استاء كثير من الليبيين من الشخصيات التي ضمتها الحكومة بسبب افتقار شخصياتها للخبرة وتعيين الدبيبة عدداً من أقاربه بسبب نفوذ عمه علي الدبيبة، وهو مسؤول سابق محسوب على عهد قذافي وملياردير معروف بدوره في تصعيد ابن أخيه إلى السلطة.
شهدت ليبيا أول انقسام سياسي عقب الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي عام 2014م عقب
محاولات دولية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، عندما انقسم البرلمان إلى قسمين: الجزء
الأول تمركز في العاصمة طرابلس، والآخر في مدينة طبرق شرق البلاد. وأصبح لكل طرف
سلطاته التنفيذية والتشريعية، وفي عام 2015م نجحت محادثات بقيادة الأمم المتحدة
بتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة فايز السراج، لكن تلك الحكومة استمرت بالعمل من
طرابلس عقب رفض برلمان الشرق الاعتراف بها رغم حصولها على شرعية دولية. وفي المقابل
دعمت قوات يقودها خليفة حفتر حكومة تمثله برئاسة عبد الله الثني، وبالتزامن مع
محاولات الأمم المتحدة في عام 2017 و 2018م لصياغة اتفاقات جديدة ضمن وحدة البلاد
كان الانقسام يتسع لتدخل دول وأطراف دولية وإقليمية لتعزيزه وأصبحت هناك حالة حرب
واضحة بين الغرب والشرق الليبي متعلقة بالصراع على السلطة وتحقيق نفوذٍ للقوى
الخارجية. فقد تحالفت حكومة السراج التي تدعمها تشكيلات مختلفة من الإسلاميين مع
تركيا، يقابلها دعم عسكري سخي من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة لقوات حفتر في
الشرق، إلى أن جاءت الحملة العسكرية التي شنها تحالف حفتر في إبريل عام 2019م على
العاصمة طرابلس في محاولة منه لحسم الصراع لصالحه وتوحيد ليبيا تحت قيادته مستنداً
بذلك إلى دعم عسكري روسي ومصري وفرنسي، وبعد أشهر من الضربات الجوية وسقوط ما يقرب
من 3000 قتيل، توقف الهجوم وبدأت قوات حفتر بالتراجع إثر تدخُّلٍ عسكري تركي في
يناير 2020م.
إذ نجحت الجماعات المسلحة التابعة رسمياً لوزارة الدفاع في حكومة طرابلس بطرد قوات
حفتر من محيط العاصمة، وانهارت خطة حفتر بتوحيد البلاد بالقوة عقب تراجع قواته إلى
وسط ليبيا وكانت تلك المرحلة بالنسبة له محاولة لتقليص خسائره السياسية والدخول في
مفاوضات أسفرت عن وقف إطلاق النار الذي وقع في أكتوبر 2020م والتي بموجبها تم تشكيل
لجنة مشتركة عرفت باسم (5 + 5) تتكون من ممثلين عن الجانبين أسند إليها تنفيذ
النقاط التي جرى التوقيع عليها في الاتفاق برعاية الأمم المتحدة.
عقب حوارات استمرت ثلاثة أشهر بين 74 ممثلاً للفصائل الليبية بما في ذلك برلمانَي
الشرق والغرب بما في ذلك أيضاً شخصيات محسوبة على نظام القذافي السابق، تم الاتفاق
على ما يُعرف بخريطة الطريق لإعادة توحيد البلاد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية
في نهاية عام 2021م، على أن يكلَّف رئيس وزراء مؤقت ومجلس رئاسي مكون من ثلاثة
أشخاص بإدارة شؤون البلاد لحين انتهاء الانتخابات. في فبراير 2021م صوَّت المندوبون
على اختيار رجل الأعمال الليبي من مدينة مصراتة عبد الحميد الدبيبة لرئاسة الوزراء،
ورغم مصادقة البرلمان في طبرق على نتائج تلك الانتخابات والبداية عملياً في تنفيذ
استحقاقات خريطة الطريق إلا أن التقدم الميداني ما يزال بطيئاً لتحقيق وحدة فعلية
للبلاد، وهنا يمكن التأكيد على مجموعة من الأسباب التي قد تكون سبباً في ذلك:
وأولها عدم وجود توافق بين الكتل السياسية الليبية على إطار دستوري ينظم عملية
الانتخابات، وكذلك وجود غموض حول صلاحيات المجلس الرئاسي المعيَّن، الذي يعمـل
وَفْقَ خريطة طريق مدعومة من الأمم المتحدة وليس من البرلمان؛ فالدبيبة الذي من
المفترض أنه حصل على أغلبية داعمة من المشاركين في منتدى الحوار انتشرت شائعات حول
قيامه بشراء أصوات لدعم وصوله إلى منصبه بحسب فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة.
كانت الخطوة الثانية عقب التوافق على تعيين الدبيبة هي الحصول على موافقة البرلمان
وجمع أعضائه في طرابلس وطبرق في مكان واحد وقد تمَّت الموافقة على سرت التي تقع في
منتصف الطريق بين طرابلس وطبرق وتُعدُّ مقدمة للخطوط الأمامية للصراع بين القوتين
العسكريتين ومعقلاً سابقاً للموالين للقذافي، كذلك فهي إحدى قواعد تمركز مجموعات
فاغنر الروسية التي جلبها حفتر لدعمه في معركته ضد طرابلس، وبحلول 8 مارس شارك 132
نائباً ليبياً من أصل 180 في اجتماع مجلس النواب للتصويت على حكومة الدبيبة التي
ضمَّت 26 عضواً، وبضغط من السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند والممثل الخاص السابق
للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني ويليامز حصلت الحكومة على موافقة البرلمان رغم
خلافات كبيرة حول شخصيات كانت محسوبة على الإسلاميين وأخرى على حفتر، وبتلك الخطوة
انتهت حكومتا السراج والثني.
استاء كثير من الليبيين من الشخصيات التي ضمتها الحكومة بسبب افتقار شخصياتها
للخبرة وتعيين الدبيبة عدداً من أقاربه بسبب نفوذ عمه علي الدبيبة، وهو مسؤول سابق
محسوب على عهد قذافي وملياردير معروف بدوره في تصعيد ابن أخيه إلى السلطة.
تجاوزت ليبيا مرحلة الانقسام، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقولون؛ فما يزال
منصب وزير الدفاع شاغراً، ويرجع السبب في ذلك - وَفْقاً لبعض التفسيرات الليبية -
إلى أن حسم هذا الأمر يمكن أن يفجِّر الخلافات من جديد؛ ولا سيما أن خليفة حفتر
ينظر لنفسه على أنه القائد الفعلي للجيش الليبي، لكن رغم ذلك نظَّم حفل أداء اليمين
بحضور شخصيات ليبية وأجنبية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا
وبريطانيا بالإضافة إلى تركيا بالإضافة إلى خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى
للدولة، ولم يحضر ممثلون عن مصر وروسيا والإمارات، وهذا الأمر أظهر تحقيق اختراق
فعلي على المستوى السياسي لم يكن يوماً قابلاً للتحقق، وفي 16 مارس 2021م أقيمت
مراسم تسليم واستلام بين السراج والدبيبة في العاصمة طرابلس بحضور رئيس المجلس
الرئاسي الجديد محمد المنفي وبعد أيام تمَّت إجراءات تسليم السلطة في بنغازي عاصمة
الشرق الليبي، وقد ساهم في التوصل إلى هذه النتائج التدخُّل العسكري التركي في حسم
معركة طرابلس وإفشال سيطرت حفتر وداعميه عليها، فقد قوض هذا الدعم آمالهم بتحقيق إي
حسم للمعركة، ورغم تراجع عدد من داعمي حفتر وانسحابهم إلا أن روسيا أبقت على قواتها
وطائراتها المقاتلة.
كذلك من الخلافات التي تم حلها تحمُّل الحكومة الجديدة جميع نفقات السلطة الموازية
في الشرق الليبي بما في ذلك رواتب القوات التي يقودها حفتر ودمج هذه النفقات في
الميزانية الوطنية لعام 2021م، ويشمل ذلك أن تتوقف الحكومة في شرق ليبيا على
استخدام إيرادات الخزينة. وتعد إدارة موارد النفط من قبل الحكومة في طرابلس التي
تدير حساب المؤسسة الوطنية للنفط بفضل صفقة مدعومة من الولايات المتحدة والأمم
المتحدة في سبتمبر 2020م أحد عوامل الضغط الاقتصادي على خليفة حفتر لتسريع الاتفاق
السياسي، كما ساهمت الاتصالات السرية بين تركيا ومصر في تسريع إنجاز هذا الأمر لا
سيما بسبب تأثير أزمة الغاز في البحر المتوسط على العلاقة بين البلدين، وكان صعود
الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضاً أداة ضغط على حفتر لاعتبارات تتعلق بضغط أوروبي
لمنع الوجود الروسي في ليبيا. ومن الأسباب التي ساهمت في تسريع التوصل لحل سياسي
الأزمةُ المالية التي كانت تمر بها القوات التي يقودها خليفة حفتر والتي تسببت في
خلافات بين الموالين لحفتر وتدهور الوضع الأمني والاقتصادي في المناطق الخاضعة
لنفوذه، وكانت المفاجأة الكبرى أيضاً تعاون رئيس البرلمان في الشرق عقيلة صالح مع
السلطات السياسية الجديدة التي توقَّع الجميع أن يكرر دوره السلبي الذي حدث مع
حكومة الوفاق الوطني في عام 2016م، فقد عمل على تسهيل اجتماع النواب في سرت وألقى
بثقله في دعم حكومة الدبيبة، الأمر الذي جعل بعض المحللين يطلق عليه لقب (صانع
الملوك).
كثير من المبشرات التي تشير إلى حصول تحسُّن سياسي في ليبيا - لا سيما توافق
الطرفين مؤخراً على فتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب عقب إغلاقه مدة عامين -
تخفي تفاصيل ما تزال عالقة وشائكة في الملف الليبي وأبرزها تعزيز المصالحة
الميدانية بين الميليشيات المسلحة التي تعدُّ أبرز عوامل التأثير في الواقع
السياسي، وهي عملية تقتضي توحيد المؤسسات العسكرية التي ما زالت منقسمة، ورغم
استبعاد تجدُّد المعارك بهويتها الإقليمية السابقة بين الطرفين إلا أن شبح الصراع
الداخلي قد يندلع مجدداً في حال لم تنجح الأطراف السياسية في تعيين وزير للدفاع.
كذلك فإن التوافق حول إطار دستوري لتنظيم عملية الانتخابات ما يزال موضع شك بسبب
الخلافات بين الكتل السياسية، فقد سبق أن طُرحت مسودة دستور عام 2017م لكن لم يتم
التصويت عليها، كذلك فإن المشاركين في إعداد خريطة الطريق لم يناقشوا أي بنود تتعلق
بالانتخابات، وهذا الباب الذي تُرك مشرعاً قد يكون مدخلاً سهلاً لتعطيل الحياة
السياسية، فهناك من يؤيد إجراء انتخابات رئاسية مباشرة، وآخرون يرون أن يكون هناك
نظام برلماني يساهم في انتخاب الرئيس. في عام 2018م تم التصويت على إطار دستوري
ينظم عملية الانتخابات من قِبَل مجلس نواب طبرق، ونص على مشاركة كل ولايات ليبيا
التاريخية (طرابلس وبرقة وفزان) في الانتخابات، لكن فصائل برلمانية محسوبة على حفتر
قامت بإضافة نصوص تتعلق بالتصويت على أساس مناطقي ساهمت في تخريب هذا الإطار
الدستوري، ورغم ذلك ما يزال من ناحية القانونية ساري المفعول، لكن هناك من يعارضه
ويعتقد أنه لا يصلح لاعتبارات تتعلق بتناقض التقسيم الإداري لليبيا مع التقسيم
التاريخي الذي وضعه برلمان طبرق. فهناك دوائر انتخابية لا تتوافق حدودها مع
الولايات التاريخية التي حددها الدستور. ووَفْقاً لرئيس المفوضية الوطنية
للانتخابات فإن رسم حدود انتخابية جديدة سيستغرق عدة أشهر في حال تم التوفق على
إجراء استفتاء على الدستور المذكور، وهذا الأمر سيقلص فرص إجراء انتخابات خلال
العام الجاري كما نصت عليه خريطة الطريق سواء كان الأمر مرتبطاً بنجاح الاستفتاء أو
فشله في اعتماد دستور عام 2018م. كذلك هناك خلاف بين الليبيين حول اعتماد نظامٍ
رئاسي أو برلماني، فمعسكر حفتر والمرتبطين بنظام القذافي السابق يؤيدون فكرة نظام
رئاسي لاختيار رئيس للدولة، لكن هناك تيار آخر يرفض ذلك ويعتقد أن النظام الرئاسي
من شأنه أن يؤدي إلى إساءة استخدام السلطة والعودة للحكم الاستبدادي.
ويمكن هنا أن نضع أحد أسباب عرقلة التوافق على الدستور أيضاً وهو يتعلق بحرص
الدبيبة على البقاء في منصبه؛ فهو بحسب ما نُقل عن مقربين منه أبدى رغبته بالبقاء
في الحكم مدة عامين على الأقل، بذريعة عدم كفاية المدة المحددة في خريطة الطريق
لتسوية الأوضاع وتوحيد البلاد، كذلك هناك فصائل مسلحة في طرابلس تدعم هذا الخيار
وترى ضرورة تأجيل الانتخابات، وليس ثمة مبرر لذلك سوى غياب القانون الذي أدى إلى
تفشي الفوضى وأسهم بشكل كبير في ظهور طبقة من الأثرياء يريدون الحفاظ على مناصبهم
في الدولة، فالموافقة على دستور وتنظيم انتخابات يعني بالضرورة استبدال نظام جديد
بالنظام الحالي لذلك يَعدُّ بعض المحللين هذه الخطوة انتحاراً سياسياً لمنتفعين من
الفوضى.
من المخاوف السياسية على المستقبل الليبي: ما يتعلق بوجود تيار سياسي لا يُستهان به
يريد عودة ليبيا إلى حظيرة القذافي، وهذا التيار غالباً ما يصنَّف ضمن الكتلة التي
توفر حاضنة شعبية وسياسية للقائد العسكري خليفة حفتر، لذلك يعتقد الكثيرون ومنهم
خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وهو محسوب على الإسلاميين في ليبيا؛ أن
تنظيم انتخابات رئاسية مباشرة من شأنها أن تكون قدمت البلاد على طبق من ذهب للحركة
الخضراء أو بقايا أنصار معمر القذافي، وليس هناك أكثر حظاً في ذلك من نجل سيف
الإسلام القذافي الذي أجرت معه صحيفة نيويورك تايمز حوراً في رمضان الماضي أكد فيه
عزمه على العودة للحياة السياسية، وما يشير إلى إمكانية حدوث ذلك هو مشاركة ممثلين
عن حركته في اجتماعات الحوار الوطني، وكذلك وجود دعم روسي لهذا التوجه. وهذا قد
يفسر إصرار روسيا على الاحتفاظ بنفوذها ووجود 2000 عسكري من قوات فاغنر في ليبيا.
ومن العقبات التي قد تحول دون حكم نجل القذافي: وجود مذكرة اعتقال بحقه من قِبَل
محكمة الجنايات الدولية على خلفية ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية بسبب دوره في قمع
الثورة عام 2011م، وقد حُكِم في طرابلس بالإعدام عام 2015م، لكن بحسب الصحيفة فإن
الرجل واثق من قدرته على تخطي تلك المسائل القانونية. لقد أشرع نجل القذافي أبواب
التصالح مع الغرب بدوره في تسوية ملف رحلة (لوكربي) عام 1988م وأقنع والده بدفع
تعويضات مالية سخية للبريطانيين، كذلك ساهم بشكل فعال في إقفال المشروع النووي
الليبي واقترح مشروع ليبيا الغد تمهيداً لتقديم نفسه زعيماً مستقبلياً للبلاد لكن
الثورة الليبية نفضت كل طرق احتياله وجعلته متنقلاً طوال 10 سنوات في الصحاري
الليبية، لذلك يقول في حواره مع نيويورك تايمز بسخرية:
«لقد
غبت عن الليبيين لعشر سنوات... سأعود خطوة خطوة... كراقصة تعري».