أحد أهم العوامل التي تدفع الولايات المتحدة للاهتمام بتلك المنطقة؛ هو امتلاك بلدان شمال إفريقيا الحدود البحرية الأطول مع بلدان تعدُّ جزءاً مهمّاً من التحالف المسيحي الغربي
في السابق كان من الممكن الحديث بصعوبة عن موقف أمريكي واضح حول طبيعة العلاقة مع
بلدان شمال إفريقيا نظراً لعدة أسباب، أهمها: خضوع بعض تلك البلدان لعلاقات عميقة
مع الجمهورية الفرنسية سواء على الصعيد الأمني أم الاقتصادي أم السياسي، باستثناء
ليبيا التي كانت تتمتع بعلاقات وثيقة مع إيطاليا وتربط البلدين علاقات اقتصادية
قوية، لذلك بالنسبة لحلف الناتو فإن تلك المنطقة لم تكن ذات مخاطر عالية. لكن بعض
المتغيرات طرأت على تلك المنطقة لا سيما بعد الاضطرابات التي شهدتها تلك المنطقة
متأثرة بــ (الربيع العربي)؛ فالمغرب اضطرت للتصالح مع جناح كبير من الإسلاميين
يمثله حزب العدالة والتنمية وأصبحوا جزءاً من النظام السياسي للدولة، وتونس شهدت
صعود نظام سياسي بديل لنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكذلك الجزائر شهدت
مؤخراً مظاهرات أسقطت في أبريل 2019م الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وتبع ذلك تغيرات
في النظام الأمني والسياسي بكامله...
وهذا الأمر تكرر في ليبيا التي كانت تعتبرها واشنطن دولة مارقة حتى قيام الزعيم
الليبي الراحل معمر القذافي بتسليم البرنامج النووي الليبي بكامله عام 2005م
للإدارة الأمريكية؛ لكن بعد أن تفجرت الأوضاع التي سمحت بإسقاط القذافي وقتله،
وكذلك مهاجمة السفارة الأمريكية في بنغازي وقتل السفير عام 2012م، بدأت النظرة
الأمريكية تتغير مدفوعة أيضاً بسيطرة الجماعات الجهادية على مالي إثر إندلاع الصراع
في ليبيا وفشل عملية برخان الفرنسية المتواصلة منذ عام 2013م في القضاء على تلك
الجماعات.
أحد أهم العوامل التي تدفع الولايات المتحدة للاهتمام بتلك المنطقة؛ هو امتلاك
بلدان شمال إفريقيا الحدود البحرية الأطول مع بلدان تعدُّ جزءاً مهمّاً من التحالف
المسيحي الغربي الذي تشكَّل عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية؛ وهو حلف
شمال الأطلسي (الناتو)، فليبيا وحدها تمتلك شواطئ مقابلة للحدود البحرية الأوروبية
يصل طولها 1850 كم، وهذا الأمر تعتبره واشنطن أحد المهددات والمخاطر الأمنية التي
يواجهها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى عمليات الهجرة غير الشرعية التي
أحدثت تغيرات ديموغرافية في الكتلة الأوروبية أثَّرت على المسارات السياسية لتلك
الدول، وشكَّل الاضطراب في ليبيا بؤرة جيدة لنمو الحركات الجهادية ونقطة استقطاب
للوجود الروسي، تبعه ضغط أمني كبير على الوجود الفرنسي في مالي وتشاد والنيجر
وتغيُّر الثوابت الجماهيـرية التي كانت تؤمن بالتبعية الكاملة للفرنكوفونية. لذلك
أصبح الوجود الأمريكي أولوية تعيدنا إلى المربع الأول إذ بدأت العلاقات الأمريكية
مع تلك المنطقة.
فقد دخل الجيش الأمريكي شمال إفريقيا في نوفمبر عام 1942م في المغرب والجزائر وتونس
للمشاركة في المعارك ضد القوات الألمانية والإيطالية، واعتبرت المشاركة الأمريكية
في سياق تأمين طرق الإمداد الإستراتيجية في البحر المتوسط. وبعد أحداث 11 سبتمبر
2011م استغلت واشنطن شعار حربها على (الإرهاب) لتعزيز علاقتها بالمنطقة وأنشأت نظام
مراقبة بحري بموجب اتفاقيات تعاون بين (النـاتو) والجيوش في المغرب والجزائر وتونس.
وكذلك تم التعاون في برنامج آخر وهو مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء (TSCTI)،
شملت تونس والمغرب والجزائر. المبادرة الأمريكية لمكافحة (الإرهاب) كانت عملية
تشبيك مع الأجهزة الأمنية أكبر من هدفها المعلن المتعلق بعمليات تدريب وهيكلة
للقوات في مالي وموريتانيا والنيجر وتشاد، وسعت إلى توسيع خريطة نفوذها لتصل إلى
غانا والسنغال ونيجيريا.
المغرب:
تتمتع الولايات المتحدة بعلاقات عسكرية جيدة مع المملكة المغربية حتى مع رفضها
الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية؛ فالمغرب تأتي في المرتبة الثانية بعد
مصر من حيث حجمُ المساعدات الأمريكية التي تحصل عليها، والمسؤولون الأمريكيون
ينظرون إلى الرباط على أنها حليف عربي معتدل، وشريك في (الحرب العالمية على
الإرهاب)، ولاعب هام في إنجاح (السلام الإسرائيلي - الفلسطيني)، كما أن الإدارة
الأمريكية تبتعد عن أي طرح علني قد يؤثر على استقرار حكم الملك محمد السادس فيما
يتعلق بالصراع في الصحراء المغربية.
تونس:
بالنسبة لتونس فإن طبيعة العلاقة لا تختلف كثيراً في جوهرها عن العلاقة بين المغرب
والولايات المتحدة؛ فرغم الغموض الكبير فيما يتعلق بالوجود الأمريكي في تونس إلا أن
الجيش الأمريكي لديه أكبر قاعدة طائرات مسيرة في إفريقيا موجودة في تونس، ورغم رفض
الحكومة التونسية الإقرار بالوجود العسكري الأمريكي في تونس وطبيعة النشاطات
الأمريكية داخل حدودها إلا أن قاعدة بنزرت الجوية تشكل أكبر قوة للجيش الأمريكي في
المنطقة وتشارك بصورة كبيرة في متابعة نشاط الجهاديين على الحدود بين ليبيا وتونس
وتدريب عناصر الجيش التونسي. ففي عام 2017م شهدت تونس معارك عنيفة بين الجيش وتنظيم
القاعدة في بلاد المغرب العربي ولم يحسم المعركة لصالح الجيش التونسي سوى تدخل
الطيران الأمريكي.
وبخلاف الاتفاقات الرسمية التي بموجبها يتم بناء قواعد أمريكية داخل بعض بلدان شمال
إفريقيا فإن هناك اتفاقياتٍ أخرى تؤكد تخصيص مساحات للعمل ضمن مرافق الدولة
المضيفة، وهذا الأمر مطبق في تونس والسنغال وأوغندا. رغم ذلك فإن خرائط (أفريكوم)
التي تدير الوجود الأمريكي في إفريقيا لا توضح هذا الأمر باستثناء الإشارة إلى وجود
29 قاعدة أمريكية ينتشر فيها قرابة 6000 جندي أمريكي.
و (أفريكوم) هي الهيكل القيادي الموحد المسؤول عن إدارة جميع الأنشطة العسكرية
الأمريكية في إفريقيا، باستثناء مصر بسبب خصوصية العلاقة بين الطرفين التي فرضتها
اتفاقية (كامب ديفيد)، ويوجد المقر الرئيس لـ (أفريكوم) في مدينة شتوتغارت
الألمانية لأسباب أمنية؛ وهو ما يدل على هشاشة الوجود الأمريكي في إفريقيا.
ليبيا:
بالنسبة للملف الليبي هناك بعض السيناريوهات التي يمكن البحث فيها لتحليل الموقف
الأمريكي وطبيعته من هذا الملف، لكن في جميع الأحوال هناك ثوابت لا تتعلق بالموقف
الأمريكي وحده بل بالكتلة الغربية كلها؛ فالحرب في ليبيا تسببت في توتر الأوضاع في
مالي وصعودٍ كبير للحركات الجهادية هناك، الأمر الذي أدى إلى وجود ذريعة تدخُّل
فرنسي عسكري تحت ما يسمى عملية (برخان)، المتواصلة بمشاركة دولية بما في ذلك
الولايات المتحدة. وهذا الأمر نتج عنه فشل فرنسي كبير إثر سقوط كثير من الجنود
الفرنسيين في معارك استنزفت مالي والبلدان المجاورة لها وتسبب في تضاعف السخط تجاه
الوجود الفرنسي. وهذا الأمر تسبب في حصول تدخُّل أمريكي هدفه تدويل عملية مكافحة
الإرهاب وإنقاذ فرنسا من ورطتها في عملية (برخان)، ونتج عن ذلك حدوث انقلاب عسكري
أطاح بالرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا وصعود قيادة جديدة تسحب الطاولة من تحت
أقدام ثورة كانت مبشرة بالإطاحة بالوجود الفرنسي بكامله.
لذلك يعد ملف مكافحة (الإرهاب) أحد أبرز عوامل التدخل الأمريكي في ليبيا عبر توجيه
ضربات جوية لملاحقة عناصر القاعدة وتنظيم (داعش)، لكن من المثير للاستغراب أن ذلك
التدخل يتم بمعزل عن الموقف الحاصل في ليبيا؛ فرغم دعم الولايات المتحدة النظري
لحكومة الوفاق في طرابلس تماشياً مع موقف الأمم المتحدة منها؛ إلا أنها لا تعتبرها
شريكاً فاعلاً في ليبيا، ويمكن تفسير ذلك في سياق اعتبار تلك الحكومة العقبة
الوحيدة أمام النفوذ الروسي في ليبيا. كذلك تقف الولايات المتحدة موقف حياد مريب
بشأن القوات التي يقودها خليفة حفتر ذو الجنسية الأمريكية، والتي راكمت وجود 10
قواعد عسكرية أجنبية في البلاد تدير 20 ألف مرتزق أجنبي أبرزهم قوات الفاغنر
الروسية. وهذا الأمر قد يكون أحد أسباب تريثها في دعمه لكنها لا تمانع أن تقوم هذه
القوات بملاحقة الجماعات الجهادية في الشرق الليبي وتعتبر ذلك حافزاً لاستطالة أمد
الصراع في ليبيا. ولا ننسى هنا أن الولايات المتحـدة لديها مصالح نفطية واقتصادية
في ليبيا تجعلها تحاول إمساك العصا من المنتصف؛ فالشركات الأمريكية منخرطة بشكل
كبير في بناء الحقول النفطية الليبية، وأبرمت شركة أوكسيدنتال بتروليوم ومجموعة
أويسيس صفقات مع الحكومة الليبية لاستئناف عملياتها.
الجزائر:
وفيما يخص الجزائر فمنذ انتهاء العهدة العشرية والحرب التي شنها جنرالات فرنسا على
الجبهة الإسلامية للإنقاذ منقلبين على نتائج الانتخابات العامة التي صعَّدتها عام
1991م، بدأت الولايات المتحدة تعتقد أن النظام السياسي في الجزائر يمكن أن يصبح
شريكاً في حربها على (الإرهاب) والسير في الفلك الأمريكي؛ لا سيما عقب اضطراب في
العلاقات بسبب موقف الجزائر من الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي سابقاً
والولايات المتحدة، ومن أجل تصحيح المسار رسخت الولايات المتحدة العلاقات
الاقتصادية بين الطرفين، لذلك تعد واشنطن من الشركاء الكبار للاقتصاد الجزائري؛ فهي
تستورد نسبة كبيرة من وارداتها النفطية من الجزائر. وفي يونيو عام 2007م وقَّعت
الولايات المتحدة اتفاقية للتعاون في مجال الطاقة النووية، وفي فبراير 2006م زار
وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد المغرب والجزائر وتونس وأثنى على ما وصفه بـ
«القيادة
المعتدلة»
في تلك البلدان. وقال:
«هناك
تحدٍّ لإقامة مغرب عربي آمن ومعتدل وأكثر توحداً».
خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر في سبتمبر الماضي لبلدان المغرب العربي
قال:
«نحن
نواصل معاً مواجهة السلوك الخبيث لبكين وموسكو، الذي يسعى لتقويض المؤسسات
الإفريقية وسيادتها الوطنية، واستغلال الموارد الطبيعية في المنطقة».
تأخُّر ارتباط منطقة شمال إفريقيا بعلاقات وروابط قوية مع الإدارة الأمريكية، كانت
عملية خاضعة بصورة مباشرة للتنافس الفرنسي الأمريكي في تلك المنطقة، فالاعتدال
بالنسبة للأمريكيين يتعلق بالخضوع للقوى الاستعمارية الغربية بغضِّ النظر عن هوية
النظام السياسي الحاكم. وهذا الأمر كان خلال الحرب الباردة يقسم العالم إلى قوة
راديكالية تقف إلى جانب الاتحاد السوفييتي سابقاً ومنها الجزائر، وأخرى كانت داعمة
للكتلة الغربية. أما اليوم فيتعلق الاعتدال الأمريكي بمدى قدرة تلك الدول على دعم
عملية (السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب).
العناوين الأمريكية البراقة نفسها التي دائماً ما تحدد طبيعة التدخل الأمريكي في أي
منطقة في العالم وهي الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب، وحقوق الإنسان، لكن بالنسبة
للحالة السياسية في شمال إفريقيا فإن الولايات المتحدة تشهد تطورات تجاوزت تلك
المرحلة؛ فالحليف الفرنسي الوثيق بدأ يعيش لحظات انهيار أمني واقتصادي أضعفت وجوده
في تلك المنطقة بعد الربيع العربي، وفشله - مثلما ذكرنا سابقاً - في عملية برخان في
مالي قد تكون أحد أسباب مسارعة الإدارة الأمريكية في تدخلها في المنطقة، لضمان
إبعاد أي مهددات على المدى الطويل عن حدود الاتحاد الأوروبي.
الأمر الآخر يتعلق بنمو متسارع للجماعات الجهادية في تلك المنطقة وعدم قدرة الأنظمة
السياسية على كبح جماحها؛ لا سيما في ظل معاناة السكان بسبب الظروف الاقتصادية
السيئة والاضطرابات الأمنية والسياسية المتلاحقة وصعود جيل جديد من السياسيين لا
يستطيع التأقلم مع السياسيات الغربية لا سيما في تونس. يضاف إلى ذلك أن من المخاطر
التي تحفُّ الوجود الأمريكي في تلك المنطقة التنافس التركي الروسي الصيني هناك؛
فتركيا ضاعفت عدد سفاراتها في إفريقيا خلال العقد الأخير أربعة أضعاف وركزت في
وجودها على البنى التحتية والشراكات طويلة الأمد مع الحكومات؛ فعلى سبيل المثال
وقَّعت الحكومة التركية اتفاقيةً دفاعيةً مع الحكومة الليبية عام 2019م تم بموجبها
ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وهو ما منح تركيا الحرية في التحرك والتنقيب عن
الثروة النفطية في البحر المتوسط وتسبب ذلك بأزمة مع بلدان الاتحاد الأوروبي.
وكذلك يمثل الوجود الصيني أكبر المخاطر التي ترعب الوجود الأمريكي في إفريقيا
والعالم؛ فقد ذكرت وزارة التجارة الصينية على موقعها الرسمي أن حجم التجارة بين
الصين والدول الإفريقية بلغ في النصف الأول من عام 2019م 101 مليار دولار، وهذا
الأمر لا يشمل بالضرورة حقول التعاون العسكري والأمني الذي يمثل أكبر عوامل تحييد
الوجود الأوروبي في القارة السمراء. ويمثل الوجود الروسي أيضاً في القارة السمراء
أحد محفزات التدخل الأمريكي في شمال إفريقيا؛ فالجزائر - مثلاً - لديها اتفاقيات
تعاون دفاعي ضخمة مع روسيا، وكذلك استعان الجنرال حفتر في ليبيا بالوجود الروسي في
صراعه مع حكومة الوفاق، وهذا الأمر سمح لروسيا أن تكون قريبة من الحدود الجنوبية
لأوروبا؛ سواء براداراتها العسكرية أم بأنظمة الدفاع الجوي التي تؤثر على القدرات
العسكرية لحلف الناتو، لكن مثلما قلنا سابقاً: يبقى السبب الرئيسي للتدخل في تلك
المنطقة هو الاضطراب الذي يعيشه الوجود الفرنسي في تلك المنطقة والصعود المتنامي
للجماعات الإسلامية بشقيها السياسي والأمني، والذي نتج عنه اقتلاع أنظمة سياسية
كانت تحافظ على علاقات وثيقة مع المنظومة الغربية، ومخاوف من مزيد من الانهيارات في
تلك المنظومة على المدى البعيد؛ لا سيما أن فرنسا مشغولة بمهددات داخلية كبيرة
أبرزها العوامل الاقتصادية التي حدَّت من قدرتها على تمويل عملياتها العسكرية في
إفريقيا.