• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عندما يرجع أبو العباس

مِن اطِّراد أبي العباس ورسوخه في العلم ولزومه الدليل: أنَّه رجع عن مسائل معدودة قال بها في أول أمره، ثم رجع عنها بعد أن استبان له الدليل، ووضح له السبيل


أبو العباس ابن تيمية حامل لواءِ منهجٍ ثابتٍ أصيلٍ. فتقريراته العلميَّة ومواقفه العمليَّة غاية في الاطِّراد والانتظام، فمع ذلك الكم الهائل النفيس من المؤلفات والقواعد والفتاوى التي حرَّرها طوال عمره المديد، حتى إنه يعد (ألفياً) فعناوين فتاويه ورسائله ومسائله وقواعده تصل إلى ألف عنوان، ومع ضخامة الأحداث التي عاينها وفداحة الوقائع التي كابدها في حياته، وعِظَم النوازل التي عاشها في الشام ومصر، بل شارك فيها... مع ذلك كلِّه لا تجد تناقضاً أو تردُّداً في سيرته العلمية وحياته الشخصية، فضلاً عن أن تجد اضطراباً في موروثه العلمي المعرفي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ومهما يكن فإنَّ تمام اطراده وانتظام تقريره في المسائل والدلائل والعلميات والعمليات، قد يكون باعثه سعة علم ابن تيمية؛ فقد كان آية باهرة في العلوم والفهوم، وكان أيضاً راسخ الإيمان قوي اليقين، فاجتمع فيه موجبا هذا الاطراد والانتظام: العلم النافع التام، والإيمان الراسخ، فهو العالِم بأحكام الله، والعالم بالله، فنال نور الإيمان ونور القرآن، ومنَّ الله عليه بتمام القوة العلميَّة وكمال القوة العمليَّة، فهو من أُولي الأيدي والأبصار.

ومما يحسُن ذكره ها هنا ما نبَّه إليه رحمه الله من أنَّ بيان الأفضل للعبد لا يمكن ذكره في كتاب بل لا بدَّ من هدايةٍ يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له[1].

ومِن اطِّراد أبي العباس ورسوخه في العلم ولزومه الدليل: أنَّه رجع عن مسائل معدودة قال بها في أول أمره، ثم رجع عنها بعد أن استبان له الدليل، ووضح له السبيل، فإنَّ من المعلوم أن ابن تيمية عالِم إمام ومجتهد تام، وولي صادق، وعابد زاهد؛ وذلك يستدعي تحرُّره من التقليد، وتمكُّنه المتين من التحقيق والتحرير، كما أنَّ عبادته وزهده جلبت له فتوحات إلهية، ومواهب لَدنِّية، فهذا نور على نور، وإليك جملة من المسائل التي رجع عنها أبو العباس على النحو الآتي:

أولاً: عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها أنَّ فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم  عنها فقال: «ألقوها وما حولها وكلوه»[2]، وجاء في زيادة أخرجها أحمد وأبو داود[3] وغيرهما: «إذا وقعت الفأرة في السمن فإنَّ كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه»، فقد سئل ابن تيمية مراراً عن هذه المسألة (وقوع الفأرة في السمن) وأظهر رجوعه عن الفتيا بهذه الزيادة «وإن كان جامداً...» إلخ، وبيَّن أنَّ جواب النبي صلى الله عليه وسلم  في رواية البخاري مطلَق، ولم يستفصل هل كان مائعاً أو جامداً، وأنَّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وأنَّ الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً، وأن تلك الزيادة: «وإن كان مائعاً فلا تقربوه» وقعتْ خطأً من بعض الرواة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إنَّ الجمود والميعان أمرٌ لا ينضبط، ومع الشك في النجاسة فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط وسواس، وفي تنجيس ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأموال العظيمة من القدْر ما لا تأتي بمثله الشريعة[4]، وقال رحمه الله: «هذا هو الذي تبيَّن لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأنَّ هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها، بعد أن كنا نفتي بها أولاً، فإنَّ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل»[5]. وعبارة ابن تيمية في الإذعان للحق تذكِّرنا بعبارة عمر الفاروق رضي الله عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتابه الشهير، وفيه: «لا يمنعك قضاء قضيتَه بالأمس راجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإنَّ الحق قديم، وإنَّ الحق لا يُبطِله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل»[6].

ثانياً: وآكد من هذه المسألة بمراحلَ: أنَّ أبا العباس لَـمَّا تحدَّث عن صفات الله تعالى الفعلية الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله واختياره؛ أشار إلى أنَّه إما أن يسلك مسلك الآباء والأجداد من عدم إثباتها، أو يسلك سبيل الحق مع الدليل والبرهان، فاختار الحق، وقرَّر الصفات الفعلية أتمَّ تقرير وأكمل تحرير، وحشد مئات الأدلة في إثباتها، وأقام الدلائل العقلية الباهرة في تقريرها، وساق الأجوبة الشافية والردود المفحِمة على مَن أنكرها أو حرَّفها، فكان مما قال عن الصفات الفعلية الاختيارية: «وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل، فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته، مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه، ومثل خلقه وإحسانه وعدله، ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة...»[7]، وقال: «... بل الآيات التي تدل على (الصفات الاختيارية) التي يسمونها (حلول الحوادث) كثيرة جداً وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: ١١] فهذا بيِّن في أنَّه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم؛ لم يأمرهم في الأزل»[8]، إلى أن قال في كلام متين: «ومسألة الصفات الاختيارية هي من تمام حمْده فمن لم يقرَّ بها لم يمكنه الإقرار بأنَّ الله محمود ألبتة، ولا أنَّه رب العالمين، فإنَّ الحمد ضد الذم، والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، والذَّم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له... فإذا كان يفعل الخير - بمشيئته وقدرته - استحق الحمد، فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به؛ بل ولا يقدر على ذلك لا يكون خالقاً ولا ربّاً للعالمين»[9].

ويبدو أنَّ ذاك الأثر الكلامي الكلابي الأشعري كان حاضراً في بعض مؤلفاته المتقدمة، فإنَّ كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم  - على سبيل المثال - ألَّفه سنة (693هـ) وذكر فيه عند قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ ...} [الفتح: 18] أنَّ «الرضا من الله صفة قديمة»[10]، وهذا من إطلاقات الكلابية الأشعرية، وإلا فإنَّ صفة الرضا من صفات الله تعالى الاختيارية الفعلية، فلا يصلح أن يقال عنها إنها قديمة بإطلاق، كما بسطه المؤلف رحمه الله في درء التعارض وفي غيره[11].

وهذا يؤكد سطوة المذهب الكلامي آنذاك حتى نال آلَ تيمية، وقد تحدث المقريزي في خططه[12] عن ذاك الطغيان الكلامي في القرن السابع، وقد أخبر ابن تيمية أنَّ أباه حدَّثه عن جده أبي البركات بما يشير إلى قولهم بمذهب الكلابية الأشعرية، وحكى أن نظرهم كان في تفسير أبي عبد الله محمد بن تيمية[13]، فكانوا لا يقولون بتفاضل كلام الله ظناً منهم أنَّ القول بتفاضل كلام الله هو مذهب المعتزلة وأنَّ القديم لا يتفاضل، وأنَّ المخلوقات المحدثات هي التي تتفاضل[14].

والحاصل: أنَّ القول بأنَّ القرآن لا يتفاضل، وأنَّه قديم بإطلاق هو مذهب الأشاعرة الكلابية[15] الذي سلكه أسلافٌ لابن تيمية، غفر الله للجميع. والحق أنَّ القرآن يتفاضل فآية الكرسي أعظم آية، وسورة الإخلاص تعدل ثلثي القرآن... والقرآن من كلام الله تعالى، وكلامه سبحانه قديم النوع حادث الآحاد[16].

وفي مقابل النَّفَس الكلامي فإنَّ أبا العباس كان في منأىً وعافية من شطحات الصوفية منذ نشأته حتى وفاته رحمه الله، ويشهد لهذا أنَّه دُعي إلى سماعٍ صوفيٍّ في أول عمره فلم يحضره، يقول في ذكر هذه الحادثة: «وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة، فبتنا بمكان وأرادوا أن يقيموا سماعاً، وأن أحضر معهم، فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكاناً منفرداً قعدت فيه، فلما سمعوا وحصل الوَجْد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وَجْده ويقول: يا فلان! قد جاءك نصيب عظيم، تعال خذ نصيبك. فقلت لهم: أنتم في حِل من هذا النصيب، فكلُّ نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم  فإني لا آكل منه شيئاً...»[17]، وحكى عن نفسه أنَّه ردَّ على الصوفية زعمهم أنَّ (هو) من أسماء الله تعالى احتجاجاً منهم بآية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} [آل عمران: ٧]  وكان إذ ذاك صغيراً جداً، فقال في ردِّه وجوابه: «فقلت له - وأنا إذ ذاك صغير جداً -: لو كان كما تقول لكتبتْ في المصحف مفصولة (تأويل هو) ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار...»[18].

وأمر ثالث: هو رجوعه عما كتبه في مقتبل عمره بشأن مناسك الحج؛ إذ قال: «كتبت منسكاً في أوائل عمري، فذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلَّدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبيَّن لي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم »[19].

ورابع في هذه المراجعات: أنَّه كان يقول بمشروعية وقصد زيارة مساجد مكة حرسها الله، ثم ظهر أنه لا يشرع ذلك القصد إلَّا للمسجد الحرام، قال رحمه الله: «وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبيَّن لنا أنَّ هذا كله من البدع المحدَثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأنَّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وأنَّ أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك...»[20].

وأمر خامس قد يُلمَح منه نوع تراجع: وهو ما جاء في مطلع رسالته المنسوبة إليه بشأن المفاضلة بين صالح البشر والملائكة[21]، إذ قال: « كنت أحسب أنَّ القول فيها محدَث حتى وجدتها أثرية سلفية صحابية...»[22].

سادساً: ومما يتجوَّز به ها هنا فيقال إنَّه يُعدُّ نوعاً من الرجوع؛ ما حصل له في ذهابه على البريد[23]، فقال رحمه الله: «ولما ذهبت على البريد كنَّا نجمع بين الصلاتين، فكنت أولاً أؤذِّن عند الغروب وأنا راكب، ثم تأملتُ فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم  لما جمع ليلة جمع [مزدلفة] لم يؤذِّنوا للمغرب في طريقهم، بل أخَّر الأذان حتى نزل، فصرتُ أفعل ذلك»[24].

سابعاً: وفي واقعةٍ أخرى على البريد أيضاً حكاها ابن تيمية: «لما ذهبت على البريد وجدَّ بنا السير وانقضت مدة المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضرر بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة، ونزَّلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: «أصبت السنة» على هذا توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرَّحاً به في مغازي ابن عائد: أنَّه كان قد ذهب على البريد - كما ذهبت - لما فتحت دمشق؛ ذهب بشيراً بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة. فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة. قال: أصبت[25]. فحمدت الله على الموافقة»[26]. والمراد من هاتين الحادثتين أنَّ ابن تيمية حصل عنده نوع توقف وتردُّد، ثم فتح الله عليه، فظهر له الراجح بدليله وتعليله.

وثامن هذه المسائل - وهي شبيهة بالمسألتين السابقتين في البريد -: أنَّ ابن تيمية كان متوقفاً في مسألة فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي ثم ترجَّح له فعلها، فقال رحمه الله: «هذا أصحُّ قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو الخطاب. وكنا قبلُ متوقفين لبعض الأدلة التي احتجَّ بها المانعون فلما بحثنا عن حقيقتها، وجدناها أحاديث ضعيفة، أو غير دالة»[27].

تاسعاً: وقريب من ذلك ما تبيَّن له أنَّه لا يجـب اشتراط الطهارة في الطواف بالبيت العتيق[28]، بل إنَّه يجوز للحائض طواف الإفاضة في الحج عند الضرورة والعجز[29]، فكان مما قاله: «ثم تدبَّرت وتبيَّن لي أنَّ طهارة الحدث لا تُشتَرط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب...»[30]. ولَـمَّا جوَّز طوافَ الحائض الإفاضة عند الضرورة والعجز قال بعدها: «هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علماً وعملاً لما تجشمت الكلام حيث لم أجد فيها كلاماً لغيري»[31].

عاشراً: ومما نختم به من هذه المسائل: رجوعه عن الفتيا فيمن حلف بالظِّهار أو العتاق أو الطلاق؛ أنَّه إذا حنث يقع، ثم قال: «وكنت أفتي بهذا تقليداً... وأفتيت بعد هذا أنَّ عليه كفارة يمين إذا كان مقصوده عدم الفعل وعدم التحريم»[32]، وقال في ردِّه على السبكي في مسألة تعليق الطلاق: «فإنَّ المجيب [أي ابن تيمية نفسه] لم يكن هذا القول ممَّا تربى عليه، ولا له فيه غرض يميل لأجله إليه؛ بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائماً بخلافه، لكن لَـمَّا نظر ورأى الحق لم يجزْ له أن يقولَ خلاف ما تبيَّن له، والله - سبحانه وتعالى - يعلم وعباده المؤمنون الذين هم شهداء الله في الأرض أنَّه لم يَملْ إلى قول إلَّا قصداً لاتبـاع الحق الذي بُعِث به الرسول صلى الله عليه وسلم  من جهة قيام الحجة به، وإيجاب الله ورسوله عليه ألا يقول على الله إلَّا الحق، وأن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول»[33].

رحم الله أبا العباس؛ فكم من نازلة باقعة ومشكلة على علماء الأمة قد تصدَّى لها، فأزاح الغمة، وأظهر السُّنة، وكشف عن الحق، ورحم اللهُ به الخلق.

ومهما يكن فإنَّ تلك المسائل السابقة لو سلَّمنا أنَّ فيها رجوعاً فهي نَزْر قليلة جداً بالنسبة لمئات ومئات الفتاوى التي حرَّرها ابن تيمية باطِّراد وثبات وانتظام. وأما ما قد يُشْكِل على قارئها أو يشتبه على باحثها، فيظن أنَّ في كلام ابن تيمية تعارضاً أو تردُّداً، فإنَّه يُراعى ويستصحَب أنَّ لابن تيمية مئات المصنفات والرسائل، فلا غرابة أن يقع هذا الاشتباه في خضم هذه البحور الزاخرة، ولا سيما أن أكثر كتبه من حفظه، وبعضها لم يكمله، وبعضها لم يبيِّضه، وكان سريع الكتابة، وخطه يتعسر قراءته، ثم إنَّ جملة من كتبه الكبيرة والعديدة دوَّنها في أحوال متباينة وأوضاع مضطربة في عصره، وسطَّر مؤلفات كثيرة في السجون وأزمان فتنٍ وتقلباتٍ متنوعة، وبعض مؤلفاته يكون السائل «مستوفز عجلان»، ومن أجوبته المحررة «ما لا تتسع الورقة لبسطه»... وبالجملة فإنَّ الاعتبار والمعوَّل عليه في تقريرات ابن تيمية ما كان مُحْكَماً دون ما كان مُشكِلاً متشابهاً، ويُقدَّم ما كان مفصَّلاً على ما كان مُجْملاً مختزلاً، وما كان قاطعاً واضحاً على ما يُوهِم تردداً أو اشتباهاً، وأن ينظر في سياق تقريراته وسباقها دون انتزاع بعض كلامه أو اجتزائه، ثم إنَّ ما دوَّنه في كتبه المتأخرة يُقدَّم على ما كتبه في أول عمره، وأنَّه لا يسوَّى بإطلاق بين ما كتبـه في مقام التقـرير والتأصيل، وبين ما كان على سبيل المحاجة والمعارضة، وكذا ما حرَّره في كتبه الأصيلة يُقدَّم على ما اختصره المختصرون، أو فهمه الباحثون.

وعلى كلٍّ فإنَّ شخصية ابن تيمية قد بهرت العقلاء، وأدهشت العلماء (الموافِق منهم والمخالِف)؛ فهذا ابن الزملكاني (ت: ٧٢٧هـ) كان مترنحاً بين عداوة ابن تيمية ومحبته، وهو الذي انتهت إليه آنذاك رياسة مذهب الشافعية، أنشد في ابن تيمية هذه الأبيات[34]:

ماذا يقول الواصفون له

وصفاتُه جلَّت عن الحصر

هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ

هو بيننا أعجوبةُ الدهر

هو آيةٌ في الخلق ظاهرةٌ

أنوارها أَرْبت على الفجر

ومن قبله ابن دقيق العيد المالكي (ت: ٧٠2هـ) وقد انتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وكان لا يُسمي من لقيه إلا بقوله: «يا إنسان» غير اثنين؛ الباجي وابن الرفعة، يقول للباجي: يا إمام، ولابن الرفعة: يا فقيه[35]. لكنَّه لما لقي ابن تيمية واجتمع به قال له: «ما أظن بقي يُخلق مثلك»[36].

وثالثهم شمس الدين ابن الحريري الحنفي الملقب بـ (قاضي القضاة) (ت: ٧٢٨هـ) كان يقول: «إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن؟!»[37].

ورحم الله الحافظ ابن كثير لَـمَّا ختم ترجمة ابن تيمية بهذه العبارة قائلاً: «وبالجملة كان من كبار العلماء، وممن يصيب ويخطئ، وقد صحَّ في البخاري[38]: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وقال الإمام مالك بن أنس: كلُّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر»[39].


 


[1] ينظر: مجموع الفتاوى (22/309).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه (5538).

[3] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (7177، 10355)، وأبو داود في سننه (3842)، والترمذي في جامعه (1798).

[4] ينظر: مجموع الفتاوى (21/515 - 517، 525 - 528)، جامع المسائل (3/339).

[5] مجموع الفتاوى (21/516).

[6] أخرجه الدارقطني في سننه (5/369) برقم: (4472)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/119) برقم: (20871).

[7] مجموع الفتاوى (6/217).

[8] مجموع الفتاوى (6/222).

[9] مجموع الفتاوى (6/259) باختصار يسير.

[10] الصارم المسلول، ص572.

[11] ينظر: درء التعارض (2/122، 147 - 148)، مجموع الفتاوى (6/ 226).

[12] ينظر: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (4/192).

[13] يبدو أنَّه عمُّ أبي البركات، وأحياناً يسميه أبو العباس بالجد الأعلى، ينظر: مجموع الفتاوى (16/420)، (17/54 - 55)، الذيل على طبقات الحنابلة (3/321)، (4/2).

[14] ينظر: مجموع الفتاوى (17/54 - 56)، (8/ 382).

[15] ينظر: مجموع الفتاوى (17/53، 53).

[16] ينظر: مجموع الفتاوى (17/49، 57، 208 - 209)، منهاج السنة النبوية (2/379)،

[17] مجموع الفتاوى (10/418 - 419) باختصار.

[18] مجموع الفتاوى (10/560).

[19] مجموع الفتاوى (26/98). وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/339).

[20] اقتضاء الصراط المستقيم (2/339)، وينظر: مجموع الفتاوى (26/102).

[21] ينظر: صيانة مجموع الفتاوى ص38، رسائل ومسائل منسوبة لابن تيمية، ص14.

 [22] مجموع الفتاوى (4/357).

[23] حُمل ابن تيمية أكثر من مرة على البريد؛ ففي سنة (705هـ) حُمل بأمر السلطان من دمشق إلى مصر، وفي سنة (707هـ) أُركب خيل البريد من القاهرة إلى دمشق، ثم أرسلوا خلفه من الغد بريداً آخر، فردوه إلى القاهرة، كما بسطه ابن كثير في تاريخه. ينظر: البداية (18/55، 75). وأشار الحافظ ابن حجر أنَّه عُهد من الناس أن ما يُقطع في مسافة شهر - كما في سير الأثقال - يقطعه البريد في ثلاثة أيام. ينظر: فتح الباري (11/472).

[24] مجموع الفتاوى (22/71 - 72).

[25] أخرجه ابن ماجه في سننه (558)، والدارقطني في سننه (1/367) برقم: (766).

[26] مجموع الفتاوى (21/215). وينظر: مجموع الفتاوى (21/177 - 178)، وكلامه في اشتراط المدة حتى مع خوف الضرر في شرحه على العمدة (1/244).

[27] مجموع الفتاوى (23/210). وينظر: مجموع الفتاوى (1/164)، (23/191 - 199).

 [28] ينظر: مجموع الفتاوى (21/273)، (26/123، 211، 214).

[29] ينظر: مجموع الفتاوى (26/200).

[30] مجموع الفتاوى (26/199). وينظر كلامه السابق في اشتراط الطهارة للطواف في شرحه على العمدة (5/313).

[31] مجموع الفتاوى (26/241).

[32] مجموع الفتاوى (35/ 319 - 320)، وينظر كلامه - رحمه الله - في المفاسد المترتبة على اعتقاد لزوم الطلاق بالحنث في اليمين بالطلاق في مجموع الفتاوى (35/296).

[33] الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق (1/451).

[34] ينظر: البداية لابن كثير (18/298)، الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ص319.

[35] ينظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (10/340).

[36] ينظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي ص172. ويراجع ما نبَّه إليه الشيخ بكر أبو زيد على هذه اللفظة، معجم المناهي اللفظية ص489.

[37] البداية والنهاية لابن كثير (18/307).

[38] أخرجه البخاري في صحيحه (7352).

[39] البداية والنهاية (18/302).

 

 


أعلى