الأمر الآخر الذي يمكن النظر إليه بقلق؛ هو أن إيران نجحت باختبار قدرتها العسكرية البحرية عبر استخدام طائرات بدون طيار لها القدرة على مهاجمة ناقلات النفط وتفجيرها، وهي خطوة ذكية لها تبعات سيئة على حركة السفن التجارية وناقلات النفط
ينبغي لنا إدراك أن المنطقة البحرية التي تسمى مضيق هرمز والتي مساحتها 280 كيلو
متراً؛ هي أكثر الممرات البحرية على المستوى العالمي تأثيراً في توتير الصراعات
السياسية في العالم، فهي نطاق بحري يقع بين إيران وساحل الخليج العربي الذي يضم
سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة، وزاد من أهميته استخدامه من قبل إيران
لابتزاز جيرانها وخصومها التقليديين في منطقة الخليج لاعتبارات تتعلق بأهمية المضيق
الاقتصادية؛ فمن خلاله تَعْبُر خُمْسُ صادرات العالم النفطية، ويعد أحد الممرات
الرئيسية بالنسبة لـمُصدِّري النفط الرئيسيين.
لذلك حولته ميزته الجغرافية إلى نقطة توتر واحتكاك مستمر تستخدمه إيران لتعبِّر عن
قوتها في الضغط على خصومها عبر تعطيل وتهديد مرور ما يعادل 14 ناقلة نفط يومياً إلى
أسواق عالمية مختلفة بالإضافة إلى السفن العسكرية التي تستخدمه للعبور حفاظاً على
المصالح الإستراتيجية للدول الغربية. لذلك في 29 يوليو حينما استهدفت طائرة مسيَّرة
الناقلة الإسرائيلية (ميرسر ستريت) أثارت السلطات الصهيونية مخاوف لدى القوى
العالمية وبدأت سلسلة خطابات تحريضية على إيران، سواء على صعيد المحادثات الأمريكية
الصهيونية أم على صعيد استخدام الحادث لاستجلاب ضغوط أوروبية على إيران، لكن الجهود
التي بذلتها الدولة العبرية لتجنيد ضغوط دولية ضد إيران لم تنجح في إشعال فتيل
مواجهة في المنطقة، بل استُخدم الحادث إيرانياً لإظهار الهوية السياسية التي
تمتلكها حكومة الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي. وأطلق الحدث حواراً أمريكياً صهيونياً
حول مسألة لجم السلوكيات الصهيونية التي تحاول إفشال الاتفاق النووي بين الإدارة
الأمريكية وإيران، وبالتوازن مع ذلك أصبحت روسيا توصل رسائل غير مباشرة للدولة
العبرية عبر مساعدة النظام السوري ضد الهجمات الصهيونية التي تستهدف مواقع
الميليشيات الإيرانية في سوريا، وقد يفسر الأمر على أنه جهد غربي مترامي الأطراف
لإجبار الدولة العبرية على القبول بإدخال إيران ضمن النظام العالمي الجديدة وأن
تكون طرفاً محفزاً للمتغيرات الجارية في الشرق الأوسط. رغم أن حوادث استهداف السفن
في الخليج والاعتداءات على المملكة العربية السعودية من قِبَل إيران وحلفائها قائمة
منذ سنوات إلا أن الحوادث الأخيرة التي شهدها مضيق هرمز تم استغلالها صهيونياً بشكل
لافت قبيل زيارة رئيس الحكومة الصهيونية الجديد (نفتالي بانيت) إلى البيت الأبيض
بهدف تقويض أي تسوية مع إيران، إلا أن السياسيات الأمريكية كانت واضحة في استيعاب
الغضب الصهيوني ومحاولة التركيز على مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية رغم أن
واشنطن أقرَّت مؤخراً أنها تعتمد على الموساد الصهيوني بشكل رئيسي في التجسس على
إيران، وهذا يؤكد أن القرار الصهيوني لن يخرجَ عن الإرادة السياسية الأمريكية في
أسوء حالات تمرده.
عقب الهجوم الذي استهدف السفينة الصهيونية قالت واشنطن إنها متأكدة من أن إيران تقف
وراء الهجوم، لكن وزير خارجيتها أنتوني بلنكن تماها مع السياسة الخارجية لبلاده.
واللافت في الأمر هو بروز الدور البريطاني الذي جسَّده موقف وزير الخارجية دومينيك
راب الذي أكد أن بلاده ترى أن الهجوم الإيراني انتهاك للقانون الدولي، وكانت وكالة
الأمن البحري البريطانية قد عقَّبت على هجومٍ آخر قبالة سواحل الإمارات تعرضت له
سفينة بنمية، وأكدت أن جنوداً من الحرس الثوري الإيراني اقتحموا السفينة ثم
غادروها. والحراك البريطاني المفاجئ في الخليج سبقه إعلان بريطانيا إرسال وحدة من
قواتها الخاصة لملاحقة عناصر من جماعة الحوثي شاركوا في هجمات على ناقلات نفط، وتلك
التحركات يمكن تفسيرها في سياق محاولة بريطانيا تطبيق خطة انتشارها العسكرية
الجديدة حول العالم عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، ورغم أن الاقتصاد البريطاني لا
يعتمد بشكل كبير على النفط الشرق أوسطي إلا أن لديها نظرة مستقبلية تتعلق بنجاح
روسيا في مد خط نورد ستريم2 الذي سيصبح أحد أبرز خطوط نقل الغاز والنفط إلى أوروبا
ومن ثَمَّ نقطة ابتزاز للاقتصاد الأوروبي على غرار ما حدث خلال الأزمة الأوكرانية؛
لذلك تريد بريطانيا تأمين واردات نفطها المستقبلية في المنطقة.
الأمر الآخر الذي يثير مخاوف الأوروبيين ويجعلهم يركزون على إبراز قوَّتهم في مضيق
هرمز؛ هو قلقهم من التأثير الصيني الذي أصبح أكثر تحالفاً مع خصومهم مثل إيران. ففي
الوقت الذي كان العالم يراقب فيه تعطل حركة التجارة عبر قناة السويس، وقَّعت كلٌّّ
من الصين وإيران مذكرة تفاهم بشأن التعاون الاقتصادي والدفاعي، لتصبح إيران بموجبها
جزءاً من مبادرة (الحزام والطريق) الصينية التي ستضمن نقل البضائع من الشرق الصيني
عبر إيران إلى الغرب بديلاً من قناة السويس. بالتزامن مع التوتر السائد بشأن احتواء
إيران طالب رئيس لجنة الدفاع بمجلس العموم البريطاني (توبياس إلوود) الحكومة
البريطانية بتوسيع قدراتها البحرية والاضطلاع بدور ريادي في حماية حقوق الملاحة
للطرق الرئيسية واحتواء التهديد الإيراني. وبالفعل قامت بريطانيا خلال السنوات
الماضية بتوسيع قاعدتها البحرية في البحرين، وهي خطوة ينظر إليها على أنها محاولة
بريطانية لسد الفجوة التي أحدثها الانسحاب الأمريكي من المنطقة، كما أنشأت بريطانيا
قاعدة الدقم للدعم اللوجستي في سلطنة عُمان وهي حليف وثيق للبريطانيين منذ عقود.
خلال حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق اندلع ما عُرِف حينها بـ (حرب الناقلات)،
وكان هدف الحرب تعطيلَ حركة النفط العالمية للضغط على العراق ومنطقة الخليج بأسرها.
في خضم المواجهة بين الطرفين كانت إيران تختبر قدرتها في استخدام مضيق هرمز لابتزاز
خصومها التقليديين في الخليج. أما حرب الناقلات الثانية فيمكن تفسيرها في سياق
سيناريو هو الأسوء بالنسبة للمنطقة، فعلى الرغم من حدود المواجهة الواسعة بين
إسرائيل والميليشيات الإيرانية في جنوب لبنان وجنوب سوريا؛ إلا أن الدولة العبرية
وإيران حوَّلتا أكثر ممرات الملاحة أهمية لمنطقة الخليج العربي إلى ساحة معركة
دائماً، وبذلك يمكن التوصل إلى نتيجة مفادها إضعاف الموقف السياسي لبلدان مجلس
التعاون الخليجي للقبول بمعادلة واضحة المعالم أهم ملامحها فرْض شراكة أمنية
صهيونية في إدارة مرور مصادر الطاقة العالمية، ومنْح البريطانيين دوراً بديلاً
للدور الأمريكي وكذلك القبول بالتوافق الغربي حول كيفية التعاطي مع الملف الإيراني،
واختبار نفوذ إيران في المنطقة عبر قدرتها العسكرية للتدخل في الخليج العربي وحتى
مضيق باب المندب وصولاً إلى قناة السويس وهي حالة حصار بحري هي الأسوء على الاقتصاد
الخليجي.
الأمر الآخر الذي يمكن النظر إليه بقلق؛ هو أن إيران نجحت باختبار قدرتها العسكرية
البحرية عبر استخدام طائرات بدون طيار لها القدرة على مهاجمة ناقلات النفط
وتفجيرها، وهي خطوة ذكية لها تبعات سيئة على حركة السفن التجارية وناقلات النفط؛ إذ
إن الأمر أشبه بامتلاك عنصر في ميليشيا صغيرة لصاروخ كروز بتكلفة رخيصة، وهي عملية
ستؤتي ثمارها في حالة حدوث مواجهة بحرية في المنطقة وستحول إيران إلى لاعب رئيسي في
بحر العرب لذلك ينبغي محاصرة جهودها والتصدي لها بحزم وقوة.
أحد المتغيرات الهامة بالنسبة لأمن الخليج العربي هو عملية الانسحاب الأمريكي من
الشرق الأوسط باتجاه المحيط الهندي والهادئ لمحاولة التصدي للنفوذ الصيني، والإبقاء
على قوة بسيطة في الأردن والدولة العبرية لاعتبارات تتعلق بأولويات الوجود الأمريكي
في المنطقة، فإن المنظومة الغربية بأسْرها تضع المملكة العربية السعودية أمام
خيارين: أولهما التسليم بدعم المفاوضات القاضية بخفض العقوبات عن إيران والقبول
بالاتفاق النووي، أو التكفل بخوض معركة محفوفة بالمخاطر لمواجهة التوسع الإيراني
دون غطاء أمريكي.
في يوليو الماضي فتحت إيران محطة نفطية في خليج جسيك مقابل الساحل العُماني لتجنُّب
استخدام مضيق هرمز وتجنب تعرض سفنها لردود فعل على الهجمات التي تشنها ويمكن تفسير
ذلك بأنه استعداد إيراني لمواجهة طويلة الأمد ومحاولة من طهران لتقليص خسائرها في
المواجهة، وكذلك تسعى إيران للالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على صادراتها
النفطية؛ فهي تحاول تنويع صادراتها النفطية إلى الصين والهند.
لذلك ما يمكن استنتاجه من المواجهة الأخيرة هو أن الدولة العبرية تحاول الحصول على
مساحة تأثير في المعادلة الأمنية والاقتصادية الخليجية، وعلى ما يبدو فإن المحاولة
الصهيونية تخدم سياسات إيران في المنطقة بصورة كبيرة جداً، وتسمح لها باستخدام هذا
الأمر للضغط على الولايات المتحدة للقبول بشروطها للقبول بالاتفاق النووي، وكذلك
إضعاف الموقف الخليجي سياسياً وأمنياً واقتصادياً، لذلك تحتاج دول المنطقة مبادرة
حازمة عبر بناء تحالف جديد يمكنه التصدي للغطرسة الإيرانية في المنطقة والحدُّ من
قدراتها التوسعية.