المشكلة في السودان ليست في أن كلّاً من الفريقين لا يريد أن يسلم السلطة أو يتخلى عنها يوماً ما؛ بل المشكلة في أن الشعب صاحبَ الحق يتململ دون أن يتخذ خطوات قوية نحو التغيير،
لمن السلطة اليوم في السودان؟ هي ليست خالصة للعسكريين، وليست بعيدة أيضاً من
المدنيين؛ هي مزيج مختلط ناتج عن اتفاقٍ على تقاسم السلطة بين الطرفين. فمنذ
الإطاحة بالبشير في أبريل عام 2018م، تبوَّأ الجيش مجلس السيادة وتُركَت الحكومة
للسلطة المدنية.
في تاريخ السودان الحديث تخرج البلاد من انقلاب لتعود إلى آخر، فعمر الحكومات
المدنية في السودان بين الانقلابات قليل، والحقيقة أن العلاقة بين الطرفين يحوطها
الغموض والتربص؛ فكلاهما يتربص وينتظر، والبلاد لم تزل بعدُ في عنق الزجاجة، لا هي
عسكرية مستقرة، ولا مدنية ديمقراطية متكئة على أصوات شعبية صعدت بها إلى السلطة،
وكلا الطرفين لا يريد إنهاء تلك المرحلة الانتقالية إلا أن تكون السلطة له دون
غيره.
فوثيقة الإعلان الدستوري الجديد - بالإضافة إلى المجلس السيادي والحكومة - تشير
أيضاً إلى مجلس تشريعي انتقالي لا يتجاوز عدد أعضائه ثلاثمئة عضو، تختار نسبة 67%
منهم قوى إعلان الحرية والتغيير، والنسبة المتبقية للقوى الأخرى غير الموقِّعة على
الإعلان، باستثناء حزب المؤتمر الوطني ورموز النظام السابق، على أن يتشكل في غضون
ثلاثة أشهر من توقيع الوثيقة، التي جرى توقيعها في أغسطس 2019م، ولكن حتى الآن لم
يتم تنفيذ تلك الخطوة السياسية المهمة، لماذا؟ لا أحد يدري! والحقيقة أن حكومة من
دون برلمان هي حكومة مستبدة. فالبرلمان هو أحد ركائز الحكم المدني الديمقراطي، وهم
يبشرون به ليل نهار، ويَدَّعون أن البشير كان ديكتاتوراً مستبداً حكم البلاد بآلية
فردية مع أعوانه مدة 30 عاماً. والسؤال الآن: من يحاسب تلك الحكومة ومن يسأل
وزراءها عن أدائهم؟
لا أحد من أطراف الحكم في السودان يريد برلماناً حتى لو كان معيَّناً وتم اختيار
أفراده على أعينهم، لا أحد يريد أن يُرجِع السلطة للشعب الذي صبر وبذل وضحَّى
ليختار من يرضاه للحكم، فحين تخرج الجماهير للثورة فهي واعية وذات إرادة، وإذا
أرادت أن تختار فهي جاهلة مُغيَّبة لا تدري شيئاً عن مصلحة البلاد!
قال حمدوك في مؤتمر صحفي في الخرطوم عقب شطب واشنطن للسودان من قائمتها للدول
الراعية للإرهاب:
«كل
الجيوش لديها استثمارات ولكنها استثمارات في الصناعات الدفاعية، هذا أمر مقبول
ومطلوب، ولكن من غير المقبول أن يقوم الجيش أو الأجهزة الأمنية بذلك في القطاعات
الإنتاجية ومنافسة القطاع الخاص»،
وأعلن حمدوك أن
«18%
فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة الماليـة».
وأكد أن
«الأولوية»
هي استعادة الحكومة للشركات العائدة إلى القطاعين العسكري والأمني، وهي تصريحات
فيها غمزٌ بالجيش وتحمليه أسباب الفشل الاقتصادي.
الجدير بالذكر أن الكونغرس الأمريكي أقر قانوناً يتصل بـ
«الانتقال
الديمقراطي في السودان والمسؤولية (المالية) والشفافية».
وينص القانون على
«وجوب
إنشاء رقابة مدنية على الأموال والأصول العائدة للأجهزة الأمنية والعسكرية وتحويلها
كلها إلى وزارة المالية أو أي جهات أخرى تابعة للسلطة المدنية».
وعلق حمدوك على إقرار هذا القانون بقوله:
«إن
هذا القانون سيساعد في الانتقال الديمقراطي للسودان».
ولم ينتظر رئيس مجلس السيادة الانتقالي طويلاً أعلى سلطة في البلاد عبد الفتاح
البرهان، الذي يتولى أيضاً قيادة الجيش، للرد على تصريحات حمدوك فرفض نقل هذه
الشركات إلى وزارة المالية وشدد على أنها مستعدة
«لدفع
الضرائب».
ثم انتقل البرهان من الدفاع إلى الهجوم فأعلن رئيس مجلس السيادة السوداني رسمياً عن
تشكيلٍ جديدٍ أطلق عليه:
«شركاء
الفترة الانتقالية»،
مكوَّن من 29 عضواً من العسكريين والمدنيين وممثلي الحركات المسلحة الموقِّعة على
اتفاق السلام في جوبا.
وقال البرهان في تصريحات صحفية:
«إن
تشكيل مجلس الشركاء الانتقالي جاء بمبادرة من قوى الحرية والتغيير، وتمَّت إجازته
من قبل مجلسي السيادة والوزراء وَفْقاً للوثيقة الدستورية»،
بهدف
«حل
الخلافات بين الشركاء»،
نافياً أن يكون المجلس
«أداة
للوصاية على أجهزة الدولة، ومن جهة أخرى صرَّح مصدر في مجلس الوزراء بأن حمدوك
«اعترض
على عدم تمثيل الجهاز التنفيذي في المجلس، وزيادة عدد العسكريين فيه، وإعطاء المجلس
الجديد صلاحيات تنفيذية تقع ضمن اختصاص الحكومة».
وأضاف أن حمدوك هدد بالانسحاب من المجلس ولن يعترف به؛ إذ اعتبره
«التفافاً
على ما تم الاتفاق عليه، بزيادة عدد العسكريين، وهو ما يجعله يبدو كأنه محاولة
لإعادة عسكرة الدولة مجدداً».
وشدد حمدوك، على أهمية أن يقتصر دور هذا المجلس على العمل التنسيقي والتشاوري، من
دون التغول على عمل السلطة التنفيذية.
ولا تبدو الحشود العسكرية السودانية على الحدود مع إثيوبيا بعيدة عن ذلك الصراع
المكتوم بين طرفي السلطة، فاسترداد الأراضي السودانية من إثيوبيا يزيد من شعبية
الجيش ويعلي من أسهمه في ظل فشل اقتصادي ذريع تنوء بكلكله حكومة حمودك.
وأيّاً ما كان الأمر فيبدو أن كل طرف متوجس من الآخر ويسعى لسحب البساط من تحت قدم
خصمه، مستدعياً بذلك كل أوراق السياسة داخلياً أو خارجياً، وهي بلا شك سلطة لا ترنو
أبداً إلى استقرار أو تنمية في السودان، وهي مزيج فشل لا شراكة نجاح.
فبعد ما يقرب من عامين من حكم (الشركاء المتربصين) ما الذي تحقق في البلاد على كافة
الأصعدة (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية)؟ لا شيء يذكر إلا السقوط في بئر
التطبيع، وتبادل الوفود مع دولة الاحتلال ومع الوعود بجلب المعونات الاقتصادية بعد
رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكن الواقع يقول إن البلاد لم
تخرج من أزماتها الاقتصادية ولا شيء حقيقياً تحقق للمواطن السوداني إلا أنه صار
يستعد لرؤية العلم الصهيوني يرفرف في أجواء بلاده.
منذ أيام قليلة أعلن الرئيس الحكومة السوداني في مؤتمر صحفي عن تشكيل الحكومة وقال:
«إن
التشكيل الوزاري الجديد، قام على توافق سياسي، عبر نقاشات استمرت ثلاثة أشهر، بغرض
المحافظة على السودان من الانهيار نظراً لما يدور في المحيط الإقليمي من مهددات».
وهي - بحسب تصريحاته - تمثل
«تحالفاً
سياسياً عريضاً، لديه القدرة على إنقاذ البلاد من الانهيار والانزلاق».
تضم الحكومة الجديدة سبعة وزراء من الجماعات المتمردة السابقة ووزيرين من الجيش،
بينمـا ينتمي المتبقون إلى تحالف قوى الحرية والتغيير. وهي خطوة في صراع الشركاء
المتربصين؛ إذ يسعى كل طرف لتوسيع قاعدته الشعبية لتكون الحكومة الجديدة متكئة على
فصيلين: الحرية والتغيير، وائتلاف الفصائل العسكرية المتمردة.
وفي خطوة تشكل دعماً لتلك الحكومة المشكَّلة على أساس المحاصَّة تلقَّى رئيس
الوزراء السوداني عبد الله حمدوك اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني
بلينكن، يثمِّن فيه هذه الخطوة ويعبِّر عن التزام بلاده الراسخ بدعم الحكومة
الانتقالية ذات القيادة المدنية في السودان... كما أكد بلينكن في حديثه مع رئيس
الوزراء السوداني
«التزام
الولايات المتحدة الصارم»
بدعم التحول الديمقراطي في البلاد، والوفاء بكامل استحقاقاته، مُبيِّناً استمرار
دعم حكومة الرئيس جو بايدن للسودان خلال الفترة الانتقالية لأجل تحقيق السلام
الشامل في البلاد؛ خصوصاً الدعم في المجال الاقتصادي، وتعزيز التعاون غير المشروط
في جميع المجالات، وهذا طبيعي جداً ومتوقَّع من الحكومات الغربية أن تدعم مثل تلك
الخطوة.
ولكن ماذا بعد حكومة المحاصَّة: هي سيقبل شركاء السلطة الجدد أن تأتي انتخابات
فتقصيهم، والشواهد تقول: إن في دول العالم الثالث مَن إن ذاق طعم السلطة لا يبرحها
إلا أن تبرحه روحه طوعاً أو كرهاً، وما أن تطأ قدم فرد أو حزب السلطة إلا وينشب
فيها جذوره ليُصعِّب على الآخرين اقتلاعه.
لا شيء جديد اليوم في السودان بعد ما يقارب العامين من انتفاضة الشعب السوداني إلا
ازدياد معاناة السودانيين وازدياد صبرهم أيضاً، بين فصيل عسكري ذاق طعم السلطة من
قبل ويعرف كيف يتلاعب بأطراف النخب السياسية، وفصيل مدني ليس منتخباً تتآكل شرعيته
يوماً بعد يوم جراء الفشل الاقتصادي، وكل هدفه التمكين لفريقه اليساري وفرض
أيديولوجيته المناهضة لدين وأعراف وأخلاق شعب السودان.
المشكلة في السودان ليست في أن كلّاً من الفريقين لا يريد أن يسلم السلطة أو يتخلى
عنها يوماً ما؛ بل المشكلة في أن الشعب صاحبَ الحق يتململ دون أن يتخذ خطوات قوية
نحو التغيير، يتكلم ويعترض دون أن يصرخ. غافل عن شركاء لا يعنيهم سوى البقاء فوق
أشلاء شعب يعاني كل يوم جيشاً غشوماً وحكومة تفقره.