• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نموذجان معاصران من التعايش الممنوع

إن مفهوم التعايش الإيجابي لا يعني بحال التفريط بشأن حقوق الإنسان، كأن يغتصب المحتلون البلاد الآمِنة بقوة السلاح، ثُم يحاولوا أن يخدعوا أهلها بالتنازل عمَّا نهبوه منهم


كانت الحرب الفكرية - وما زالت - أقسى ميادينِ الصراعِ الأزليِّ بين الحقِّ والباطل، وغدا التلاعب بالمصطلحات وتلبيس الحق بالباطل، مِن أسوأ مجالات هذه الحرب الفكرية المتجدِّدة، وقد سَجَّل القرآنُ الكريم هذا النَهْج الماكر في قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: {وَلا تَلْبِسُوا الْـحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْـحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].

 وفي هذا العصر أطلَّت علينا دعوةٌ غربيَّة ماكرة، أَدخلت تحت مظلَّة التعايش السِّلمي المعاصر ما ليس منه؛ كي تواري حقيقةَ المشروعات الخطيرة.

 وانطلاقاً مِن واجب الإسهام في النُّصح، كان هذا المقال الوجيز، الذي بيَّنْت فيه حقيقةَ أبرز دعوات التعايش الممنوع كـ (الإبراهيميَّة والتطبيع).

مفهوم التعايش:

مفردة العيش ومشتقَّاتها مادَّة مستخدَمة في اللغة العربيَّة، فبالرجوع إلى الدلالة اللغويَّة للفظ التعايش، نجد أنه مشتَقٌّ مِن العيش، والعيشُ كما قال ابن فارس هو: «الحياة والبقاء»[1]، وعايَشه: عاش معه، وتعايَشوا: عاشوا على الأُلفة والمودَّة، ومنه التعايش السِّلمي[2].

 ويُلحظ أنَّ لفظ التعايش ورد على صيغة (تفاعُل)، وهو ما يفيد وجودَ علاقة تشاركيَّة بين جميع الأطراف على الرَّغم مِن التنوُّع الفكريِّ والثقافيِّ بينهم.

ومِن خلال تتبُّع لفظ التعايش بتصاريفه المتعدِّدة في الذِّكـر الحكيم، يتَّضح أنَّه اسـتُخدم بهـذا المعنـى في سـبعة مواضع، منها قولُه سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} [النبأ: ١١][3].

أنواع التعايش:

يشتمل التعايش على نوعَين، هما[4]:

الأول: التعايش الإيجابي، ويتلخص في التعامل بالمعروف مع غير المسلمين مِن أهل الذمة أو المعاهدِين أو المستأمَنِين (سواء كان ذلك في الخِطاب، أو في مطلَق التصرُّفات)، وَفْقَ الضوابط الشرعية، والاتفاق على أُسس العيش والتصالح، وهو بهذا يتعارض مع مفهوم الأحادية والقهر.

والثاني: التعايش السـلبي الممنـوع، ونعني به: التعايش المخالف لتعاليم الإسلام، والتنازل عن شيء مِن العقائد والثوابت.

نماذج معاصرة من التعايش الممنوع:

ومِن أخطر مظاهر هذا النوع مِن التعايش نموذجان، هما:

الأول: تطبيع العلاقات مع الصهاينة المحتلين:

ويُقصد بالتطبيع: تحويل السلوك الجديد إلى ما يشبه الطبيعي، وقد برز التطبيع إصطلاحاً وإستراتيجية؛ لتذويب العداء مع اليهود المحتلين، ولإجراء تغيير في النفسية العربية والإسلامية؛ لتتقبَّل الكيان الصهيوني[5].

وقام بعض مَن يتصدَّر الدعوة والفتوى بتسويغ التطبيع مع اليهود الغاصبين بمعاذير كثيرة، ومن أهمِّ ما استندوا إليه قولُ الله تعالى: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]، كما استدلوا أيضاً بصلح الحديبية.

وإن الناظر بأدنى تأمُّل فيما استَند إليه المجوِّزون للتطبيع، يَظهر له بجلاء أنه لا يدل على جواز التطبيع البتة؛ وذلك لأسباب كثيرة، منها أنَّ الصهاينة لمْ يجنحوا إلى السِّلم أصلاً، كما أنَّ هذا التطبيع يتضمَّن الإقرار بحق الصهاينة في تملُّك أرض فلسطين إلى الأبد، تبعاً لذلك يتمُّ تجريم المشروع الجهاديِّ في سبيل تحريرها، فضلاً عن كونه ليس ناشئاً عن ضرورة لأهل فلسطين ولا لغيرهم، إضافة إلى أنَّه يقضي بمحبة الصهاينة ومودَّتهم، كما أن قياس التطبيع على الصلح قياس مع الفارق، كما لا يخفى.

وتجدر الإشارة إلى أن الحكومات المطبِّعة لا تبني مواقفها السياسية على الضوابط الشرعية أصلاً، وعليه فلا حاجة إلى ليِّ أعناق الأدلَّة الشرعيَّة؛ كي توافق مساعي التطبيع الآثم.

ولذا نخلُص مِن كلِّ ما سبق، إلى أنَّ هذا التطبيع محرَّم مِن جميع الوجوه (شرعيّاً ووطنيّاً وأخلاقيّاً ومصلحيّاً)[6]، وبناءً عليه يجب على كلِّ مسلم أن ينكر مساعي التطبيع بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، وأن يتبرَّأ منها بلسانه وقلمه إنِ استطاع ذلك، وأن يسعى إلى تغييرها بالطرق الشرعيَّة ما أمكنه، ومَن يتخلَّف عن ذلك، فإنه آثمٌ قلبه.

والنموذج الثاني: الدعوة إلى الإبراهيميَّة:

كثر تداوُل مصطلح الإبراهيمية منذ الإعلان عن اتفاق تطبيع بعض الدول في المحيط العربي مع الكيان الصهيوني المحتل برعاية أمريكية، وإنْ كان هذا المصطلح يتردد قبل ذلك بين فينة وأخرى، وقد جرى توقيع هذا الاتفاق في البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن، وذلك في منتصف سبتمبر 2020م، وأُطلق اسمُ (أَبْرَاهَام) على هذا الاتفاق؛ نسبة إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام (كما زعموا).

ويطلق هذا المصطلح على إحدى صورتين[7]:

الأُولى: التوفيق بين الإسلام والنصرانية واليهودية، مع الإقرار بصحتها جميعاً.

والثانية: إنشاء دين عالمي جديد ملفَّق أو مستخلَص مِن الإسلام والنصرانية واليهودية ومِن غيرِها.

وكلتا الصورتين تتعارضان مع مبادئ الإسلام الحنيف كما بيَّنتْ ذلك مجالس الفتوى.

وانطلاقاً مِن هذه الدعوة الباطلة أُنشئ مجمَّع يَضُمُّ معابدَ للأديان الثلاثةِ في محيط واحد، ثُمَّ تطوَّر الأمر إلى فكرة طبع القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، ثُمَّ تبع ذلك فكرةُ إقامةِ صلوات مشترَكة تجمع بين اليهود والنصارى والمسلمين.

وينتج عن هذه الدعوة - ولا بدَّ - إضعاف عقيدة الولاء والبراء أو إلغاؤها، والتنازل عن شيء مِن أمور الدِّين تحت شعار المشترَك الإبراهيمي، والاعتراف بالصحة لمبادئ الآخَرين وأديانهم ومعتقداتهم، وإلغاء الخصوصيات العقَدية والحضارية والثقافية.

وعلى الرغم مِن كون الإبراهيمية مصطلحاً دينياً؛ إلَّا أنَّ الدعوة إليها لمْ تكن بعيدة عن ميدان السياسة المعاصرة، لا سيَّما في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، ومن ثَمَّ فإن الدعوة إلى الإبراهيمية توطئة لتطبيع العلاقات مع الصهاينة المحتلين، وعليه فإن حقيقتها دعوة سياسية بصبغة دينية.

وخلاصة القول: إن مفهوم التعايش الإيجابي لا يعني بحال التفريط بشأن حقوق الإنسان، كأن يغتصب المحتلون البلاد الآمِنة بقوة السلاح، ثُم يحاولوا أن يخدعوا أهلها بالتنازل عمَّا نهبوه منهم تحت ما يروِّجوه مِن شعارات التسامح والتقريب وحوار الأديان والمشترَك الإبراهيمي والقيَمي، فهذا أبعد ما يكون عن التعايش بمعناه الشرعي الذي دعا إليه الرسل عليهم السلام جميعاً، بل هو عين الانهـزامية والتخاذل والتطبيع الـمُذِل[8]، وغاية مفهوم التعايش الإيجابي يتلخص في حُسن المعاملة، وإجراءِ التعاملات الدنيوية البحتة، وتحسين العلاقة المعيشية، والتعاون في تحقيق المصالح المشترَكة، وهذا لا غبار عليه.

مما سبق يتبين أن مصطلَحَي الإبراهيمية والتطبيع اللذَين صدَّرهما لنا الغرب - وذلك لمآرب خطيرة دينيّاً وسياسيّاً - مناقضٌ لنصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها، بل يُعدَّان نماذج مِن التعايش المحرَّم، كما تبيَّن أن اختيار الغربيين للمصطلحات التي يروجونها لدسائسهم يكون مدروساً بعناية كبيرة، ومِن ذلك مصطلح (الإبراهيمية)، إذ استغلُّوا رمزيَّة أبي الأنبياء إبراهيمَ عليه السلام لتمرير مشاريعهم.

 


 


[1] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، (عَيَشَ)، (ص 697). وانظر: الفراهيدي، العين، (عَيَشَ)، (2/ 189). والأزهري، تهذيب اللغة، (عَيَشَ)، (3/ 39).

[2] انظر: إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، (عَيَشَ)، (2/ 639).

[3] انظر: عبد الباقي، المعجم المفهرس، (عَيَشَ)، (ص 495).

[4] لمزيد تفصيل في أنواع التعايش انظر: سلمان العودة، مقال بعنوان: التعايش الحضاري، رابط المقال:  http://www.alwasatnews.com/news/227896.html

[5] انظر: القدُّومي، مصطلحات يهودية احذروها، (14 -  15).

[6] وممَّن ذهب إلى حرمة التطبيع مؤسَّسات دينيَّة كبرى رسميَّة ومستقلَّة، منها الاتحادُّ العالمي لعلماء المسلمين، رابط:www.alquds.co.uk . ووزارة الأوقاف الكويتيَّة، رابط: http://www.awqaf.org.kw ، وغيرهما.

[7] انظر: إسـماعيل علي، الإبراهيمية... بين خداع المصطلحات وخطورة التوجهات، (ص 5 - 9).

[8] انظر: نظام عساف، ســؤال التســامح، (ص 870). وحسن، آيات التسامح، (ص 29).

 

 


أعلى