ثمة مؤشرات وعوامل داخلية ودولية وإقليمية قد تمنع احتمال تحقيق أحد الأطراف الداخلية انتصاراً حاسماً يُمكِّنه من بناء سلطة سياسية فيدرالية مستقرة، وهو ما قد ينتج عنه انزلاق إثيوبيا هذه المرة إلى الانقسام والتفكك، إذ الوصول إلى السلطة هذه المرة قد لا يكون فص
هل يكون
آبي أحمد
آخر رئيس وزراء لإثيوبيا الموحدة؟
دخلت إثيوبيا مجدداً في عملية من العمليات التي تكررت عبر تاريخها لتحديد مَنْ
يحكمها مِنْ بين القوميات عبر الصراع العسكري، أو عادت القوميات لتجدد الحرب
الأهلية بين أطرافها لأجل السيطرة على الحكم في مركز الدولة. والحاصل في جولة الحرب
الأهلية الجارية الآن، أن قومية التيغراي وجيشها (المتحالف مع جيش جبهة تحرير إقليم
أورومو) تقاتل لاستعادة الحكم من الأمهرة الذين سيطروا على الحكم في البلاد بقيادة
آبي أحمد، وتسعى لعودة سيطرتها على الحكم، كما حدث خلال مرحلة حكم ميليس زيناوي
الذي أسسس لحقبة سيطرة التيغراي على الحكم مدة 12 عاماً.
كانت جبهة التيغراي هي مَن قاد التصدي للحكم الديكتاتوري لمنغستو (ضمن تحالف مع
أطراف أخرى بحكم تعدد القوميات وتوسع حكم منغستو في المظالم) وهي من أسقطته لتحكم
البلاد بقيادة ميليس زيناوي من عام 1995 وحتى عام 2012م. لكنها فقدت سـيطرتها
التامة تلك خلال مرحلة حكـم هايلي مريام ديسالين الذي لم يكن لا من الأمهرة ولا من
التيغراي، واستمر في الحكم حتى عام 2018م، وانتهى حكمه تحت وقع المظاهرات
والاضطرابات التي أشعلها الأورومو، ثم أتى بعدها آبي أحمد، الذي يعمل على إنهاء ما
تبقى من سيطرة التيغراي.
وفي ذلك بدا حكم ديسالين وكأنه مجرد عنوان لمرحلة وسيطة ومؤقتة بين حكم التيغراي
وحكم الأمهرة.
ويبدو أن إثيوبيا عازمة كذلك على إعادة تفجير صراعاتها الإقليمية مجدداً؛ إذ كل
تغيير في الحكم في إثيوبيا ارتبط دوماً بتغيير في اتجاهات الصراع مع دول الجوار،
كما حدث خلال الحرب مع الصومال وإريتريا بعد سيطرة منغستو هيلا مريام على الحكم...
وهي حالة ظلت سارية خلال حكم ميليس زيناوي. فإن حسمت المعركة الجارية (أو الحرب
الأهلية المتقدة الآن) وسيطرت جبهة تيغراي (وحلفاؤها) على الحكم، فستكون إريتريا
وجهة الحرب الإقليمية القادمة، سواء شاركت القوات الإريترية في القتال إلى جانب
قوات الحكومة بقيادة آبي أحمد، أم أن قومية التيغراي ترى إريتريا جزءاً من أراضي
قومية التيغراي. وبذلك سيكون التغيير في إثيوبيا بداية لانفجارات جديدة في القرن
الإفريقي. ولذلك تتحسب دول الإقليم لانعكاس الصراع ونتائجه عليها خاصة إريتريا
والصومال والسودان (وإن بدرجة أقل) إذ لا يمكن فصل الصراعات الداخلية بين القوميات
في إثيوبيا عن الأبعاد الإقليمية، بحكم التداخل القَبَلي والعرقي بين القوميات في
إثيوبيا ودول الجـوار (خاصة إثيوبيا وإريتريا)، وبسبب الموروث الشعبي لدى القوميات
التي يرى بعضها أن أجزاءً من الدول الأخرى قد اقتُطِعَت من أراضيها قسراً في أزمان
سابقة.
وفي حين تظهر وقائع التطورات الأخيرة في المعركة الجارية، أن جبهة تيغراي وحلفاءها
أقرب للسيطرة على مركز الحكم (أديس أبابا)، إلا أن ثمة مؤشرات وعوامل داخلية ودولية
وإقليمية قد تمنع احتمال تحقيق أحد الأطراف الداخلية انتصاراً حاسماً يُمكِّنه من
بناء سلطة سياسية فيدرالية مستقرة، وهو ما قد ينتج عنه انزلاق إثيوبيا هذه المرة
إلى الانقسام والتفكك، إذ الوصول إلى السلطة هذه المرة قد لا يكون فصل الختام في
الصراع الراهن.
آبي أحمد والأخطاء الإستراتيجية:
وصل آبي أحمد إلى الحكم من خلال عملية تغيير معقدة، لكنها جرت من داخل النظام
السياسي القائم. لقد اندلعت احتجاجات في عام 2015م استمرت ما يقارب ثلاث سنوات، أدت
إلى استقالة رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالن في عام 2018م، إذ اختلفت
قيادات الجبهات المتحالفة في الائتلاف الحاكم على طريقة التعامل مع تلك الاحتجاجات
وهو ما أدى إلى استقالتة.
وأعقب ذلك اختيار الائتلاف الحاكم لآبي أحمد كي يحل محله، الذي ما إن وصل إلى الحكم
حتى طرح شعارات فوق قومية، وبدأ عملية بناء حزب جديد (حزب الرخاء) بديلاً للائتلاف
الذي اختاره، وتحرك على مستويات مختلفة ليظهر أنه يسعى لبناء الأمة الإثيوبية على
أساس المواطنة لا على أساس الانتماء القومي أو الديني. كما بدأ في إجراء إصلاحات
اقتصادية لم تتحقق منذ الإطاحة بحكم منغستو هيلا مريام الذي أعلن الحكم الاشتراكي
في إثيوبيا مدعوماً من الاتحاد السوفييتي السابق.
بدأ آبي أحمد حكمه بإجراء تغييرات سياسية واسعة تضمنت إطلاق سراح السجناء السياسيين
المعارضين، وإنهاء اعتبار الجبهات الإثيوبية المسلحة جماعات إرهابية، والسماح لمن
كان قد فَرَّ من قياداتها إلى الخارج بالعودة إلى البلاد لممارسة نشاطه السياسي،
كما أعلن رفع حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على البلاد في مواجهة احتجاجات السنوات
الثلاث.
وأظهر آبي أحمد نفسَه على الصعيد الإقليمي داعيةً للسلام والتعايش مع دول الجوار،
وأنهى حالة الحرب القائمة مع إريتريا منذ عام 1998م، وقرر قبول اتفاقية الجزائر
بشأن النزاع الحدودي مع إريتريا. وتحرك تجاه السودان ليلعب دوراً في الوساطة بين
الأطراف الداخلية المتصارعة بعد سقوط نظام عمر البشير.
وهكذا وصل آبي أحمد إلى الحكم وَفْقَ زخم دولي أدى إلى منحه جائزة نوبل للسلام.
لكن آبي أحمد - وفق ما تظهره وقائع الحرب الأهلية الجارية - لم يدرك حجم التحديات
التي تواجهه في مجتمعٍ حُكِم بديكتاتورية ماركسيةٍ عملت على إصدار قرارات لتغيير
بنية المجتمع، وأدخلت إثيوبيا في حربين مع الصومال ثم مع إريتريا وفي حرب أهلية، لم
تنتهِ إلا بعد وصول قادة المجموعات المسلحة إلى حدود العاصمة؛ وهو ما أدى إلى هروب
منغستو هيلا مريام إلى خارج البلاد.
كما لم يدرك الجوهرَ العميقَ للاضطراب القومي في بلاده، وأن إطلاق الشعارات واتخاذ
بعض الإجراءات لا يحل قضايا بهذا التعقيد؛ إذ هو يحكم بلداً جرى إدخال قوميات
متنوعة في جغرافيته السياسية عبر حروب غزو واحتلال. ويمكن القول أيضاً بأنه لم يدرك
طبيعة الصراعات الدولية ومستجداتها.
بدا آبي أحمد مثقفاً ومنظِّراً حالماً لا سياسياً ولا إستراتيجياً. والأهم أنه ظهر
أمام القوميات بمظهرِ من يدير معركة لمصلحة الأمهرة وقِطاع متحالف معه من الأورومو
تحت تلك الشعارات البراقة.
لقد دخل في صراع مع جهاز دولةٍ تشكَّل على أساس صراع القوميات ودخل في صراع متعجِّل
مع دولة عميقة تغلغل فيها التيغراي خلال حكم ميليس زيناوي واستقر لهم فيها النفوذ
والسيطرة مدة طويلة.
ويمكن القول بأنه لم يدرك سوى نصف معادلة تبادل التأثير بين بلاده ودول الجوار. كما
يبدو أنه لم يدرك أنه يحكم بلداً تبدلت علاقاته الدولية مثل البندول، إذ كان حكم
منغستو هيلا مريام عنواناً لحقبة الارتباط بين الحكم والاتحاد السوفييتي سابقاً
ودول حلف وارسو، في حين كان حكم ميليس زيناوي عنواناً للعودة بالعلاقات مع الدول
الغربية، والأهم أنه لم يدرك أن العالم قد تغيَّر وأن الولايات المتحدة لم تعد في
وضع التسامح مع من تنمو علاقاته مع الصين إلى الدرجة التي وصلت إليها إثيوبيا.
بعد سقوط المجلس العسكري بقيادة منغستو (1994م) ووصول ميليس زيناوي للحكم وهو أحد
أهم قادة التيغراي (ضمن تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي) جرت
عملية معقدة أعيد خلالها بناء جهازَي الدولة (العسكري والمدني) لمصلحة التيغراي،
حتى أن نسبة تمثيلهم أو سيطرتهم في قيادة أجهزة الدولة - خاصة العسكرية - بلغت نحو
90%، وهو ما صنع دولة عميقة مسيطرة على القرار بغض ِّالنظر عمَّن يحكم.
اصطدم آبي أحمد بجهاز الدولة بعد وصوله للحكم. فهو إن حاول إظهار نفسه بمن يبني
نظاماً جديداً فوق القوميات، فقد رأت القوميات الأخرى - خاصة التيغراي - أنه يسعى
إلى إعادة سيطرة قوميته ومن يتحالف معها من الأورومو على الحكم، وبلفظ أدق: على
جهاز الدولة، وأنه يسارع الخطى لإقصاء القيادات من أصول تيغرية ويستبدل بها قيادات
من الأورومو والأمهرة.
لقد أقال كل قيادات الجيش العليا وقادة أجهزة الأمن والاستخبارات - وهم من قومية
التيغراي - واستبدل بهم قيادات أخرى من الأمهرة، ومن هؤلاء رئيس أركان الجيش ونائبه
وقائد القوات الجوية ورئيس المخابرات العسكرية... إلخ.
وتحرك آبي أحمد تجاه التغيير الاقتصادي، فاعتمد ووسع نظام السوق على حساب التخطيط
المركزي، وقام بعمليات واسعة لخصخصة المؤسسات الاقتصادية للدولة بما في ذلك السكك
الحديدية وشركة الطيران الإثيوبية، وفي ذلك تلقى إشادات غربية لكنه أوجد جيشاً من
المعارضين لحكمه.
كما دخل آبي أحمد في صراعات خطرة مع دول إقليمية ناظراً إلى الترحيب الدولي - بمنحه
جائزة نوبل - والأوروبي بشكل محدد على أنه قوة دافعة لا يستطيع أحد الوقوف أمامها،
وفي ذلك لم يقدِّر العواقب الداخلية.
لقد أنهى حالة الصراع مع إرتيريا وهو ما عده الإعلام الغربي ترسيخاً للسلام وبداية
أمام إثيوبيا لتلعب دوراً إقليمياً طاغياً، لكن ظهر الأمر أمام قومية التيغراي على
أنه تحالف ضد التيغراي الموجودين تحت القمع والاحتلال الإريتري، وهو ما تجسد على
الأرض فعلياً من خلال مشاركة القوات الإريترية مع قوات آبي أحمد في قتال التيغراي
في إثيوبيا.
كما أنه صعَّد الصراع مع السودان ومصر بشأن مناطق الحدود وسد النهضة؛ دون إدراك أن
قدرة إثيوبيا على التأثير في الجوار عبر التمدد والتداخل العرقي الجغرافي ليست حركة
في اتجاه واحد بل في اتجاهين، كما دخل طرفاً في صراعات الشرق الأوسط في طريقه الذي
شقه لتحويل إثيوبيا إلى قيادة في الإقليم، وفي ذلك بات في عداء واحتكاكات مع أطراف
لم يكن له الدخول معها في صراعات؛ على الأقل وهو لم يكمل ترتيب أوضاعه الداخلية.
وأخيراً: فإن الرجل لم يدرك طبيعة التغييرات الدولية الأخيرة. لم يظهر أمام
الولايات المتحدة والغرب قائداً يحقق مصالحهم الاقتصادية، إذ واصل تنمية العلاقات
مع الصين، حتى أصبحت أكبر مستثمر في إثيوبيا بنحو 5 مليارات دولار، ومنحها صفقات
لتطوير مطار أديس أبابا وتمويل مشروعات الطاقة... إلخ.
تطورات الصراع الحالي:
لم يتفجر الصراع نتيجة الاختلاف حول الانتخابات، إلا إذا كان المقصود بذلك ظهور
الصراع على سطح الأحداث.
فالصراع مع التيغراي بدأ بالتسوية مع إريتريا وتطور مع الإطاحة وتغيير الشخصيات
الرئيسية في الجيش والجهاز المدني للدولة. وكان حتمياً بعدما بدأ آبي أحمد في دفع
حزبه الجديد إلى واجهة الحكم بديلاً للجبهة الحاكمة.
وقد بدأت الأحداث بإرجاء آبي أحمد للانتخابات في عام 2020م تحت عنوان أزمة كورونا.
فكان أن قررت جبهة تحرير تيغراي تحدي القرار وإجراء الانتخابات، وهو ما نزع الشرعية
عن قرار آبي أحمد (رئيس والوزراء).
وكانت بداية الحرب أن أعلن الحكم القائم عن شن جبهة تيغراي هجمات على معسكرات الجيش
الفيدرالي، وأن رئيس الوزراء آبي أحمد أمر بالرد العسكري، وهو ردٌّ جرى بمساهمة من
الجيش الإريتري الذي دخل إلى إقليم تيغراي، وهو ما أدى إلى حالات هروبٍ ونزوحٍ تجاه
حدود السودان المجاورة لمنطقة التيغراي.
وواصل آبي أحمد تحديَه؛ إذ قام الجيش الحكومي باحتلال مساحات كبيرة من إقليم
التيغراي من جهة، كما قام بإجراء الانتخابات المؤجلة والإعلان عن فوزه وحزبه
ومناصريه بأغلبية المقاعد.
وقد تمدد الصراع والأعمال الحربية من بَعْدُ، وتحولت جبهة تحرير تيغراي من الدفاع
الذي كانت عليه في بداية انطلاق الحرب إلى الهجوم مستفيدة من كلِّ أخطاء آبي أحمد
في إدارة الصراع السياسي بالدرجة الأولى، إذ تمكنت من توسيع رقعة القتال عبر
تحالفات مع أطراف وقوميات أخرى... ومضارُّ ذلك أيضاً هي من سياسات وتحالفات آبي
أحمد.
وهكذا عادت إثيوبيا إلى تجربة حرب أهلية شبيهة بنمط الحرب التي انتهت في عام 1994م
بإطاحة منغستو هايلي مريام.
ولذلك فإذا كان آبي أحمد قد وصل إلى الحكم استناداً إلى انقلاب جماهيري وجرى
انتخابه بآليات ديمقراطية داخل التحالف الحاكم، فقد كان منطقياً أن تجري محاولة
إطاحته بطريقة عسكرية ووَفْقَ قتال ذي طبيعة قومية، من قبل التيغراي تحديداً، إذ
يمكن القول - على الأقل - بأن كل تحركاته السياسية والتنفيذية جرت على حساب
التيغراي بالدرجة الأولى.
سيناريوهات ثلاثه:
عاشت إثيوبيا في تاريخها الحديث حالة من الاضطرابات والحروب الأهلية وحالة مقابلة
أيضاً من الحروب مع دول الجوار. بعد نهاية حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي ووصول منغستو
هيلا مريام للحكم، وقعت الحرب مع الصومال حول إقليم أوغادين الصومالي المحتل من
إثيوبيا، وجرت وقائع الحرب مع إرتيريا المطالِبة باستقلالها عن إثيوبيا، وانتهى حكم
منغستو بحرب أهلية طاحنة. والآن تتجدد الحرب الأهلية.
ولتلك الحالة المستديمة أسباب متعددة بعضها يعود إلى طريقة تشكيل إثيوبيا إذ جرى
حشر نحو 80 قومية في داخل جغرافيتها عبر أعمال الحرب والغزو والاحتلال. وبعضها يعود
إلى عدم تفعيل مواد الدستور الذي وضع خلال حكم ميليس زيناوي وما يزال معمولاً به،
خاصة ما يتعلق بحق تقرير المصير. وبعضها يعود إلى ضعف ثقافة الحكم الفيدرالي بين
النخب والقيادات الإثيوبية.
وإذ تعود إثيوبيا إلى حالة الحرب الأهلية هذه المرة، فهي أمام ثلاثة سيناريوهات
محتمَلة:
السيناريو الأول :
أن تتواصل الحرب الأهلية وتتوسع إلى أن تنتهى إلى حسم المعركة لمصلحة التيغراي
والمتحالفين معهم، وهو ما تدعمه تجربة إسقاط منغستو، بل تدعمه وقائع تطور الحرب على
الأرض حتى الآن.
السيناريو الثاني:
أن يحدث توافق على إعادة تقسيم مواقع الحكم بين القوميات بعد اتضاح عدم قدرة أيٍّ
من الطرفين على حسم الحرب لمصلحته، وهو ما تجري بشأنه محاولات أمريكية وإفريقية
متعثرة.
السيناريو الثالث:
أن تتواصل الحرب مع احتمال أن تتوسع إلى الإقليم، وهو ما سينتج عنه تفكك إثيوبيا
واشتعال حالة جديدة من الاضطراب في منطقة القرن الإفريقي، قد تصل حدَّ إعادة تشكيل
دوله.