كان لافتاً أن جرى الانقسام (السياسي - المجتمعي) بين النخبتين وداعميهما على أساس تناقضٍ في الرؤية للعالم وللعلاقات الدولية، وللمصالح الأمريكية بطبيعة الحال، وهو ما سيكون له أثر مستقبلي عميق حول الدور الأمريكي في العالم
تغيَّرت معالم قوة الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً، وبات مطلوباً أن تتغير وجهات
النظر الثابتة (القديمة أو السائدة) حولها.
ويمكن القول: بات ضرورياً الآن البحث بعمق فيما ستُدخله التغييـرات التي جرت في
الولايات المتحدة على الوضع الدولي؛ بحكم الهيمنة الأمريكية على التوازنات والقرار
والنظام الدولي القائم، إذا جاز وصفه بالنظام.
كان من المعتاد القول والكتابة، أن الولايات المتحدة نظام مستقر سياسياً ومجتمعياً.
وكان نظام الانتخابات وتداول السلطة محلّاً للتقدير عند كثرة من الكتاب والمحللين،
وغالباً ما كان يقال: إنها دولة مؤسسات تنتج إستراتيجيات داخلية ودولية، لا تتغير
بتغيُّر الرؤساء، وأن العقل الإستراتيجي الأمريكي المرتكن إلى القوة الأعلى
اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً وسيبرانياً، هو الأكثر تأثيراً في صناعة القرار
الدولي، وفي مختلف أقاليم العالم.
لكن تجربة حكم ترامب (2016 - 2020م) والانقلاب الذي حدث خلالها على التوجهات
السائدة في السياسات الداخلية والخارجية، وما جرى خلال الانتخابات التي حاول ترامب
العودة من خلالها إلى البيت الأبيض في دورته الرئاسية الثانية، أحدثت تغييراً
كبيراً؛ سواء في نظرة الأمريكيين لأنفسهم كمجتمع ونظام سياسي، أو في استقرار الطابع
المؤسسي للحكم، وكذلك على صعيد الرؤية السائدة بوجود خطط إستراتيجية طويلة المدى لا
تتغير بتغير الرؤساء. كما فتحت باب التساؤلات حول مستقبل النظام الأمريكي لتداول
السلطة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وحول الدور الدولي للولايات المتحدة
مستقبلاً.
وقد كشفت الانتخابات عن انقسامٍ وتناقضٍ عميقٍ في رؤى النخب الأمريكية، وعن حدوث
شرخ في العلاقات المجتمعية على نحو كبير، وصل حدَّ القلق المعلن من احتمالات وقوع
حرب أهلية في البلاد.
لقد تبلور في تلك الأزمة تياران واضحان متضادان، ولم يعد الانقسام بين الجمهوريين
والديمقراطيين يحمل المعاني نفسها والمدلولات القديمة.
لقد تبلور تيار انكفائي (وطني) محلي، يرتبط بمصالح اقتصادية وقاعدة اجتماعية
وجماعات دينية وعرقية، عبَّر عنه ترامب وأنصاره. في مقابل تبلور تيار عولمي يستند
إلى مصالح اقتصادية أخرى وقاعدة اجتماعية أخرى وجماعات دينية وعرقية أخرى، عبَّر
عنه أنصار بايدن. ولكلٍّ منهما رؤى متضادة حول الدور الأمريكي في العالم.
تلك الحالة لم تتأسس نتيجة للتنافس الانتخابي؛ بل اقتصر دوره على الكشف عنها
وتغذيتها بالوقود، بعدما تنامت في داخل المجتمع والنخب، نتيجة لتغييراتٍ وأزماتٍ
داخلية وخارجية. وهي حالة تؤسس بعد الانتخابات لنمطٍ متفاعلٍ من الصراع الداخلي
الذي سيعيد بدوره تحديد الإستراتيجيات والسياسات الخارجية والداخلية بعد بايدن.
وقد كان لافتاً أن جرى الانقسام (السياسي - المجتمعي) بين النخبتين وداعميهما على
أساس تناقضٍ في الرؤية للعالم وللعلاقات الدولية، وللمصالح الأمريكية بطبيعة الحال،
وهو ما سيكون له أثر مستقبلي عميق حول الدور الأمريكي في العالم؛ خاصة بعدما وصل
الأمر حدَّ أن شهدت الانتخابات والعلاقات السياسية الداخلية دوراً خارجياً واضحاً
في التأثير عليها.
وهكذا فنحن أمام ولايات متحدة مختلفة، تؤكد المؤشرات أن خط الهبوط والتراجع الداخلي
والخارجي لها سيسير في منحنىً متنامٍ، مستقبلاً.
ماذا جرى في الانتخابات؟
لم يجرِ التباري بين المرشحين في الانتخابات الرئاسية على أصوات الجمهور العام فقط،
كما هو معتاد؛ بل جرى صراع وحرب تكسير عظام بين تيارين، امتد صراعهما إلى داخل
مختلف أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وشهد استدعاءً لضغط الشارع
بالمظاهرات والمظاهرات المضادة، تحت ضغط اتهام بتزوير الانتخابات وعدم شرعية تولي
الرئيس الجديد للحكم، وهو ما طرح تخوفاتٍ من احتمال اندلاع حرب أهلية، بالنظر
لتنامي معدلات شراء الأسلحه في الولايات الأمريكية - قبل هذا الصراع وأثناءه - حتى
فرغت معارض السلاح.
لقد أعلن دونالد ترامب عن حدوث أعمال تزوير ممنهجة، وتشبَّث بنجاحه وحشد حزبه
وأدواته الإعلامية، ولجأ إلى القضاء عشرات المرات ومارس كلَّ أنواع الضغوط على
المشرعين والتنفيذيين من حـزبه، ورفض نقـل السلطة بالطرق المعتادة (وَفْقَ الأعراف
والتقاليد المعتمدة عبر التاريخ الانتخابي)، وحاول الوصول بقضايا الانتخابات التي
رفضتها محاكم الولايات إلى المحكمة العليا، حيث للجمهوريين عدد أكبر بين قضاتها،
ووصل بالفعل لكن عبر طريق خطر؛ إذ تقدم حاكم ولاية تكساس (الجمهوري) بطعن في
الانتخابات ضد أربع ولايات أخرى، وتضامن معه حكام 17 ولاية (جمهوريون)، وهو ما شكل
ظاهرة انقسامية خطرة على الصعيد السياسي والمجتمعي، زادت مخاطرها بعدما دعا ترامب
مناصريه للنزول إلى الشوارع للضغط من أجل قلب نتائج الانتخابات، كما قال هو نفسه.
وفي المقابل تحرك بايدن هو الآخر عبر مؤسسات الدولة وحشد دور التنفيذيين والمشرعين
الديمقراطيين، كما حشد أنصاره في الشوارع لشل فعالية محاولة ترامب تعطيل إعلان
النتائج وانتقال السلطة. كان سلوك بايدن الحريص على عدم الاصطدام بترامب وأنصاره،
واعتماده في المواجهة على أجهزة الدولة، التعبيرَ الأشد وضوحاً على المخاطر المحيطة
بأوضاع البلاد. وقد كان الخطر جليّاً مع وقوع أعمال عنف، ومع ضبط محاولةٍ لاغتيال
بايدن، ومع ضبط مخطط لإطلاق حرب أهلية عبر خطف حاكمة ولاية ميتشجن الديمقراطية.
ووصل الأمر حدَّ دخول دول العالم على خط حسم النتائج؛ إذ جرت عملية تعبئة لكثير من
دول العالم للاعتراف - أو عدم الاعتراف - بفوز بايدن.
فبينما كانت وقائع الصراع تجري، والتقديرات المعلنة واضحة بفوز بايدن، وإذ كانت
حركة الصراع تشي بعملية انقلابية يقودها ترامب وَفْقَ آليات إعلامية وجماهيرية
وقضائية... تدخلت كثير من دول العالم معلنة دعم فوز بايدن بتهنئته، بينما ترامب
يتحدث عن تزوير الانتخابات ورفضه الاعتراف بنتائجها، من جهة أخرى أبطأت دول أخرى
اعترافها بفوزه، حتى أن الرئيس الروسي بوتين تحدث في تلك المرحلة عن عدم استطاعته
الاعتراف بفوز بايدن في وقت كان فيه بايدن قد تلقَّى فيه عشرات التهاني
(الاعترافات) من قادة دول العالم.
وكلها مواقف جرت على خلفية العداء أو الرفض لِـمَا أتى به ترامب من سياسات خارجية،
والترحيب والتأييد لما أعلنه بايدن عن نيته إلغاء العديد من قرارات ترامب الخارجية
(وهي كانت قرارات لإدارة أوباما ألغاها ترامب)؛ سواء قرارات الانسحاب من اتفاقية
المناخ ومنظمة الصحة العالمية أم الاتفاق النووي مع إيران... إلخ، والتأييد أيضاً
لما أعلنه بايدن من العودة للسياسة الأمريكية الكلاسيكية في التعاون مع الحلفاء
الأوروبيين وفي حلف الأطلنطي التي كان ترامب قد أصابها بالتوتر والاضطراب، وكذا
الحال فيما يتعلق بتحديد الحلفاء والأعداء (روسيا والصين).
وهكذا لم تكن النتيجة الأهم للانتخابات هي فوز بايدن بالرئاسة؛ وإنما تنامي تلك
الحالة الصراعية واهتزاز مشروعية النظام الانتخابي وانكسار هيبة مكانة الرئيس
ومشروعية وجوده في البيت الأبيض، والانقسام السياسي والمجتمعي حول قرارات القضاء،
وتعمق الانقسام بين النخب حول الدور الأمريكي في العالم، واهتزاز صورة أمريكا أمام
العالم وفقدانها بريقها الحضاري؛ وخاصة أن تلك الأحداث قد جرت في ظل الفشل الأمريكي
الكبير في مواجهة فيروس كورونا مقارنة بدول أخرى منافسة للولايات المتحدة.
كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
كما هو معتاد في الظواهر المجتمعية؛ فقد سرى التغيير ببطىء ودون صخب كبير لفترة من
الزمن، إلى أن وقع الحدث المفجِّر، فكان الإعلان بصخب عن حجم التغييرات. لقد مثَّل
وصول ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة بداية التغيير الفوقي المستند إلى
تغييرات كمية متراكمة لفترة طويلة، وتلك الحالة من التغييرات التراكمية هي ما جعلت
ترامب يصل إلى الحكم (وهو القادم من خارج الفئات والنخب السياسية)، وأن تكون فترة
حكمه حالة مختلفة كليّاً عن كلِّ مَن سبقوه، وأن يطرح ترامب موقفاً حازماً حدَّ
الصلافة من كل المؤسسات الأمريكية بما فيها مؤسسات (الإعلام والاستخبارات)، وأن
تكون فترة حكمه متواترة الصدمات للنخب، دون أن يفقد جماهيريته!
لقد شهد الحزب الجمهوري تغييرات عميقة، كان أبرز مظاهرها ما جرى خلال حكم جورج بوش
الابن (2001 - 2008م) من سيطرة مَن وُصِفوا بـ (المسيحيين الصهاينة) أو بـ
(المحافظين الجدد) وهذا ما عبَّر عنه إضافة لبوش، ديك تشيني نائبه ووزير الدفاع
دونالد رامسفيلد، وكلهم كانوا متأثرين فكرياً وعقائدياً بريتشارد بيرل الملقب في
أمريكا بأمير الظلام. وهي حالة تواصلت بظهور حركة الشاي اليمينية عام (2009م)، التي
اعتبرت الردَّ المكافئ عنصرياً لوصول أوباما إلى البيت الأبيض.
وفي المقابل جرت تغييرات أخرى في الحزب الديمقراطي، كانت إحدى نتائجها أن وصل باراك
أوباما إلى الحكم كأول رئيس من أصل إفريقي، كما تنامى دور الأقليات العرقية
والدينية في صناعة القرار في الحزب، كما تنامت كذلك نسبة أعدادهم بين السكان مع
استمرار الهجرة، وظهر في الحزب تيار أشد ليبرالية (أو يسارية) تبنَّى قضايا الإجهاض
وتمويل الدولة له (حسب نظام أوباما كير الصحي) وصار يبدو أكثر تماسكاً ككتلة داخل
الحزب، وهو ما انعكس في نجاح العديد من رموزه على حساب نواب مخضرمين في الحزب
الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة.
وهكذا جاء ترامب تتويجاً لتغييرات في الحزب الجمهوري، وفي الشارع الأمريكي، وردَّ
فعل على التغييرات في الحزب الديمقراطي وفي المجتمع.
لقد مثَّل دونالد ترامب حالة سياسية جديدة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين؛ إذ جاء
ترامب من خارج النخب السياسية بشقيها الجمهوري والديمقراطي، وهو بطبيعته العدائية
أو العدوانية كان الشخص الأنسب لمواجهة انتشار فكر الديمقراطيين وبرامجهم في
المجتمع وتصاعد دورهم في داخل مؤسسات الدولة - خاصة بعد وصول أوباما إلى سدة حكم
الولايات المتحدة - باعتبارهم أميل في الداخل الأمريكي إلى فكرة (الحرية في الحياة)
والداعمين لحقوق الأقليات وللهجرة ولرفض أفكار تميُّز العرق الأبيض ولدعمهم الشامل
لأفكار تحرر المرأة إلى درجة الحق في الإجهاض ولحقوق المثليين... إلخ.
لقد كان الشخصَ المناسب لردِّ الفعل العكسي من قِبَل البروتستانت والمجموعات
العرقية والعنصرية الداعية لأفكار تفوُّق العرق الأبيض، والمتخوفين من ذوبان هذا
العرق وفقده السطوة والسيطرة على الولايات المتحدة. هم يرون أنهم من أسسوا الولايات
المتحدة وأن ما جرى من منح حق التصويت للمواطنين من أصول إفريقية، ومن إعطاء المرأة
حق التصويت والترشيح وإغراق البلاد بالمهاجرين من لاتينيين ومن أعراق وأديان أخرى،
يمثل تغييراً للولايات المتحدة.
وباعتباره فرداً بلا خبرة سياسية ولا فكرة أيديولوجية متكاملة، فقد مثل غطاءً
مناسباً بل ملهماً لمجموعات عديدة بعضها من الإنجيليين الصاعدين في مواجهة
الكاثوليك (وتلك كانت رمزية اختيار مايك بنس نائباً له خلال فترته الرئاسية)، ويصل
الأمر - حسب بعض الدوائر - إلى أن ترامب مثَّل غطاءً لتحالف إنجيلي - صهيوني، وعرقي
وميليشياتي ينكبُّ على إعادة أمريكا إلى وضعية الحكم العنصري للبيض.
لقد وصل ترامب إلى الحكم تحت شعارات حماية المجتمع الأمريكي في الداخل، وإنهاء
الحروب وسحب القوات الأمريكية من الحروب التي لا نهاية لها في الخارج. تلك الشعارات
وما تبعها من ممارسات بعد وصول ترامب للحكم، جاءت متناقضة كليّاً مع التيار العولمي
(الليبرالي) الذي كان تبلور بدوره في داخل الولايات المتحدة.
والتيار العولمي الذي مثَّله بايدن، هو المؤمن والمرتبطة مصالحه بالدور الريادي
للولايات المتحدة في حكم العالم والتحكم فيه، وهو الامتداد والتطوير للتيار
الاستعماري القديم؛ إذ لا يؤيد فقط النزعة الاستعمارية الأمريكية؛ بل يؤيد سيطرة
الولايات المتحدة على إدارة العالم، وفق نظرية أن كل نمو قوي في أي دولة في العالم
يأتي على حساب القوة الأمريكية ويمثل خطراً على الأمن القومي الأمريكي. وهو تيار
متأصل في فكر وعقل وسلوك الحزبين الجمهوري والديمقراطي مع اختلافهم في إنفاذ
أولويات السياسة، وذلك ما دفع إلى القول بأن ترامب مثَّل انقلاباً على الحزبين وليس
الحزب الديمقراطي وحده.
ويمكن القول بأن التيار العولمي هو من قاد عمليات التحول الاقتصادي عالمياً، وهو من
يدعم السيطرة الإعلامية للولايات المتحدة حول العالم، وهو من يدعم تلك السيطرة حتى
على حساب بعض القضايا الداخلية، وأنه مَن مثَّل مصالح الشركات الكبرى الأمريكية
وتقدُّمَها وتطوُّرَها وتحكُّمَها، وإن كان ليس واضحاً بدقة مدى تمثيله للقطاعات
المالية أيضاً.
وهكذا جرى تبلور التيارين الانكفائي والعولمي على خلفية تنامي صراعات داخلية، لكنَّ
جانب التأثيـر الخارجي كان حاضراً بشدة. فكل هذا الذي جرى وما يزال يجري لا يمكن
فصله عن حالة تراجع الولايات المتحدة على الصعيد الدولي (اقتصادياً وسياسياً). لقد
كان لهذا التراجع دور بالغ التأثير، أو كان أحد أهم عوامل تحريك الصراع الداخلي،
ولذلك شهدنا خلال الصراع بروزاً جلياً - للمرة الأولى على هذا النحو - لتناقض الرؤى
حول الوضع الدولي.
تراجع أمريكا دوليّاً:
ما يجري داخل الولايات المتحدة ليس ظاهرة داخلية منعزلة عن تأثير الوضع الدولي على
الولايات المتحدة. لقد كان لتراجع الوضع الاقتصادي الأمريكي وظهور دول أخرى على
ساحة التأثير في إدارة السياسات الدولية دوره المؤثر على الأوضاع في الداخل على
كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ضمن ظاهرة الارتداد
العكسي لحركة العولمة.
وواقع الحال أن الصراع القائم في الولايات المتحدة يجري تأثُّراً بالتراجع الذي
تعيشه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن. ويمكن القول بأن وصول
الساسة إلى حكمها قد جرى بعدها على أساس بناء خطط تستهدف وقْف هذا التراجع، وترامب
لم يكن إلا المحاولة الثالثة - وبايدن هو المحاولة الرابعة - والأغلب أن العالم
سيشهد عند نهاية ولايته ظهور تيار أشد انكفائية وأشد وطأة من حكم ترامب؛ إذ يأتي
بايدن إلى الحكم والعالم قد تغيَّر بمعدَّلات متسارعة على حساب القوة الأمريكية؛
ليس فقط بسبب سياسة ترامب، ولكن بفعل حركة تطور تاريخي لم تنجُ منه الإمبراطورية
الأمريكية، التي تراجعت لمصلحة تصاعد قوة الأقطاب الدولية الأخرى الصاعدة.
لقد وصل جورج بوش الابن إلى الحكم على خلفية استشرافٍ بتراجع الولايات المتحدة
دولياً أمام تنامي أقطاب دولية أخرى، وكان تعبيراً أوليّاً عن التغيير الحادث في
قمة الحزب الجمهوري عمَّا كان أرسي عليه منذ مدة طويلة؛ وهو ما عكس أزمة الحزب
والدولة والمجتمع. أدار بوش الإستراتيجية الدولية للولايات المتحدة عبر استخدام
القوة العسكرية باعتبارها أهم عناصر التفوق الأمريكي في ظل التوازنات الدولية
القائمة وقتها.
وحاول عبر أعمال غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما، تأكيد وتثبيت حالة القطبية
الواحدة للولايات المتحدة.
لكن محاولة جورج بوش الابن وفريقه أصيبت بالهزيمة؛ فقد قاوم العراقيون عبر المقاومة
الوطنية، وقاوم الأفغان عبر تواصل واستمرار دور حركة طالبان. وأفقدت الحرب الولايات
المتحدة القدرة على الاستمرار في احتلال قمة العالم منفردة جراء إنهاك الجيش
والاقتصاد معاً. كما أفقدتها بريقها الحضاري الذي كان عنواناً مهمّاً من عناوين
تقبُّل الشعوب والدول للدور الأمريكي. وكان مهمّاً كذلك، أن وضعت مؤسسات الدولة
الأمريكية في موضع الاتهام، بعدما كذب قادة مؤسسات الدولة بشأن الأسباب التي روجوا
لها خاصة عن غزو العراق واحتلاله، وبسبب الهزائم والضربات شديدة التأثير التي أصيبت
بها قدرات الدولة الأمريكية تحت ضربات المقاومة العراقية والأفغانية. وكانت
التقديرات الدولية أشارت بوضوح إلى أن الانغماس الأمريكي في تلك الحروب قد منح
القوى الدولية الصاعدة (الصين وأوروبا وروسيا) فرصة الوقت لتحقيق مزيد من عوامل
القوة والتطور على حساب الهيمنة والسيطرة الأمريكية دولياً.
ووصل باراك أوباما إلى الحكم، فأَولَى اهتماماً كبيراً لعملية ترميم سمعة الولايات
المتحدة، ومارس دوره وَفْقَ اعتراف ضمني بتنامي قوة الدول الأخرى الصاعدة، ومبدياً
قدراً من الاستعداد للاعتراف بالتغيير في توازنات الوضع الدولي. أدار أوباما فترتيه
في الرئاسة التي انتهت عام 2016م وَفْقَ منطق ورؤية التعاون مع الدول الكبرى، وهو
ما مثَّل طريقاً لإدارة تراجع الولايات المتحدة، ضمن خطة لاستعادة دورها من بعدُ.
كما اهتم أوباما بدور مجموعة العشرين ومجموعة دول الثمانية لتأكيد الطابع الدولي
لإدارة العالم في اختلاف عن جورج بوش الذي اعتمد منهجاً انفرادياً إلى درجة اتخاذ
قرار الحرب والعدوان في ظل رفض من القوى الدولية حليفة الولايات المتحدة في حلف
الناتو التي هي من تقوده.
غير أن مرحلة حكم أوباما لم تحقق ما استهدفه؛ إذ واصلت الولايات المتحدة تراجعها،
بينما واصلت القوى الدولية الصاعدة تطورها بالمقابل. وإذا كان جورج بوش قد انغمس في
الحروب بما منح الصين وروسيا وأوروبا فرصة التطور والتقدم وتنامي معالم قوَّتها،
فقد جاء أوباما ليتيح لها - وفق حسابات موضوعية - الفرصة للتمدد والقوة أيضاً.
وهكذا جاء الرئيس ترامب إلى الحكم وفق إستراتيجية جديدة، يتحدث الكثيرون أن مهندسها
هو نائبه مايك بنز.
سرَّع ترامب من فكرة انسحاب الولايات من إدارة العالم وفق منطق الهيمنة، وركَّز على
القضايا المتماسة مباشرة مع المصالح الأمريكية، حتى لو ذهب الآخرون إلى الجحيم، ومع
القضايا المرتبطة برؤى وأفكار البروتستانت والإنجيليين بشكل خاص.
رفع شعار أمريكا أولاً، فألغى مشاركة الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية
ليعيد الاعتماد على القدرات المنفردة للولايات المتحدة، وألغى توقيع أوباما على
اتفاقية باريس للبيئة، ليطلق العنان مجدداً للصناعات الملوثة للبيئة؛ إذ أعاد
الاعتبار وقدم الدعم لشركات إنتاج النفط الصخري، وسعى لإعادة الاستثمارات الأمريكية
من الصين خاصة، وفعَّل الحمائية تجاه الصين وأوروبا وسعى لإنهاء الحروب التي تورطت
فيها الولايات المتحدة، وتحرك بشكل ضاغط لتحقيق هيمنة الكيان الصهيوني في الشرق
الأوسط على خلفيات عقائدية .
لقد استهدف ترامب إعادة بناء أمريكا وفق قواعد بنائها القديمة أو الأُولى؛ حين كانت
في وضع انكفائي على نفسها حتى الحرب العالمية الأولى ولم تكن تحارب إلا لتحقيق
مصالحها المباشرة. وحاول إعادتها سيرتها الأولى على صعيد البناء المجتمعي دولةً
للبيض بأغلبية للبروتستانت، ومعهم هذه المرة الإنجيليون.
وهو ما عمَّق الصراع مع التيار العولمي، ووصل بالأمور حدَّ الصراع المفتوح إلى
الدرجة الجارية مشاهدُها منذ الانتخابات، والتي ستجري إعادة إنتاجها على نحو أعمق
وأخطر وأشد تفاعلاً في المستقبل.