على الرغم من وجود بعض الفتاوى الرسمية التي أجازت اتفاقية كامب ديفيد بناء على الضرورة وأنها اتفاقية صلح؛ وأنها تُعيد للمصريين حقوقهم المسلوبة؛ إلا أنهم لم يقصدوا التفريط بالحق الديني والشرعي في فلسطيني، أو التنازل عن القدس الشريف وتسليمه لليهود، أو ترك بيا
في ساحة الصراع مع الكيان الصهيوني قد تتجدد المواجهة والمقاومة، وقد لا تتوفر
الإمكانات والظروف للمواجهة الحاسمة مع المحتل طبقاً لأسباب مختلفة، منها: ضعف
الإيمان، ونقص الإمكانات والطاقات المادية، وعدم تحمُّل الأمة تبعات المواجهة
والمدافعة. وإذا جرت اتفاقية تهدئة أو هدنة بين الطرفين فإنَّ ذلك ليس مما تمنعه
العقيدة الإسلامية أو تحظره السياسة الشرعية؛ فالقول بمشروعية الصلح مع اليهود، أو
عقد الهدنة معهم، أو التهدئة؛ ليس كبيرةً ولا حراماً يُصار إليه؛ إذا ما كان هذا
ضمن شروط وضوابطَ الصلح والموادعة بين طرفي العداء التي ذكرها الفقهاء.
لكن ثمة مشروعات صارت تُهيْمن على مُقدرات الأمة المسلمة، وتُفرَض عليهم للرضا بها؛
بل يسعى لها كثير من الدول العربية بُغية الخلاص من القلاقل والمشاكل التي تعصف
بحال الأمة المسلمة في فلسطين وما حولها، وهذه المشروعات تختلف مسمياتها، ونتيجتها
واحدة؛ فتارة توصف باتفاقيات السلام، وأخرى ببنود التطبيع، وثالثة بمشاريع التسوية،
ورابعة بمبادرات العيش المشترك... والعامل الأساس في تكوينها تثبيت وجود الاحتلال
الصهيوني والمعتدي الغاشم الإسرائيلي، وإخضاع الأنظمة العربية للتعايش مع هذا
المحتل؛ ليس سعياً للسلام حقيقة؛ بل لنيل المكاسب السياسية والتجارية والاقتصادية
والسياحية والرياضية وغيرها لصالح المحتل الصهيوني؛ وليت الأنظمة العربية ينالها ما
ينال الكيان الصهيوني من تلك المكاسب.
ولأجل الانتفاع من الموروث الثقافي والسياسي الذي نستبطنُ من خَبَرِه العِبَر،
ونستوحي من دروسه الفوائد؛ آثرت الاستعلام من التاريخ المعاصر عن أول اتفاقية عربية
كانت بين الكيان المحتل الصهيوني وإحدى أكبر الدول العربية والإسلامية، فضلاً عن
كونها لصيقة ومؤثرة في المشهد الفلسطيني.
تلك الاتفاقية التي عُرفت باسم (اتفاقية السلام المشترك)، والملقبة بـاتفاقية كامب
ديفيد، التي وُقِّع عليها في 17 سبتمبر 1978م بين الرئيس المصري الراحل محمد أنور
السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن بعد 12 يوماً من المفاوضات في منتجع كامب
ديفيد الرئاسي في ولاية ميريلاند القريب من عاصمة الولايات المتحدة واشنطن، تحت
إشراف الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر.
وكان لهذه الاتفاقية قصة طويلة ولقاءات مسبقة سرية وعلنية؛ قبل التوصل لهذا الاتفاق[1]
الذي نص على قضايا عديدة، أبرزها:
أنه سلام عادل وشامل ودائم، وَفْقاً لقراري مجلس الأمن 242 و 338.
إنماء العلاقات الودِّية والتعاون بين البلدين (مصر، والكيان المحتل الصهيوني)
وَفْقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي التي تحكم العلاقات الدولية في
وقت السلم.
انسحاب إسرائيل من سيناء، ويقيمون علاقات ودِّية وطبيعية؛ وهي الاعتراف الكامل،
وعلاقات دبلوماسية واقتصادية وإنهاء المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع
المتميز المفروضة ضد حرية انتقال الأفراد والسلع.
التعهد والتكفُّل بعدم صدور فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو أفعال
العنف أو التهديد لها من داخل أراضي مصر، ويُتَعهَّد بالامتناع عن التنظيم أو
التحريض أو الإثارة أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب العدوانية أو
النشاط الهدَّام أو أفعال العنف الموجَّهة ضد الطرف الآخر في أي مكان كما يُتعَهَّد
بتقديم مرتكبي مثل هذه الأفعال للمحاكمة.
غير أن هذه القضايا الأربع تُقابلها عدة جوانب كان لكثير من العلماء والمفكرين
والسياسيين والمثقفين مناقشة لها، ولذكر تلك المرادات الأربع في الاتفاقية فقد كان
لما يُقابلها إيرادات أربعة، وهي:
أن السلام الشامل الدائم يعني قطع حالة النزاع مُطلقاً مع الكيان الصهيوني؛ وإخراج
مصر من دائرة الدفاع عن فلسطين مع وجود الاحتلال اليهودي فيها، وتصديق دعوى وجودهم
والاعتراف بأحقيتهم فيها.
أن قرار (242) الصادر عن مجلس الأمن ورد في المادة الأولى منه: الفقرة (أ):
«انسحاب
القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتُلَّت في النزاع الأخير».
وقد حذفت (أل) التعريف من كلمة (الأراضي) في النص الإنجليزي بهدف المحافظة على
الغموض في تفسير هذا القرار. وإضافة إلى قضية الانسحاب فقد نص القرار على إنهاء
حالة الحرب والاعتراف ضمناً بإسرائيل دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين التي عدَّها
القرار مشكلة لاجئين.
فضلاً عن أن هذا القرار جاء في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة التي وقعت
في يونيو 1967م والتي أسفرت عن هزيمة الجيوش العربية واحتلال إسرائيل لمناطق عربية
جديدة، ومع أنه منذ ذلك التاريخ؛ أي قبل خمسين عاماً وأكثر، ومع كونه يُطالب الكيان
الصهيوني بالانسحاب من تلك الأراضي 1967م إلا أنه ومع هذا كله لم تنسحب القوات
الصهيونية من الأراضي التي احتلتها، ولا زالت تُمارس الوصاية عليها وأعمال القتل
والقمع والتهديد والإرهاب والإبادة والتهجير وغزو المستوطنات، وهدم مؤسسات نُواة
الدولة الفلسطينية.
أن إقامة العلاقات الودِّية والاعتراف بإسرائيل وإقامة العلاقات المتكاملة بينهما
مؤدَّاه الاعتراف الكامل بحق وجود إسرائيل في فلسطين؛ وأن لها كامل الحرية في
التعامل الاقتصادي الذي تنتفع منه؛ إذ هي المهيمنة على أرض فلسطين؛ وأن البضائع
والسلع التجارية القادمة من فلسطين إلى مصر فإنها تتحكم بها؛ بل لها الحق في إقامة
استثمارات ومشاريع اقتصادية في مصر؛ وبهذا يزول أي أسلوبٍ أو تصوُّر عن أن الكيان
الصهيوني معتدٍ غاصب لأرض فلسطين؛ بل التعامل الطبيعي معه كما مع غيره من الدول
العربية.
أنها تقوم مصر بترسيم الاتفاق وتثبيت وجود الاحتلال الصهيوني؛ وأن الأصل في التعامل
معه أنه صاحب الأرض والبيت، وحرمان الطرف الفلسطيني من التحدث السياسي والديني باسم
أرضه ووطنه، وأن تمتنع مصر عن المشاركة بأي عمل هجومي يقوم به الاحتلال على الأراضي
المحتلة الفلسطينية أو غيرها من هضبة الجولان، وأن أي استهدافٍ فكريٍّ لمقاومة
التطبيع بأي شكلٍ ونوعٍ من أنواع الممارسة كذلك فإن صاحبه يُعَدُّ مجرماً يستحق
المحاكمة.
مواقف العلماء من التنازل عن أرض فلسطين لصالح اليهود:
كان لليهود في أواخر الدولة العثمانية مخطط تجاه أرض فلسطين لمحاولة الإقامة فيها؛
حتى إنه في عام (1891م) أرسل عددٌ من وجهاء ومشايخ فلسطين احتجاجاً إلى الصدر
الأعظم في الأستانة
«طالبوا
فيه بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، وتحريم استملاكهم للأراضي فيها»،
وعلى إثر هذه الرسالة صدر قانون عن السلطنة العثمانية سنة (1882م) يمنع الهجرة إلى
فلسطين على اليهود، ويمنع عليهم شراء الأراضي فيها[2].
ومنذ ذلك الحين كانت ثمة محاولات لاغتصاب أرض فلسطين من قِبَلِ شرذمة يهودية؛
تستعطف الدولة العثمانية بُغية الاستيطان والإقامة في فلسطين، وكانوا يُحاولون بشتى
الطرق لشراء بعض البيوت والأراضي والعقارات من سكان فلسطين الأصليين بحجة الإقامة
ليس إلَّا!
وقد تنبَّه علماء المسلمين إلى مخططات اليهود وأنهم لا يقصدون السُّكنى في فلسطين
فحسب؛ بل وراء الأكمة مؤامرات لاجتثاث الوجود الفلسطيني، ونستطيع القول: إن علماء
المسلمين كافة بشتى مذاهبهم الفقهية، ورؤاهم الفكرية، واختلافات توجهاتهم؛ كانوا
على قلب رجلٍ واحد في رفض وجود الكيان الصهيوني ورفض توطينهم؛ ورفض وجود دولتهم بعد
الإعلان عن احتلالها لأرض فلسطين وتجريم اعتبارها دولة شرعية؛ إذ هي لا تستحق
الاعتراف لاغتصابها شيئاً لا تملكه، ولا هي تستحقه.
وبعد اعتراف كثيرٍ من الدول بإسرائيل؛ رفض العلماء مشاريع التسوية التي تقوم على
مبدأ الاعتراف الكامل بحق اليهود على أرض فلسطين، أو التطبيع الدائم معهم الذي
يستوجب الإقرار بحق الكيان الصهيوني في اغتصاب أرض فلسطين؛ ولهذا تعددت فتاواهم
ورؤاهم الشرعية برفض كافة هذه المشاريع الظالمة، سواء أكان ذلك بتحريم التطبيع، أم
بعدم جواز بيع شبرٍ من فلسطين، أم بتأثيم من وقَّع على شيء من التنازل عن أرض
فلسطين، أم بخصوص اتخاذ موقف من إنشاء ما يُسمى بدولة إسرائيل... ووجوب الدفاع عن
أرض فلسطين وعدم السماح لاستقرار المغتصب عليها والاعتراف بأحقية يده في تملُّكها،
ومناقشة ادعاءات اليهود الدينية في حقهم بالإقامة على أرض فلسطين.
فتاوى علمية عالمية لرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني:
نذكر شيئاً من الفتاوى التي عارضت الإعلان عن دولة إسرائيل ومن أشهرها فتوى لجنة
الفتوى بالأزهر بشأن الموقف الإسلامي من إنشاء ما يسمى دولة إسرائيل ومن الدول
الاستعمارية التي تساندها ومن الصلح معها.
أولاً: فتوى لجنة الفتوى بالأزهر:
أُصدرت عام 1956م برئاسة الشيخ (حسنين مخلوف) مفتي الديار المصرية حينئذٍ فتوى جاء
فيها:
«الصلح
مع إسرائيل كما يريده الداعون إليه لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على
الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء
على عدوانه»[3].
ثانياً: فتوى علماء نجد لاستنكار تأسيس دولة يهودية في فلسطين:
جاء فيها عدم جواز إقامة حكومة يهودية وحكومة عربية إسلامية في فلسطين، وأن جعل
الولاية لليهود في بلاد الإسلام أمرٌ باطل محرم لأنه يعود على الإسلام وأهله
والحرمين الشريفين والبلاد المقدسة بأكبر الخطر وأعظم الضرر[4].
ثالثاً: فتوى علماء المؤتمر الدولي في باكستان:
وقد كانت هذه الفتوى الجماعية الضخمة تُعبِّر عن رأي علماء باكستان وما جاورها،
وعلى رأس الموقِّعين على هذه الفتوى الشيخ شفيع مفتي باكستان، والشيخ أبو الأعلى
المودودي وقد قالوا فيها:
«الصلح
مع هؤلاء المحاربين لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على غصبه، والاعتراف
بأحقية يده على ما اغتصبه»[5].
رابعاً: فتوى لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية:
فلقد كان محور إجابتهم عن سؤال: في حكم التنازل عن جزء من أرض المسلمين، سبق اغتصاب
غير المسلمين له وإقامة دولة عليه، إذا كان التنازل مقابل الجلاء عن جزء محتل أيضاً
من أرض المسلمين لإقامة دولة عليه منزوعة السلاح، فكان جوابهم:
«لا
يجوز التنازل لغير المسلمين عن أي جزء من أرض فلسطين، سواء أكان التنازل من أهل تلك
الأرض أم من غيرهم، ويحرم الاعتراف بالدولة التي تُقام على ما يُحتَل من أرض
المسلمين على الرغم من وجودها الفعلي على سبيل الاغتصاب والاحتلال»[6].
خامساً: فتوى الشيخ ابن عثيمين حول المعاهدة الدائمة السلمية مع اليهود:
وقد أفتى بجواز إقامة صلح ومسالمة مع اليهود إذا كان المسلمون في حال ضعف وعدم
قدرة؛ وأما المعاهَدَةُ الدائِمَةُ عَلى السلمِ وعَدَمِ الْحَرْبِ، فهذا لاَ يَجوزُ
إطلاقاً[7].
فتاوى علماء فلسطين في حكم الاعتراف بأحقية اليهود في فلسطين:
أما علماء فلسطين فقد كان لهم دورهم الكبير في حماية الأراضي الفلسطينية وتحريم
التنازل عنها أو بيعها؛ ورفض التعاون مع الكيان الصهيوني، وقاموا بنشاطاتٍ عديدة من
أبرزها:
مؤتمر علمي لحماية الأراضي المحيطة بالقدس بقيادة مفتي القدس في 28/12/1934م بناءً
على طلب مفتي القدس الحاج أمين الحسيني بهدف حماية الأراضي المحيطة بالقدس والمسجد
الأقصى[8].
موقف الشيخ عز الدين القسام؛ إذ تصدى لمحاولات اليهود شراء أراضي الفلسطينيين، وأمر
بمقاومتهم، وكان ينتقل بين المساجد في الدعوة إلى مقاومة بيوع الأراضي، ومحاربة
السمسرة والسماسرة، كما زار قرية سيلة الحارثية عام 1934م وبرفقته الشيخ كامل
القصاب والشيخ فرحات السعدي وأعطى درساً دينياً وطنياً دعا فيه إلى محاربة السمسرة
وباعة الأراضي لليهود[9].
فتوى جماعية في تحريم بيع أرض فلسطين لليهود؛ إذ انعقد مؤتمر ضخمٌ في مدينة القدس
26/1/1935م، حضره حوالي 400 مندوب من المفتين والقضاة والمدرسين والخطباء والأئمة
والوعاظ، وقد كان على رأس المجتمعين محمد أمين الحسيني مفتي مدينة القدس ورئيس
المجلس الإسلامي الأعلى، وجميع المفتين لكافة محافظات فلسطين، وانعقد اجتماعهم في
بيت المقدس بالمسجد الأقصى المبارك، وتباحثوا فيما ينشأ عن بيع الأراضي في فلسطين
لليهود من تحقيق المقاصد الصهيونية في تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة،
وبيَّنوا أن السمسار والمتوسط في الأراضي بفلسطين لليهود والمسهل له:
أولاً:
عامل ومظاهر على إخراج المسلمين من ديارهم.
ثانياً:
مانع لمساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وساعٍ في خرابها.
ثالثاً:
متخذ اليهود أولياء؛ لأن عمله يعد مساعدة ونصراً لهم على المسلمين.
رابعاً:
مؤذٍ لله ولرسوله وللمؤمنين.
خامساً:
خائن لله ولرسوله وللأمانة[10].
فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن شبر من أرض فلسطين، وقد صدرت في عام 1989م
فتوى جماعية وقَّع عليها عدد من علماء العالم الإسلامي، وجاء فيها: لا يجوز بحال من
الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وإن هذا الاعتراف خيانة لله والرسول
وللأمانة التي وكل إلى المسلمين المحافظة عليها[11].
تفريق علماء فلسطين بين القبول بالهدنة ورفض الاعتراف بإسرائيل دولة، فصَّل عدد من
علماء فلسطين في مسألة الفرق بين الهدنة مع العدو، والاعتراف بحق العدو؛ فالدكتور
ماهر الحولي يرى أن القبول بحل دولتين يكون بناء على هدنة لا تؤدي إلى ضياع الحقوق
وليس اعترافاً؛ لأن ذلك يعدُّ تفريطاً بالحق وإعطاءً للآخرين، وقد كان هذا موقف
مفتي فلسطين الشيخ محمد حسين، وهو الموقف الشرعي الذي أبداه الدكتور ماهر السوسي
أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة الإسلامية بغزة، وهو ما يتفق معه فيه رئيس محكمة
الاستئناف الشرعية في قطاع غزة الدكتور حسن الجوجو الذي عدَّ فلسطين أرض وقف إسلامي
«فهي
موقوفة على المسلمين فلا يجوز من وجهة نظر شرعية أن تكون موقوفة على غيرهم»،
وبيَّن أنه
«إن
كان الشيء الموقوف لا نستطيع أن نحصله كله فلا نعترف بشرعية الجزء غير المحصَّل
للغاصب، وفلسطين وقف مغصوب، ولو استطعنا أن نحصِّل بعضها فلا نُقِر بالجزء الذي لم
يُحصَّل، فيجوز أن نقبل بتحرير أي شبر يجلو اليهود عنه إما مقاومة أو صلحاً لكن دون
التفريط بالأجزاء الأخرى على الإطلاق[12].
فتوى مفتي فلسطين الحالي بتحريم تسهيل تمليك أي جزء من فلسطين للاحتلال؛ فقد أصدر
المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد أحمد حسين فتوى تحرِّم تسهيل
تمليك أي جزء من القدس وأرض فلسطين للاحتلال، وذلك أن هذا يعدُّ خيانة لله تعالى،
ورسوله صلى الله عليه وسلم ولأمانة الإسلام[13].
هذه بشكل عام فتاوى العلماء الفلسطينيين حول موضوع الاعتراف لليهود بفلسطين، أو بيع
اليهود أراضٍ يتملكونها، أو التنازل عن شبرٍ منها لصالح اليهود.
تنزيل للفتاوى على اتفاقية كامب ديفيد:
حين ننظر إلى جوانب اتفاقية كامب ديفيد؛ سنجد فيها بكل وضوح رفض الاعتراف الكامل
والشامل والمؤبد بحق اليهود المحتلين بجزء كبير من أرض فلسطين؛ فضلاً عن حسم أي
مساحة للعودة إلى المواجهة والمقاومة؛ بل على العكس من ذلك تقديم كل من يقوم بشيء
من ذلك إلى المحاكمة وعدُّه مجرماً؛ فضلاً عن فتح كافة التسهيلات في المجالات
الاقتصادية والسياحية والتجارية إضافة إلى مناطق كبيرة منزوعة السلاح في أرض سيناء.
وقد أقرت الاتفاقية بوجود حكم ذاتي للفلسطينيين إلا أن هذا على أرض الواقع ليس
كذلك؛ فالتدخلات الصهيونية صباحاً ومساءً تجري على قدم وساق في حكم السلطة للمناطق
التي تديرها؛ فضلاً عن عدم وجود ارتباط حقيقي بين المدن الفلسطينية تحت الحكم
الذاتي الفلسطيني، بل إن المدن الفلسطينية في الضفة الغربية أشبه ما تكون بمستوطنات
فلسطينية؛ ولكن الخط الواصل بينها يهيمن عليه المحتل الصهيوني ويفرض كافة العراقيل
في قطع الصلة بين هذه المدن وقتما يشاء؛ بل يدخل إلى مناطق ومدن الفلسطينيين في أي
وقتٍ يشاء ويعتقل ويسلب وينهب ويقتل دون رادعٍ أو زاجر.
وعلى الرغم من وجود بعض الفتاوى الرسمية التي أجازت اتفاقية كامب ديفيد بناء على
الضرورة وأنها اتفاقية صلح؛ وأنها تُعيد للمصريين حقوقهم المسلوبة؛ إلا أنهم لم
يقصدوا التفريط بالحق الديني والشرعي في فلسطيني، أو التنازل عن القدس الشريف
وتسليمه لليهود، أو ترك بيان عقيدة اليهود الفاسدة، أو موالاتهم.
فالشيخ الشعراوي كان مؤيداً لاتفاقية كامب ديفيد؛ لكنه حين تعرض لتفسير سورة البقرة
والمائدة كان يتحدث عن أوصاف اليهود ويبين عداءهم للمسلمين حتى أن بيغن طلب من
السادات وقف هذه الحلقات مع العشراوي لأنها تحتوي على رفض التطبيع مع اليهود.
ومع أن الشيخ جاد الحق أفتى بجواز اتفاقية كامب ديفيد إلا أنه رفض سياسة التطبيع مع
إسرائيل ما استمرت في اغتصابها للأرض العربية، وكان مما قاله:
«لا
سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية»،
ورفض فضيلته زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتى بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد
اتفاقية أوسلو عام 1993م بين السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيونية، وكان يقول:
«إن
من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم... والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه
إلى القدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة يرتفع فيها
ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس
ومسجدها الأسير».
بل إنه رفض أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان إبَّان زيارته للقاهرة، وبعد
عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م، وهو ما سبب حرجاً شديداً للحكومة المصرية وللرئيس
الصهيوني.
وأثناء تولى الشيخ جاد الحق مشيخة الأزهر نقلت أمريكا سفارتها من تل أبيب إلى القدس
عام 1995م فأصدر الأزهر بيانه الذى يدين هذا القرار ويصفه بأنه
«دعم
للمعتدي الظالم»
وعدَّ القرار الصادر عن الكونجرس الأمريكي تأكيداً لاغتصاب القدس وتأكيد احتلالها
من إسرائيل.
خلاصة المقال:
اتفق عموم علماء وفقهاء المسلمين المعاصرين وعلى رأسهم علماء فلسطين أنه يحرم
تحريماً قاطعاً الاعتراف لليهود بوجود حقٍّ شرعي لهم في فلسطين.
أن الاعتراف بدولة لهم تحمل مُسمى (إسرائيل) وإجراء التطبيع معهم وعقد الصفقات
التجارية والاقتصادية معها؛ فإن هذا مِما يُخلُّ بمعاقد الولاء والبراء.
أن الاعتراف بدولة لليهود في فلسطين يلزم منه الاقتناع بوجود حقٍّ لهم على هذه
الأرض؛ وأن ما جرى من مقاومة سابقة في البقاع التي سيُعترف لهم بوجود دولة فيها،
أنها كانت مقاومة باطلة، وأن يهود المحتلين كانوا مظلومين لا ظالمين، وأنها ليست
عصابات احتلال واغتصاب بل أناس أرادوا تحرير وطنهم؛ فالظالم المسلمون والفلسطينيون،
والمظلوم اليهود ومن عاونهم.
أن عقد هدنةٍ أو تهدئةٍ أو صلحٍ مع يهود ليس بسبب استضعاف المسلمين، أو أن ظروف أهل
فلسطين لم تعد تستطع مقاومة اليهود، وفي المقابل يخضع اليهود للهدنة ولا يكون من
قِبَلِهِم خرق لها؛ فإن هذا جائز شرعاً.
تجريم المقاومة والجهاد في فلسطين للمحتلين اليهود المغتصبين، وكل من يقوم بذلك
يُعدُّ مُجرماً ويُقدَّم للمحاكمة؛ فإن هذا خيانة لأمانة فلسطين التي استرعاها الله
المسلمين عموماً.
أنه يحرم حرمة قاطعة التنازل عن أي شبرٍ من أرض فلسطين، أو بيع شيء منها، وأن من
فعل ذلك فقد وقع في موالاة الكفار، وتنازل عن شيء ليس من حقه لمن لا يستحق ولا
يملك.
[1] معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل واتفاق الحكم الذاتي في الضفة والقطاع، وزارة
الخارجية المصرية، القاهرة، 1979م، ص43 - 47.
[2] ناجي علوش: الحركة الوطنية، ص89.
[3] مجلة الأزهر: المجلد السابع والعشرون، سنة 1955، 1956م، ص682 - 686.
[4] مجلة الفتح العدد 563 الصادر بتاريخ 12 جمادى الآخرة 1356- 1936م.
[5] الهيئة العربية العليا لفلسطين، حكم الإسلام في قضية فلسطين، ص 16 - 19. أخذاً
من كتاب (فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين) إصدار جمعية
الإصلاح الاجتماعي - الكويت، (1419هـ - 199م) ص67 - 74 .
[6] كتاب وزارة الأوقاف الكويتية (كتاب السياسة الشرعية) فتوى رقم: ( 1698).
[7] كتاب: ( في رثاء الشيخ ابن عثيمين )، لمؤلفه: ( محمد حامد أحمد )، ص52.
[8] جريدة الجامعة العربية بتاريخ 13/1/1935، عدد (1517).
ويُنظر: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 - 1948م، بيان نويهض الحوت
(بيروت - مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى) الوثيقة رقم 19، ص741.
[9] سميح حمودة، الوعي والثورة، دراسة في حياة الشيخ عز الدين، جمعية الدراسات
العربية، المطبعة العربية الحديثة، الطبعة الأولى 1985م، ص46.
[10] وكان ذلك تحريراً في 20 شوال سنة 1353هـ الموافق (كانون الثاني 1935م) كتاب:
القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 - 1948م، بيان نويهض الحوت جدول رقم
39، ص880 - 881.
[11] الفتوى بكاملها وتوثيقها ضمن كتاب: صراعنا مع اليهود بين الماضي والمستقبل،
محمد إبراهيم ماضي، ص115.
[12] إجماع فقهي فلسطيني على رفض الاعتراف بإسرائيل:
http://www.alaqsavoice.ps/index.php/news/details/10947
[13] فتوى تحرم تمليك أراضي فلسطين للاحتلال
https://www.maannews.net/Content.aspx?id=954651