السؤال
الذي لم يلقَ إجابة حقيقية حتى الآن، هو: لماذا تدخلت أمريكا وحلف الناتو بهذه
السرعة لإنقاذ الثورة الليبية بعد شهر تقريباً من بدايتها، وهو ردُّ فعل لم تتخذه
هذه القوى (سياسياً أو عسكرياً) لمؤازرة الثورتين (اليمينة والسورية) على الرغم من
انقضاء أكثر من خمسة أشهر على الأولى، وأربعة أشهر على الثانية؟
ثمة
أسباب كثيرة تدور حول مراعاة التوازنات الإقليمية وتأمين الجنوب الأوروبي من
الهجرة، والحرص على عدم نشأة نظام غير موالٍ للغرب في ليبيا.
السببان الأكثر أهمية، هما:
1- إعادة تشكيل النخبة السياسية الجديدة
في ليبيا وصياغة معادلة جديدة للحكم.
2- كبح الثورات العربية عن طريق تقديم
نموذج «متعثر» للثورة في حالتها التصعيدية، وهو نموذج منفِّر لا شك يُستخدم فزاعة
للجماهير: هل تريدون لنا حالاً مثل ليبيا؟ لا بالطبع. إذن توقفوا عن الثورة.
نخبة الحكم الجديدة في ليبيا:
ليبيا
ليست تونس. نعم هذه العبارة كانت صحيحة؛ هناك فروقات كثيرة ومهمة بين الشعبين
الليبي والتونسي، أبرزها أن الثقافة الغربية ليست متغلغلة لدى الليبيين كما هي عند
جيرانهم من جهة الغرب، بل يغلب على الشعب الليبي طابع التدين الهادئ والتكوين
الاجتماعي القبلي، وهذه سمات يمكن أن تدفع بالبلد تجاه نظام يغلب عليه الطابع
الإسلامي، بينما تونس يتوفر بها قطاعات شعبية واسعة الانتشار تتبنى نهجاً علمانياً
متطرفاً يمكنها أن تقوم بدور «المكابح» للتيار الإسلامي التونسي.
ولو
عـدنا إلـى الـوراء عـدة عقـود - وتحـديداً فـي حقبـة الاستقلال والتخلص من رِبقة
الاستعمار - فسنجد أنه في أغلب الدول العربية التي كانت محتلة لعب الاستعمار دوراً
كبيراً في بناء النخب السياسية الحاكمة، التي لا تزال حتى الآن تفرز الحكام في
أغلب هذه الدول، ولئن كان دور العسكر بارزاً في تلك الحقبة فإن السبب الحقيقي في
ذلك كان سهولة تطبيقهم للنمط الديكتاتوري في الحكم، وسهولة الاختراق عن طريق صفقات
الأسلحة والمعونات العسكرية.
الآن
يبدو أن عدة دول عربية ثائرة تريد أن تتخلص من هذه النخب وميراثها القمعي، وهذا
يعني أن تتشكل نخب جديدة لن تكون بالضرورة متحمسة لعلاقات ودية مع الغرب، خاصة لو
كان المتصدرون للحكم لهم مرجعيات دينية.
بعد
أسبوعين فقط من اندلاع الثورة اتخذ مجلس الأمن موقفاً جدياً فأعلن فرض عقوبات على
النظام الليبي شملت حظر التنقل والسفر للقذافي والمقربين إليه، كما تم إحالتهم إلى
المحكمة الجنائية، وبعد ثلاثة أسابيع أصدر الإنتربول مذكرات بحقهم.
وبعد
أربعة أسابيع اعترفت فرنسا بالمجلس الانتقالي، ودعت إلى شن غارات جوية على قوات
القذافي، وفي الوقت نفسه التقت (هيلاري كلينتون) وزيرة الخارجية الأمريكية
بالمعارضة الليبية في باريس.
وبعد
شهر واحد من بدء الثورة أصدر مجلس الأمن قراراً بفرض حظر جوي على ليبيا، والسماح
باستخدام القوة العسكرية لحماية المدنيين، وهو القرار الذي تم تمديد تفسيراته على
الأرض وصولاً إلى تعقُّب القذافي نفسه ومحاولة قتله.
لم
يكن الليبيون يتخيلون أن الولايات المتحدة وحلف الناتو سوف يتداعيان إلى «نجدتهما»
بهذهالسرعة، بل إن الجامعة العربية نفسها وعلى غير مثال سابق وافقت على نزع
الشرعية عن القذافي وكانت موافقتها هي الأساس للبدء في الحملة العسكرية.
شيئاً
فشيئاً بدأت الأمور تتكشف؛ فقد أصبح المجلس الانتقالي خاضعاً إلى درجة كبيرة للقوى
الغربية، وتغلغلت أجهزة الاستخبارات داخل الوحدات القتالية للثوار وآلية عملهم
وأدائهم العسكري والأمني، وأصبح كثير من أعضاء المجلس يقضون أوقاتاً خارج ليبيا
أكثر مما يمكثون في بلدهم، وتعددت لقاءاتهم الخارجية.
وبدأت
الدول الغربية تُبرِز مخاوفها لقيادات المجلس من تغلغُل الإسلاميين؛ وذلك تحت ستار
الخوف من اختراق تنظيمات جهادية تابعة للقاعدة وحدات الثوار. هذه المخاوف يجري
ترجمتها على أرض الواقع من خلال احتياطات وإجراءات يتم اتخاذها من قادة الثورة
لمتابعة ومراقبة الأنشطة التي يقوم بها الإسلاميون، كما دفعت إلى حظر أي عمل ثوري
عسكري خارج عن نطاق المجلس واعتبار ذلك عملاً إجرامياً بدءاً من شهر رمضان المقبل.
تبدو
الكتلة السياسية الحاكمة في شرق ليبيا وبعض غربه حالياً، كتلة مهترئة مخلخلة قابلة
للاختراق والنفاذ من عدد من أجهزة الاستخبارات، وكلما طال أمد المواجهات مع
القذافي تمكنت القوى الغربية من فرض سيطرتها وبسط نفوذها في تلك التركيبة
المخلخلة.
هذه
الممارسات الغربية تتم على خلفية تأييد كبير يحمله الرأي العام الليبي للموقف
(الأمريكي - الأوروبي) من ثورتهم؛ فهم مقتنعون تماماً بأن تدخُّل حلف الناتو
أنقذهم من مذابح كبرى، بل سمح لهم بالتقدم إلى الأمام والتضييق على القذافي، وتحظى
فرنسا - تحديداً - بشعبية أكثر من غيرها؛ نظراً لموقفها المبكر من الثورة، وفي بعض
المناطق الليبية مثل «جبل نفوسة» يطلقون على الرئيس الفرنسي لقب «العم ساركوزي»
كما تذكر وكالة الأنباء الفرنسية، ويحظى ظهور أي فرنسي بترحيب كبير من قِبَل
الثوار الليبيين، الذين تنشرح وجوههم ويسارعون إلى إطلاق عبارات الترحيب به في
«بلده ليبيا»[1]!
[1] صحيفة الشرق الأوسط
13/7/2011م.