إن الناظر اليوم في الواقع التربوي السائد في المدارس يجد أنه واقع مرير يحتاج إلى ابتكار مقاربات تربوية تعليمية تتميز بنوع من الانفتاح على المحيط البيئي، وتمنح المتعلمين الفرصة في الاختيارات التربوية، التي تجعلهم يحسون بالحرية في التعامل مع المعطيات التربوي
أصبح قطاع التعليم والتربية من أهم القطاعات المحقِّقة للتنمية المستدامة في أي
مجتمع، بل إنه هو عماد المجتمعات ومقياس تخلُّفها وتقدُّمها، وقد أضحى الاعتناء به
من أولويات تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية والسياسية والاجتماعية في أي مجتمع.
ومعلوم أن قيمة المجتمعات ليس فيما تمتلكه من أسلحة ومصانع ومنتجات؛ وإنما قيمتها
في نظامها التعليمي والتربوي، القادر على صناعة الكفاءات البشرية القادرة على
الإبداع في شتى مجالات الحياة.
ولا شك أن قوة أي نظام تربوي تعليمي في العالم، تكمن في قدرته على حسن الأداء
البيداغوجي، وتفاعله الإيجابي مع واقع المتعلم، واستثمار قدراته وطاقاته وقواه
الخفية في التعلم، والارتقاء بها عمودياً وأفقياً حتى يكتسب القواعد المنهجية،
والقيم العليا، والرؤى الفكرية والمهارات العقيلة والقناعات الوجدانية التي تجعله
مزوداً بهذه العُدَد القيمية والعقلية والفكرية والعلمية المؤهِّلة له، ليسهم بها
في تحقيق التنمية من خلال سلوكياته وتصرفاته التي تكشف للمتتبعين أثر الأداء
البيداغوجي في التوجيه الخلقي والسلوكي، وحتى يتحقق ذلك على أكمل وجه ويصبح واقعاً
فعلياً وممارسة واقعية، كان لا بد من تجديد خطاب التدريس في المدرسة من خلال اقتراح
بدائل تربوية ومنهجية وبيداغوجية جديدة في طريقة التعليم والتدريس، التي يكون لها
أثر ملحوظ في تغيير التعلمات الحالية والمناهج التقليدية القديمة التي يلمس فيها
المتتبعون لها أنها تصير في اتجاه واحد دون أن تفتح بدائل للتعلم جديدة من شأنها أن
تسهم في تحقيق الإبداع والابتكار التربوي، وهو ما يستدعي نقد المسلَّمات المعمول
بها في الأداء البيداغوجي الحالي، والتفكير في العمل بخطط تربوية محْكَمة قادرة على
تشخيص الواقع والارتقاء به إلى ما يحقق نجاح المدرسة خصوصاً، والواقع التربوي
عموماً، وحتى يتحقق هذا فقد أحببت أن أتناول الموضوع وَفْقَ المباحث الآتية:
المبحث الأول:
واقع التدريس في الفضاء المدرسي:
إن الناظر اليوم في الواقع التربوي السائد في المدارس يجد أنه واقع مرير يحتاج إلى
ابتكار مقاربات تربوية تعليمية تتميز بنوع من الانفتاح على المحيط البيئي، وتمنح
المتعلمين الفرصة في الاختيارات التربوية، التي تجعلهم يحسون بالحرية في التعامل مع
المعطيات التربوية، ولا شك أن ضعف دور المدرسة في تحقيق التواصل مع البيئة
والمجتمع، لَيُعدُّ واقعاً يُظهِر اضمحلال دورها في حياة المتعلمين، ومن بين مظاهر
الضعف التي يلاحظها المتتبعون للشأن التربوي ما يأتي:
•
غياب التجديد في ابتكار وسائل تواصل جديدة بين المدرس والمتعلم، تعزز قناعات
إيجابية في نفوس المتعلمين، وتدفعهم إلى الابتكار، وتتميز بقدرتها على نقل المتعلم
إلى اكتشاف عالمه الخفي المليء بالطاقات والقدرات والمواهب، وينطلق منها من أجل
استثمارها بإيجابية في الواقع المدرسي والاجتماعي.
•
سيادة نمط معرفي معيَّن، لا يتيح الفرصة للمتعلم في الاختيار التربوي الذي يقوي
اعتزازه بقيمة ما يختاره. وغلبة ما يسمى بظاهرة التلقين داخل الفصول الدراسـية التي
تجعل المتعلم لا يشعر بالحرية في التعلم، ولا يبدي أي نقد للأفكار والمكتسبات، وهذا
النمط - بلا شك - يقتل الإبداع في نفوس المتعلمين.
•
هيمنة الجانب المعرفي على الجانب المهاري والوجداني والعقلي، وهو واقع يسود فيه هذا
النمط المعرفي المحض الممل الذي يهدف إلى صناعة حافظ آلي، وليس متعلماً مبدعاً
يمتلك مهارات فكرية، تؤهله ليبدع في توظيف العلوم وبناء النظريات العلمية في محيطه
الاجتماعي.
•
التركيز على جانب الحفظ، والتقويم بالنجاح بناء على تحققه، ولهذا يمدح الحفاظ
للمعارف ويعظم حافظهم بين صفوف المتعلمين، وهذا ليس عيباً، لكن العيب أن يكون الحفظ
غاية في نفسه، دون أن يُلْتَفَت إلى ضوابطه وقوانينه، لأن أي فعل تربوي تجاوز حدوده
ينقلب على صاحبه بالسوء، حتى الناس في قضية الحفظ ليسوا سواء، ولهذا لا يمكن أن
ينزل قانونه عليهم جميعاً.
•
الاستمساك بطريقة التلقين في تدريس المواد المدرسية، وهي من أيسر ما يستعمله
المدرسون، مع أن هذه المواد في نهاية المقام هي مواد تربية وتعليم وليست مجرد تلقين
للأفكار والمعلومات، وهو ما يلمسه المتخصصون ظاهراً في فلسفتها وأبعادها، ولهذا
فرَّق أبو هلال العسكري بين التعليم والتربية فقال:
«إن
التلقين يكون في الكلام فقط، والتعليم يكون في الكلام وغيره تقول: لقنه الشعر
وغيره، ولا يقال: لقنه التجارة والنجارة والخياطة، كما يقال: علمه في جميع ذلك،
وأخرى فإن التعليم يكون في المرة الواحدة، والتلقين لا يكون إلا في المرات، وأخرى
فإن التلقين هو مشافهتك الغير بالتعليم، وإلقاء القول إليه ليأخذه عنك، ووضع الحروف
مواضعها والتعليم لا يقتضي ذلك. ولهذا لا يقال: إن الله يلقن العبد، كما يقال: إن
الله يعلمه»[1].
المبحث الثاني:
مقترحات تجريبية لتطوير بدائل التدريس في الفضاء المدرسي:
يعدُّ التدريس من أخطر المجالات التي توجه سير المجتمعات الإنسانية، وهذا المجال
الحيوي لا يمكن أن يحقق أهدافه وغايته في النهوض بالفرد والمجتمع، إلا إذا اشتغل
وَفْقَ نظريات تربوية علمية، واعتمد على بدائل جديدة تُبْنى على ضوئها المفاهيم
والقيم، وتحدد بها مظاهر النقص والخلل في تلقين المعارف وتصنيف المعرفة في مجال
تدريس المواد المدرسية، وصولاً إلى النتائج الصحيحة، ومن بين بدائل التدريس التي
ينبغي اعتمادها من أجل تجويد الأداء البيداغوجي، وتحسين جودة التدريس المواد
المدرسية ما يلي:
أولاً: التدريس عن طريق المزج بين أمرين:
الأمر الأول: بناء الملكات النفسية الكامنة في التركيبة الإنسانية، التي تحتاج إلى
طرق مبتكرة لتنميتها في نفوس المتعلمين، وهي من أهم ما ينبغي السعي إليه، وإلا
عُدَّ التعليم لغواً وعبثاً، لا يحقق التعلُّمَ الذاتي عند المتعلمين.
قال ابن خلدون:
«وحُسْن
الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، تزيد الإنسان ذكاء في عقله
وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ قدمنا أنما تنشأ بالإدراكات، وما
يرجع إليها من الملكات»[2].
فيكون تحصيلها من أهم المقاصد التي ينبغي الحرص على نيلها سواء بالنسبة للمدرس أو
الدرس التعليمي أو الدارس من خلال استمساكه بطرق بيداغوجية تنميها وترسخها في نفوس
المتعلمين، قال ابن خلدون:
«فيكون
الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد
عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء يبلغونه لمن تلقاه، فليقن ذلك
عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد من الحقائق، وينظر ما
يعرض له لذاته واحداً بعد آخر، ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة
ملكة له»[3].
وتكمن أهمية تنمية الملَكات في نفوس المتعلمين في كونها معياراً علمياً دقيقاً يجنب
من الوقوع في كثير من الآفات العلمية التي يلمسها الخبراء والدارسون للواقع
المدرسي، وهي كثيرة، منها:
- مشكلة تكديس المعارف بدل السعي إلى بنائها في الذات، وترسيخ الملَكات في النفس.
- مشكلة الاستهلاك المعرفي بدل تفعيل الإنتاج الفكري والتجديد العلمي.
الأمر الثاني: التدريس عن طريق بناء المهارات التي يمكن اكتسابها، بإجراء خطوات في
غاية الدقة:
يتطلب تعليم المهارات التربوية التعرف على طبيعة العملية التعليمية، ومقاصدها، ووعي
المتعلم بأهم النشاطات التربوية التي ينبغي أن يؤديَها، واستحضاره لذاته في أثناء
تعلمه، وتعديل مساره وتوجيه اختياراته وفق مقتضيات عملية تعلم المهارة، لحصوله على
نتائج أحسن في أثناء ممارسته التعليمية.
وتعلُّم المهارات التربوية التعليمية، ينبني على أساس الفهم والاستيعاب التام
للعملية التعليمية، وهو ما يتطلب استثمار الطاقات التي تحصل عن طريق التفاعل بين
المتعلم والمهارة موضع التعلم، ويتوقع أن تنمى ملكات تتعلق بالأداء اللغـوي، والوعي
الاجتماعي والوعي الثقافي عند المتعلم.
ومن بين أهم الأسس التي ينبغي الاستعانة بها في تعليم المهارات:
- اعتماد منطق علمي صحيح، وحُسن التدريب الفني الجيد.
- الممارسة العلمية العملية المحكمة.
- توزيع فترات الممارسة على إتقان المهارة بدل تجميعها، لأنه سيكون على حساب إضعاف
المهارة التربوية من حيث استيعابها من طرف المتعلم.
- صحة الأداء التعليمي للمهارة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ومهما كان فإن تعلم المهارات التعليمية، يحتاج إلى قدر كبير من التدريب المستمر
المبني على المعرفة الصحيحة، فتنمية المهارات الذهنية، يستدعي التدريب والممارسة
الجيدة للأساليب الفكرية الصحيحة، وتعويد المتعلم في المواقف التعليمية على نقد
الفكر الخطأ، بتعويده على كشف مواطن الخلل والضعف فيه، وهو ما يؤدي إلى دقة التفكير
ووضوحه وعدم تناقضه.
ثانياً: التدريس عن طريق بيداغوجية الخطأ:
وهي أن يسعى المدرس في جميع المواد إلى إدخال خطأ تربوي أثناء إرسال محتوى تعليمي
إلى التلميذ، والهدف من ذلك هو إثارة انتباه المتعلم إلى الانخراط بقدرته التركيزية
على كشف مواطن الخطأ، وهي من المهارات التربوية التي ينبغي أن يرسخها المدرس في
المتعلمين حتى يتحقق في نهاية العملية التعلمية مدى قدرة المتعلم على التمييز بين
صحيح الأفكار وفاسدها، وبين صدق المعارف من كذبها، وهي من أهم الطرق الكفائية
المحققة للتعلم الذاتي عند المتعلمين.
ومما يؤسَف له هو أن الخطأ في التدريس لا يستثمر أحسن استثمار، بل إنه في أحيان
كثيرة، يكون سبباً لموت القدرات وإفشال المتعلمين وموت المواهب، بدل تشجيعهم على
الابتكار في الحياة المدرسية.
ثالثاً: التدريس عن طريق تفعيل فلسفة اللعب التربوي:
وهي طريقة تربوية محْكَمة ودقيقة يمزج فيها المدرس بين جوانب متعددة في شخصية
المتعلم مثل الجانب الجسمي والنفسي والعقلي. ويسعى إلى المزج فيها بين المعارف
العلمية وتنمية القيم وتقوية العقل وتنمية الجسم، وهذه الطريقة تحقق استجابة فعالة
للمتعلم، وسهولة اندفاعه واستيعابه لكل المعطيات المعرفية.
وتكتسي هذه الطريقة أهميتها في كون التعليم عملية تتعلق بكل الجوانب الكامنة في
الشخصية الإنسانية، بمعنى آخر: التعليم هو نظام شامل ينبغي أن يخاطب بقواعده
المتعلم بكامل جوانبه، لأن تعطيل جانب من الجوانب مثل الجانب الحركي يؤثر سلباً على
تعطيل بقية الجوانب العقلية.
ولا بد من إعداد بيئة تربوية مناسبة للمزج بين التدريس واللعب، بحيث يصير اللعب
تربوياً وسيلة محقِّقة لمقصد التربية والتعليم، بمعنى آخر: يقوي الدافعية عند
المتعلم، ولا يسهم في إرهاق الجانب المتعلق بالعقل والنظر والتركيز.
ولا بد من إعداد مخططات للتعلم، حتى يتناسب اللعب مع أهداف العملية التعليمية، حتى
لا يصبح اللعب لغواً، يخرج فيه المتعلم عن مقاصد التربية والتعليم.
وأهم مرحلة مدرسية ينبغي العناية بها في تنزيل هذه الطريقة، هي المرحلة ما قبل
الابتدائي والمرحلة الابتدائية، وحتى الإعدادية، والثانوية.
ومن أهم منافع هذه الطريقة التربوية هي تحبيب المتعلم بالمدرسة، وخلق تواصل إيجابي
بين المدرسة والمتعلم، ودفع المتعلم إلى الإبداع والعطاء.
واللعب يسهم في تحقيق أبعاد تربوية في المتعلم، منها:
- تنمية الذات، عن طريق وضع المتعلم في وضعيات مشكلة يسعى من خلالها إلى حلها
بوسائله العقلية والفكرية.
- خلق قيم التعاون مع المتعلم، عن طريق تعويده على فن التحليل والملاحظة، وتحقيق
التنافس التربوي الذي يطور ويرتقي بالجانب المعرفي والقيمي عند المتعلم.
مثلاً: يمكن استعمال مجموعة من الكرات: يعني كرة القدم ويكون مكتوباً فيها أرقام من
1 إلى 10 وتكون سلة تجمع عدد الكرات، وهنا تستعمل لتعليم عملية الجمع أو الطرح أو
الضرب، وكلها ممكنة، ويمكن تجريبها حسب المواقف التعليمية، ولا شك أن دافعية
المتعلم ستكون عالية للانخراط بأريحية في العملية التعليمية.
رابعاً: التدريس عن طريق أسلوب اعتماد الأدوار التربوية وتوزيعها بين المدرس
والمتعلم:
وهو أن يستعمل المدرس طريقة تقمص أدوار معينة داخل القسم هو بنفسه أو بالاتفاق مع
أحد المتعلمين داخل الفصل، من أجل أن يوصل رسائل تربوية من صميم الأهداف أو
الكفايات التي لا يتحقق الدرس التعليمي إلا عن طريقها، وهذا أسلوب تربوي عظيم، يشرك
المتعلم في العملية التعلمية، ويجعله فاعلاً في الحياة المدرسية، ومما يؤسف له أنه
مغيب في الواقع المدرسي، مع أنه وظفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حينما تقمص الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية العالم، وجبريل شخصية الرجل المتعلم، وأهم شيء كان في هذا الحوار التعليمي
التربوي هو إثارة الفاعلية والدافعية للاكتشاف عند المتعلم، والدليل على ذلك هو
قولهم: طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يعرفه منا أحد.
خاتمة
نستنتج مما سبق أن الواقع المدرسي هو واقع معقد، ولا يمكن فهمه أو إدراكه بمقاربات
تربوية بسيطة وجاهزة، غير قادرة على تحليل الواقع التربوي والغوص في عمق شخصية
المتعلم، من أجل استنهاضه بمختلف الطرق التعليمية التي تناسب واقعه، حتى يتحرك
بدافعية قوية وسلوك سوي إلى بناء الذات، وتنزيل المهارات في المجتمع، وهو ما يسهم
في عودة دور المدرسة باعتبارها أداة مسهمة في تحقيق التنمية البشرية، وتنمية
الشخصية الإنسانية، وإعدادها نحو الإبداع والابتكار التربوي.
[1] الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد سليم، ص82.
[2] مقدمة ابن خلدون، ص335.
[3] مقدمة ابن خلدون، ص392.