، حـ 3368.

[12] فتح الباري: 6/465.

[13] مقاييس اللغة: 1/ 567.

[14] الأسرة في الغرب، ص294.

 

 


أعلى