حين يكون الرجل على قدر من القوة والأمانة؛ يتحمل المسؤولية ويبذل من نفسه لزوجته فإنه يجب عليها أنْ تسير في ركابه وتحت جناحه في غير معصية لله
{فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ 25 قَالَتْ
إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الأَمِينُ} [القصص: 25 - 26].
للوهلة الأولى يلمس القارئ أربع خصال تربَّى عليها هذا البيت الكريم:
أولها: الحياء والاحتشام، الذي يلمسه في مجيئها الحَيي وكلامها المحتشم.
وثانيها: بِرُّ البنات بأبيهن، الذي يلمسه في خدمتهن له، والقيام بأعماله، وحُسن
خطابهنَّ له.
وثالثها:
العقل وحصافة الرأي، الذي يلمسه في فَراستها وطلبها استعمالَه على رعي الغنم إجارة.
ورابعها: الكرم والشهامة، الذي يلمسه في مبادرة أبيهما بدعوة موسى وإكرامه ومكافأته
وتأنيسه من وحشته وتأمينه من خوفه.
وهذا من حُسْن تدبير الله تعالى لموسى عليه السلام؛ فإنَّ الله تعالى حين أراد أنْ
يهيئ موسى للمهمة العالمية العظيمة قدَّر له أنْ يكون حاضراً حين اقتتل القبطي
والإسرائيلي؛ ليتخذ بعدها قرار الخروج من مصر والفرار منها، فيمكث الأيام والليالي
طريداً جائعاً خائفاً، ثم يدخل مدين فيجد امرأتين تذودان، فيسقي لهما، فيسخِّر الله
له هذا البيت الطيب ليكون فيه سكنُه ومأمنه ومعاشه وحياته الجديدة، بعد الخوف
والفرار، وبعد مجاورة الطغاة والظالمين، فيمكث في مدين عشر سنوات فَقِه فيها الحياة
وتعلَّم كثيراً من شؤونها، واتسعت مداركه وتزوَّج من خير بيوت الأرض حينها حشمةً
وحياءً وكرماً وشهامة وعقلاً وحصافةَ رأي.
المعايير الراجحة:
لقد كان من شأن إحدى المرأتين أنْ تفرَّست في موسى أهليَّته لتولي أعمال البيت
الخارجية، من رعي الغنم والسقي من الجب... ونحو ذلك، وكان من شأن أبيها أنْ عرض على
موسى تزويج إحدى ابنتيه، فقال لموسى: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِـحِينَ} [القصص: 27].
وأول مَعْلَم
نراه في هذه المصاهرة مبادرة الشيخ الكبير بِعَرض إحدى ابنتيه لتكون زوجة لموسى،
قال القرطبي:
«فيه
عرض الولي ابنته على الرجل، وهذه سنة قائمة، عرَض صالحُ مدين ابنته على صالحِ بني
إسرائيل، وعرَض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها
على النبي صلى الله عليه وسلم . فمن الحَسَن عرْض الرجل وليَّته، والمرأة نفسها على
الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح»[1].
وثاني مَعْلَم
في هذه المصاهرة، تلك المعايير التي بوجودها رغب الشيخ الكبير تزويج موسى إحدى
ابنتيه، وهي ذاتها ينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«إذا
خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»[2].
وفي هذا الحديث بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أهمية المعايير في تزويج
الخاطب، التي تتجلى في منع الفتن والفساد، وفي ذلك يقول الـمُظهري:
«يعني
إذا طلب أحدٌ منكـم أنْ تزوِّجـوه امرأةً من أولادكم أو أقاربكم، فانظروا فإنْ كان
مسلماً صالحاً حسن الخلق فزوِّجوه؛ لأنكم لو لم تزوجوا نساء أقاربكم إلا من معروف
صاحب مال وجاه وغير ذلك من الصفات التي يميل إليها أبناء الدنيا يبقى أكثر نسائكم
بلا زوج، ويبقى أكثر الرجال بلا زوجة، وحينئذٍ يميل الرجال إلى النساء، والنساء إلى
الرجال، ويكثر الزنا، ويلحق الأولياءَ العارُ بنسبة الزنا إلى نسائهم. وربما تغلب
غيرةٌ على أقاربهم بما سمعوا من نسبة الزنا إليهن، فيقتلوهن، ويقتلون من قصدهن
بالفواحش، وهذا كله فساد عريض، وفتنة كبيرة»[3].
وفي قصة موسى ظهرت المعايير بطريقة تدعو إلى التأمل!
فإنَّ إحدى المرأتين قالت:
«يا
أبت استأجره».
فطلبت من أبيها أنْ يستأجره للعمل عنده، ليقوم بالأعمال التي لا يصلح للقيام بها
إلا الرجال، واستدلت على صلوحيته للعمل بقوَّته وأمانته، وأنَّ القوة والأمانة أهم
صفات من يُطلَب للعمل أجيراً.
ولقد ظهرت قوة موسى في جانبين:
أحدهما
قوته الجسدية، وذلك حين أزاح الصخرة بمفرده؛ وهو للتو جاء من سفر بعيد ومشقة وخوف
وعناء وجوع، وقد وضَّحت المرأة ذلك حين سألها أبوها عن حقيقة علمها بقوَّته، فقالت:
«أما
قوته فما رأيت منه حين سقى لنا؛ لم أرَ رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه».
قال مجاهد:
«رفع
حجراً لا يرفعه إلا فئام من الناس»[4].
والجانب الآخر
من قوَّته: حُسْن عمله وسرعته مما يدل على معرفته وذكائه وقدرته العملية، قال
قتادة:
«القوي
في الصنعة».
وقال:
«بلغنا
أنَّ قوَّته كانت سرعة ما أروى غنمهما، وبلغنا أنه ملأ الحوض بدلو واحد»[5].
ولقد ظهرت أمانة موسى في جانبين:
أحدهما
اعتناؤه بالعمل؛ فإنه سقى لهما بأحسن سقي وأكمله، دون الاكتفاء بأقل الواجب فيه،
فهو
«أمين
على ما ولي، أمين على ما استُودع»
كما قال ابن عباس رضي الله عنهما[6].
فهو رجل لديه إحساس بالمسؤولية والالتزام بما يستعد لعمله، ويستطيع أنْ يتحمل أعباء
ما يُوكل إليه من مهام وأعمال، لأنه يأخذ الأمور بجدية.
والجانب الآخر
ظهر في طريقة حديثه معهما ومشيه مع الداعية حتى البيت، وما تخلل ذلك من أدب واحتشام
وغضِّ بصر وبُعْد عن الريبة، قالت الواصفة:
«وأما
أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوَّب رأسه فلم
يرفعه، ولم ينظر إليَّ حتى بلَّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق،
ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين»[7].
فهو رجل لا يتطلع إلى الحرمات من الأموال والأعراض.
فهذه صفات من يصلح للعمل أجيراً، مجموعة في قول المرأة:
«القوي
الأمين».
قال السعدي:
«وهذان
الوصفان ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً؛ بإجارة أو غيرها، فإنَّ
الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما. وأما اجتماعهما فإنَّ العمل يتم ويكمل،
وإنما قالت ذلك لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ما عرفت به قوَّته،
وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك
وجه الله تعالى»[8].
إن الذي يدعو إلى التأمل هنا أنَّ أباهما حين سمع ما حكته المرأة من قوة موسى
وأمانته استدلالاً على صلوحيته للعمل بالإجارة؛ رأى أبوها أنْ هاتين الصفتين هما
اللتان يرغب الآباء وجودهما فيمن يأتيهم لخطبة بناتهم، هذا إذا أضفْتَ إليها ما
اشتملت عليه أخلاق موسى من الرحمة والشهامة والمروءة التي ظهرت في مبادرته إلى
السقي لهما.
وهنا اجتمعت ديانة الرجل وعفته وأمانته وقوَّته وقدرته على تولي الأعمال، ولو كانت
يسيرة.
وهنا أيضاً رغب الشيخ الكبير في تزويجه، لأن من يملك هذه الصفات هو الذي يؤتمن على
المرأة إذا تزوجها... الرجل الذي لديه قدر من الديانة والأمانة، وقدر من الشهامة
والمروءة، وقدر من المسؤولية والجدية، وقدر من القوة الجسدية والنفسية هو الذي
ينبغي ألا تردَّه الفتاة أو أبوها.
كرامة التقوى فحسب:
ولعلك - أيها القارئ الكريم - لاحظت أنَّ الشيخ الكبير أسقط معيارين يهتم بهما أهل
الدنيا غالباً:
فأولاً:
لم يعبأ بفقر موسى وخلو جيبه من المال، وهذا من حصافة عقل الشيخ، فإنَّ المال يعوض،
وهو زرق من الله يؤتيه من يشاء ويمنعه من يشاء، فنظر بدلاً عنه إلى عناية موسى
بالعمل وتحمُّله له واستعداده النفسي له، والدليل على ذلك أنَّ موسى لم يمانع من
العمل أجيراً عند الشيخ لمدة عشر سنوات، بل قضاها كاملة وأوفاها. فالعبرة بالجدية
والمسؤولية وحُسن التدبير، وليست بما يملك من المال.
وثانياً:
لم يعبأ بكفاءة النسب حين تحقق من تجذُّر الديانة والخُلُق الرفيع في موسى، قال
القرطبي:
«واختلف
العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك. والصحيح جواز نكاح الموالي
للعربيات القرشيات لقوله تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات: 13]. وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريباً طريداً خائفاً وحيداً جائعاً
عرياناً فأنكحه ابنته لَـمَّا تحقَّق من دينه ورأى من حاله، وأعرض عمَّا سوى ذلك»[9].
وصحح ابن قدامة القول بعدم اشتراط الكفاءة في صحة النكاح[10]،
وقال:
«والرواية
الثانية عن أحمد أنها ليست شرطاً في النكاح، وهذا قول أكثر أهل العلم. رُوي نحو هذا
عن عمر وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز، وعبيد بن عمير وحماد بن أبي سليمان وابن
سيرين وابن عون ومالك والشافعي وأصحاب الرأي».
قال ابن القيم:
«وزوَّج
النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه، وزوَّج
فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه، وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن
بن عوف، وقد قال الله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ
لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]. وقال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ
النِّسَاءِ} [النساء: ٣].
فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبارُ الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً،
فلا تزوَّج مسلمةٌ بكافر، ولا عفيفةٌ بفاجر، ولم يَعتبر القرآن والسنة في الكفاءة
أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا
صناعة ولا غنى ولا حرية، فجوَّز للعبد القِنِّ نكاحَ الحرة النسيبة الغنية؛ إذا كان
عفيفاً مسلماً، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح
الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات»[11].
وتتبُّع هذه المسائل يجعلنا نلحظ أمراً مهمّاً، وهو أنه حين تقدمت المعايير الصحيحة
في الزواج وتراجع غيرها إلى الوراء تحسَّنت حالة التفكير في إصلاح العقد وظهر
تيسيره في بذل المهر المقدور عليه، وذلك أنَّ موسى عليه السلام كان يمتلك القدرة
على العمل ولا يملك المال الذي يدفعه مهراً للزواج، فراعى الشيخ هذا الأمر فجعل مهر
ابنته العمل بالإجارة لديه، وهذه حصافة عقل، إذ أكرم ابنته بأنْ جعل لنكاحها مهراً
وارتضاها زوجة لرجل جمع بين القوة والأمانة، ولرجل لا يُلجئ زوجته إلى السقي مع
الرعاء لتجلب الماء، بل يحفظها في بيتها ويقوم هو بفعل ما يلزم، بعيداً عن مخالطة
الرجال ومزاحمتهم.
وهذا الملحظ يفتح للآباء أفقاً أوسعَ من اشتراط المال في تزويج بناتهم، إذا تأملوا
ونظروا في حالهم وواقعهم، ولقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بما معه
من القرآن، فقال:
«قد
زوجتكها بما معك من القرآن»[12].
وقد رضيت أم سليم من أبي طلحة أنْ يكون مهرها دخوله في الإسلام، فقالت:
«والله
يا أبا طلحة! ما مثلك يُردُّ، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أنْ
أتزوجك، فإنْ تُسلم فذاك مهري؛ وما أسألك غيره»[13].
قال ابن القيم:
«تضمن
أنَّ المرأة إذا رضيت بعِلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز ذلك، وكان ما
يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها، كما إذا جعل السيد عتقها صداقها،
وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها، وهذا هو الذي اختارته أم سليم من
انتفاعها بإسلام أبي طلحة، وبذلها نفسها له إنْ أسلم، وهذا أحب إليها من المال الذي
يبذله الزوج، فإنَّ الصداق شُرع في الأصل حقاً للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالعلم
والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن كان هذا من أفضل المهور وأنفعِها وأجلِّها»[14].
قيادة رجل وصلاح زوجة:
حين يكون الرجل على قدر من القوة والأمانة؛ يتحمل المسؤولية ويبذل من نفسه لزوجته
فإنه يجب عليها أنْ تسير في ركابه وتحت جناحه في غير معصية لله، وهذا هو مقتضى
الحياة المستقرة المبنية على عنصرين سبقت الإشارة إليهما في المقال السابق، وهما
الرجل القوَّام القائد والمرأة المطيعة المحتشمة، وكان موسى - عليه وعلى زوجه
السلام - مثالاً لهذه الحياة المستقرة. فلقد تزوج بها على العمل لمدة ثماني سنواتٍ
فأتمها عشراً، مستصحباً ديانته وأخلاقه ومروءته وأمانته، واستصحبت هي حياءها
واحتشامها وعقلها ومروءتها.
وبعقد النكاح الذي أصبحت به بنت الشيخ الكبير زوجةً لموسى نلاحظ أنَّ القرآن يُمسك
عن الحديث عن تفاصيل في حياتها طيلة المدة التي مكث فيها موسى في مدين، فلربما شعر
قارئ القرآن أنَّ هذه المرأة دخلت في خباء زوجها، فلم يُعرف عنها شيء بعد ذلك
لاحتشامها وقصرها نفسها على زوجها؛ فيا لله ما أجمل روحها وأحكم عقلها! ويا لله ما
أبلغ وصف القرآن وأبين عباراته!
والقرآن يطوي تلك السنوات العشر في حديثه عن موسى، فنفهم كل ذلك بالاستصحاب، ثم
يوقفنا القرآن على مشهد من مشاهد الزوجية الدالة على قوة العلاقة الزوجية
واستقرارها رغم التعب والعناء، فيقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ
وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا
إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ
النَّارِ لَعَلَّـكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
ذلك أنَّ موسى قضى ما عليه من صداق زوجه، ووفى حقها وحق أبيها؛ اشتاق إلى العودة
إلى بلاده وأهله، وعزم على زيارتهم، لكنه لم يفعل ذلك قبل استيفاء الحق الذي عليه.
ثم إنه كان ينوي أنْ يكون متخفياً في مصر، لأنه مطالَب مطارد من الملأ، وفي هذا نوع
خطر عليه، وربما تقول قائلة: ينبغي ألا تقبل زوجه بهذه المخاطرة، إلا أنَّها ذهبت
معه حيث اتجه. والقرآن لا يقول: ذهبت معه. كما قلت أنا، وإنما قال: {وَسَارَ
بَأَهْلِهِ} ليشير إلى أنَّ المرأة ينبغي أنْ تكون مع زوجها في إقامته وسفره إذا
أمرها بذلك، فتسير معه إذا أراد ذلك وتمكث في مكانها إذا أمرها بذلك، قال القرطبي:
«فيه
دليل على أنَّ الرجل يذهب بأهله حيث شاء؛ لما له عليها من فضل القوامية وزيادة
الدرجة، إلا أنْ يلتزم لها أمراً فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أنْ يوفى به ما
استحللتم به الفروج»[15].
والمرأة التي اعتادت البِر بأبيها والإحسان إليه وطاعته لا يصعب عليها أنْ تسير مع
زوجها سيرة صالحة، لأنَّ ذلك يدل على معانٍ صالحة في نفسها وتصورٍ صحيح للحياة
ورجاحة عقل، وتأمَّل وجود هذا الرابط بين الأمرين في قصة البيت المدْيَني رضوان
الله عليهم.
وفي قوله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا
إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ
النَّارِ لَعَلَّـكُمْ تَصْطَلُونَ} ما يُشْعِر بيقظة موسى وتلمسه لحوائج مسيره
ومسير أهله، فهو متحسس للطريق وما فيه وما حوله لأنَّ مسؤولية هذه الرحلة تقع على
عاتقه، وكذلك مسؤوليات طلب الرزق وحماية أهل البيت.
ثم هو حين أبصر النار من بعيد وأراد أنْ يستفيد منها قام هو بالذهاب إليها دون أهله
فإنَّ مسؤولية معرفة الطريق وجلب ما تحتاجه زوجه من التدفئة تقع عليه، وهو يستشعر
ذلك ويقوم بواجبه.
وهكذا يكون التكامل في الوظائف على وجه الحقيقة. وهكذا تستقر الحياة الزوجية، قال
تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. هذه معادلة النجاح
والاستقرار، وهذا ميزان القسط.
[1] الجامع لأحكام القرآن: 13/179.
[2] أخرجه الترمذي، حـ 1084.
[3] المفاتيح في شرح المصابيح: 4/13.
[4] الأثران في تفسير الطبري: 18/225.
[5] تفسير الطبري: 18/228.
[6] تفسير الطبري: 18/225.
[7] تفسير الطبري: 18/221.
[8] تفسير السعدي: 3/1278.
[9] الجامع لأحكام القرآن: 13/184.
[10] المغني: 9/388.
[11] زاد المعاد: 5/221.
[12] أخرجه البخاري، حـ 5123.
[13] أخرجه النسائي، حـ 3341.
[14] زاد المعاد: 5/248.
[15] الجامع لأحكام القرآن: 13/186.