إن التقويض الممنهج للأجيال يجري اليوم بوسائل الدولة المملوكة لأقلية حاقدة، وموتورة، وعميلة، طابقت أهدافُها أهدافَ غاصب الأمس، وجعلت من نفسها كولونيالياً جديداً أشرس في العداوة، وأنكى في البغضاء، وأسرع في البطش المعنوي والفكري والثقافي، وكأنه يستعجل فناء ا
تتقدم الأطروحة الاستعمارية الإدماجية في الجزائر اليوم بخطى ثابتة لتقوِّضَ جهود
المخلصين من أبناء الجزائر وتجعلَ من بيان نوفمبر أثراً بعد عين، بل تجعل منه أمراً
مخجلاً عند الأجيال القادمة، وتحوَّل الوجود الفرنسي في وعي الأجيال إلى (ضرورةٍ
حضارية) كان لا بد منها، وحتميةٍ تاريخية أوجبها دخول الحداثة
الغربية.
لقد تسارعت خطى التقويض الإدماجية على جبهات ثلاث، وبأيدٍ (جزائرية) لتحقيق مكاسب
لفرنسا وللصهيونية العالمية لم تكن لتحلم بها فيما تصرَّم من الأيام، ولا حتى
إبَّان الوجود العسكري الفرنسي على أرض الجزائر، وهذه الجبهات هي أركان الهوية
الوطنية بالذات، وهي الدعائم المعنوية للمجتمع والدولة.
إن التقويض الممنهج للأجيال يجري اليوم بوسائل الدولة المملوكة لأقلية حاقدة،
وموتورة، وعميلة، طابقت أهدافُها أهدافَ غاصب الأمس، وجعلت من نفسها كولونيالياً
جديداً أشرس في العداوة، وأنكى في البغضاء، وأسرع في البطش المعنوي والفكري
والثقافي، وكأنه يستعجل فناء الدولة والمجتمع بإفناء ما يبعثهما معاً.
إن إستراتيجية الاستئصال الثقافي اليوم تتم بمكر وخبث وعلى أصعدة اللغة والتاريخ
والدين:
اللغة العربية:
بين سَنِّ القوانين لتعميم استعمال اللغة العربية وبين تنفيذهـا بقيت اللغة العربية
ضمـن مجال الـمُتَوَجَّس منه، والمخيف، والمهدد للوجود الفرنسي في الجزائر، ومن
ثَمَّ عملت قوى الثورة المضادة التي تسلَّمت مقـاليد إدارة البلاد بُعَيْد الجلاء
الفرنسي على عرقلة أي محاولة لتحقيق مكانة اللغة العربية في الدولة (في تعريب
التعليم والإدارة) وعرقلته في المجتمع بترك المحيط مفرْنَساً، وبالتضييق على
الإبداع الفكري والثقافي بهذه اللغة، وكانت رؤوس الرؤساء تُقطَف ثمناً لكل من اقترب
من هذا الملف، وكان الجزاء والتمكين لكل من داس العربية ومكَّن للفرنسية! وطرائق
التمكين للفرنسية ومحاربة العربية في أيامنا هذه هي استمرار للحرب القديمة، وابتكار
لوسائل جديدة، منها:
•
إضعاف تعليم العربية بالمناهج المبرمجة، والساعات المختارة، والمضامين المقرَّرة.
•
الإيحاء المستمر بكون الفرنسية طريقاً للنجاح المادي، وسبيلاً إلى للمناصب.
•
الإبقاء على المحيط مفرنَساً، بل الإمعان في فرْنَسة ما تم تعريبه سابقاً في كل
مؤسسات الدولة.
•
اختلاق الصراع مع اللهجات غير العربية، وإنزال العربية إلى معترك سياسي عرقي تخسر
فيه لغة الضاد أكثر مما تربحه.
•
اتهام المدافعين عن العربية بالبعثية، والرجعية، والقومية، وغمزهم بأنهم طلاب
مناصب، وأنهم قابلون للبيع... إلخ.
•
تحطيم تعليم اللغة العربية في أقسام اللغة العربية وآدابها بمقاييس ومقرراتٍ بعيدةٍ
كلَّ البعد عن الهدف من إنشاء هذه الأقسام، وتجنيد أساتذة لا موقف لهم ولا توجُّه؛
يأكلون بالعربية حتى ولو أُكِلَ رأس العربية وهم ينظرون، فبرامج نظام (ال إم دي) في
الجامعة الجزائرية لا تقيم لساناً، ولا تصنع إنساناً، بل يتم بها التشتيت الممنهج
تحت إشراف أساتذة لا همَّ لأكثرهم إلا الراتب الشهري، ويدرس الطالب كلَّ شيء ما عدا
اللغة العربية وآدابها، وقد أضيفت إلى مقاييس العربية في الآونة الأخيرة مقياس
اللغة الأمازيغية، والذي يُدرس - ويا للعجب! - باللغة العربية.
التاريخ:
أما التاريخ فقد امتدت إليه اليد بطرق مختلفة ووَفْقاً لإستراتيجية الإنهاك المعنوي
والتقويض الثقافي المنتَهَجَة منذ دخول الفرنسيين؛ إذ يتم التقويض بــ:
التركيز على تاريخ الشمال الإفريقي ما قبل الإسلام، والإغراق في إحيائه وبعثه، وبعث
شخصياته حتى وإن لم تتواتر أخبارها، ولم تُذكر مآثرها، مثل شيشناق، وماسينيسا،
ويوغرطا، والكاهنة وغيرهم.
•
الإشادة بالثقافتين (اليهودية والنصرانية) وبعث رموزهما والإشادة بآثارهما الثقافية
كما هو الشأن مع القديس أوغستين، والقديس دوناتوس، والكاتب أبوليوس، وذلك بزعم أنهم
جزائريون، وأن الثقافة ضمن هذه الجغرافيا واحدة لا تتجزأ، وأن تاريخ الجزائر هو
تاريخها في العصور الوثنية والنصرانية.
•
إغفال التاريخ الوسيط للجزائر الذي بدأ مع الوجود العربي واستمر إلى اليوم، والذي
انصهرت فيه المكونات السكانية ضمن الرؤية الإسلامية واللسان العربي، ولم يلتفت
بُناة الدول التي قامت في المغرب الأوسط (الرستمية، والصنهاجية، والحفصية،
والفاطمية، والمرينية...) على المستوى الثقافي (اللغة، والرؤية الوجودية الكونية
الإسلامية) إلى مسألة العرق، بل كان الدين حاسماً للخلاف ولو على المستوى الفكري
والشعوري، إذ كلما حَزَب الأمر أو اشتد الخلاف عاد المتخاصمون إلى أصل ثقافتهم
لحسمه، وهو ما تؤكده آيات القرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم .
•
تسويد التاريخ العثماني وجعله تاريخ احتلال كامل الأركان، في تغاضٍ متعمَّد عن
التهديد الإسباني الذي كان قائماً وقتئذٍ إثر سقوط الأندلس، وفي تناسٍ تامٍّ
لاستنجاد السكان بالعثمانيين الذين رأوا فيهم إخوة لهم في الدين، وحماة للديار، وفي
تغافل كامل عن الفلسفة السياسية السائدة يومئذٍ؛ التي كانت تعقد الولاء للخلافة
بحكم العاطفة الدينية، ولا تقيم كبير اعتبار للدولة الوطنية كما تبلورت فيما بعد.
•
تحويل التاريخ المعاصر للجزائر والحقبة الاستعمارية منه إلى حلبة صراع، وتلاعب،
وإبراز كل ما يشكك في قيمته التأسيسية وجدواه الوجودية في بعث كيان الدولة
الجزائرية، ثم الدفع بقراءة الأحداث مفصولة عن سياقاتها وعن خلفياتها الفكرية، فكان
من نتيجة ذلك التشكيكُ في الشخصيات التي قاومت الإدماج الممنهج باستهدافها بالطعن
والغمز والانتقاص.
الإسلام:
أما الركن الركين والعمود المتين لبقاء الجزائر فهو الإسلام، والواقع أن المطلوب
رأسه ابتداء وانتهاء هو الدين الإسلامي في الشمال الإفريقي، وهذا الأمر معلَن وصريح
في كتابات وممارسات النخب الكولونيالية، ومن تبعهم من الإدماجيين الجدد، فالإسلام
يشكل في نظر هؤلاء الإدماجيين عقبة كأداء في وجه (الحداثة) المزعومة، وما الحفر
والتقويض الذي نال اللغة والتاريخ إلا السبيل الأمثل للوصول إلى دين طقوسي كنسي
مفصولٍ عن الفاعلية الحضارية والقدرة على المواجهة، وقد كان التعامل مع الدين
بطرائق أخبث من الخبث ذاته، وذلك من خلال:
تقرير أن الإسلام ليس واحداً إنما متعدد، وذلك بقراءة انتقائية للنزعات الفكرية
التي ظهرت في الحضارة الإسلامية وتقديمها على أنها بدائل عن الإسلام السني
(المتشدد) بزعمهم، علماً أن هذه النزعات ليست مفارقة للإسلام ولكن مباطنة له، وأن
القراءة المطلوبة عند دعاة الإدماج هي القراءة المفارقة التي تنحِّي الإسلام
بالكامل وتقذف به خارج الفعل والتأثير.
التركيز
على الممارسات الشعبية للدين وتمجيدها وإثرائها، وإبرازها مَعْلَماً من معالم
التسامح الديني.
إحياء
النزعات الغنوصية والباطنية وتشجيعها حتى تكون بديلاً عن الإسلام الذي يسمونه
سياسياً.
شيطنة
الإسلاميين وجعلهم في موقع المدافع عن النفس، بل في موقع المتنصل من إسلاميته
والمتنكر لتاريخه القريب، فنقرأ ونسمع من إسلاميين يدافعون عن كونهم ديمقراطيين،
وعن كونهم مع حرية المرأة، وعن كونهم مؤمنين بالتعددية، والمشاركة، ونسمع لهم
تبريراً لدجل تاريخي، وعبث لغوي، واستهتار قيمي، ومع الشيطنة المستمرة للإسلاميين
أصبح التفكير في كون الإسلام قوة دافعة للمجتمع والدولة في دائرة غير المفكَّر فيه،
وتم التمكين لعلمانية مستريحة من خصمها الذي يشاغب عليها كلما أرادت الإمعان في
العلمنة.
التضييق على المسجد والاستيلاء عليه؛ إذ يبنيه الناس بأموالهم ثم تستولي عليه
الدولة المملوكة لهذه الفئة الإدماجية فتجعل على رأس كل مسجد رجلاً مفصولاً عن
الحياة، أو طامعاً في وظيفة، أو موتوراً قوَّاداً، أو صاحِب بدعة في الدين، وفضلاً
عن هذا كله حاصرت الإمام في الرزق، وضيقت عليه بالقوانين وجعلت منه بوقاً يقول ما
لا يؤمن به، أو يقول ما تؤمن به هذه الفئة المارقة ولو كان ضد قناعته.
إن الشعوبية الناهضة اليوم في الجزائر تقوى شوكتها يوماً بعد يوم، وقد أحكمت
قبضتها على الدولة بكل أركانها، وهي اليوم بعد أن استشعرت الخطر الذي تشكله
الأغلبية على وجودها صارت أحرص على تنفيذ مخطط مستعمِر الأمس وبالسرعة المطلوبة
وبحماسة منقطعة النظير. إن تسأل عن دينها...؟ فلا دين لها إلا أن تُقْتَل العربيةُ،
ويُردَم الإسلامُ، وتطوى صفحة الجزائر كما أرادها الشهداء إلى الأبد، لقد قويت شوكة
هذه النبتة بالحديد والنار، وبالمكر والخيانة ليل نهار، وهي اليوم على أتم استعداد
لارتكاب المحذور كرَّة أخرى إن رأت رغبة جادة من الأغلبية الشعبية في التمكين
لدينها وتاريخها ولغتها، وقديماً حذَّر والي خراسان نصر بن سيار الكناني من أمثال
هؤلاء الشعوبيين فقال عنهم:
قوم يدينون ديناً ما سمعتُ به
عن الرسولِ ولا جاءتْ به الكتبُ
فمنْ يَكُن سائلي عن أصل دينهم
فإن دينهم أن تُقتَل العـربُ