• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ليبيا بين باشاغين عدوّ الأمس وصديق اليوم

من عجائب المشهد الليبي أن صار أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وتغيرت القناعات وتبدلت المبادئ، ولم يبقَ من انتفاضة شعب ثار على جلاده إلا بقية من شعارات وصراعات على أشلاء أمة لم تزل دماؤها تسيل حتى اليوم، وزعامات نسيت أو انتكست

 

منذ ما يقارب العقد من الزمان وليبيا منقسمة على نفسها، بين شرق وغرب، لكلٍّ منهما مؤسساته وتحالفاته وأذرعه السياسية والإعلامية. في الشرق يقف العقيد المتقاعد خليفة حفتر - الذي رقَّى نفسه ليصير مشيراً - وذراعه السياسي عقيلة صالح، ممثلاً لدى كثير من المراقبين امتداداً لدولة القذافي بكل خيطوها العنكبوتية التي نسجتها حول المجتمع الليبي مدة أربعين سنة. في حين يمثل معسكرَُ الغرب والحكومة المدنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة والمجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري، امتداداً للحالة الثورية وإن تمَّت عسكرتها بعد ذلك. إنه صراع مشروعين، أو منهجين أحدهما يشد ليبيا إلى مخلفات الماضي، والآخر يتطلع إلى الانعتاق من ظلماته.

منذ أن أعلن حفتر عملية الكرام في عام 2014م للسيطرة على كامل ليبيا وإخضاعها بالقوة تحت رئاسته بحجة إنقاذ البلاد من الفوضى والإرهاب، ومحاولاته العسكرية للهيمنة على البلاد لم تنتهِ حتى كانت محاولة الاستيلاء على طرابلس في عام 2019م، التي فشلت فشلاً ذريعاً، أيقنت بعدها القوى الداعمة لحفتر أنه لا حلول عسكرية يمكنها حلُّ الأزمة الليبية بشكل سريع ودائم. غير أن قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر - وفقاً لتوصيفه - لا يبدي أية مرونة في حوار أو توافق، ويبدو الرجل بشخصيته وتحالفاته لا يقبل بأقل من رئاسة ليبيا، ولا يرغب ألا أن يكون رئيساً مطلقاً بزيٍّ عسكري.

في الطرف الآخر يقف فتحي باشاغا من مواليد مصراتة القريبة من العاصمة طرابلس غرب ليبيا، وكان من ضمن الضباط الذين استعادتهم الثورة ليشاركوا في القتال ضد قوات القذافي، ثم التحق بالمجلس العسكري لمصراتة بعد الثورة، وبمجلس الشورى في المدينة. وقد أكسبه هذا نفوذاً عسكرياً؛ وخاصة أنه كان طياراً مقاتلاً في القوات الجوية الليبية.

سياسياً انتُخب باشاغا عضواً في البرلمان عام 2014م، وكان أحد الموقِّعين على اتفاق الصخيرات في 17 ديسمبر 2015م، الذي أنتج المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق وظل أحد أركانها، وتولى وزارة الداخلية في حكومة الوفاق عام 2018م، وساهم في التصدي للعدوان الذي قاده اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على طرابلس في 2019م. وتعرَّض وقتها لمحاولة اغتيال نفَّذتها مجموعات تابعة لقوات حفتر، إلا أنه نجا منها خلا بعض الإصابات.

يحظى باشاغا بدعم رئيس الحزب الديمقراطي المنشق عن حزب العدالة والبناء. وهو حزب مصنف إسلامياً.

يبدو المشهد الليبي شديدَ التعقيد: برلمان مطعون في شرعيته بقرار من المحكمة، منتهيةٌ ولايته لكنه يمدد لنفسه، يعزل حكومة غير منتخبة لكنها جاءت عبر اتفاقات وتوافقات دولية، يمنح لنفسه حق إقالتها وتعيين غيرها. ويصدر إعلاناً دستورياً. ويفصِّل القوانين على مقاسات حفتر وأعوانه، فيلغي تزامن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ويعجِّل بالرئاسية ويؤخِّر الثانية لشهرين. حتى إذا استتب الأمر بالرئيس مع برلمانه الموالي اكتملت الأنشوطة وبات الفرار من براثنها صعباً. فيمكن وقتها تدبير انتخابات مفصلة من سلطة أمسك حفتر بكل تلابيبها أو تأجيلها لأجَل غير مسمى.

ومن عجائب المشهد الليبي أن صار أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وتغيرت القناعات وتبدلت المبادئ، ولم يبقَ من انتفاضة شعب ثار على جلاده إلا بقية من شعارات وصراعات على أشلاء أمة لم تزل دماؤها تسيل حتى اليوم، وزعامات نسيت أو انتكست.

منذ أسابيع قليلة كانت قوائم الترشيحات للانتخابات الرئاسية تتوالى على لجنة الانتخابات، لم يبقَ من أطراف الأزمة الليبية أحد إلا قدَّم نفسه لاعباً على خشبة المسرح السياسي الليبي حتى القذافي الابن رأى نفسه أهلاً للرئاسة وارتدى عباءة أبيه حرفياً وليس مجازياً، خارجاً على شاشات التلفاز يوقِّع طلب الترشيح، خليفة حفتر الذي ما زالت المقابر الجماعية المكتشَفة كل يوم تنبئ عن وحشية الرجل واسترخاصة لدماء الشعب الليبي... وكثيرون غيرهما، الكل يبحث عن شرعية يتبوأ بها سدة الحكم؛ منهم من أراد أن يَهَب لنفسه سلطناً ومجداً، ومنهم من أراد الإصلاح، ومنهم من أراد أن يكمل المجزرة التي بدأها ليجْهِز على ما تبقَّى من أنفاس حرية لدى شعب مكلوم.

وإنما مَثَل باشاغا اليوم بعد دعم البرلمان الليبي له ليكون رئيساً للوزراء بدلاً من الديبية تحت مظلة حفتر وميليشياته وأعوانه، كمثل نملة فطر الكورديسبس الذي ينمو في غابات البرازيل، ولا ينمو هذا الفطر إلا عبر جسد نملة غافلة اقتربت منه فوقع غباره فوق جسدها فيستولي عليها ويدفعها إلى مكان عالٍ بعيداً عن خليتها وينمو رويداً رويداً داخلها حتى إذا اكتمل نموُّه خرج من رأسها متغذياً على ما تبقَّى من جسدها، ولم يُبقِ منها إلا بقايا غباره متحفزاً أن يسقط فوق جسد غافلة أخرى وما أكثر الغافلات؛ وإلا لَـمَا نما هذا الفطر واشتُهر أمره.

وهكذا حال كلِّ من اقترب من ظالم فأصابه غباره فلا يتركه إلا مستباحاً مجرداً من كل شيء... من الجسد والمبدأ والتاريخ فهو يمحو عنه كل شيء.

ومع تقلُّب المواقف وتبدُّل القناعات يقف الشعب الليبي اليوم بين حرية واستبداد، وكرامة وذلٍّ، حياة ونصف حياة ويقف أيضاً بين باشاغين أحدهما ناضل من أجل الحرية أو هكذا كان يبدو، والآخر مستباح من قبل الظالمين أو ربما غُرِّر به.

 


أعلى